المركز العربي للبحوث والدراسات : القصر والديوان الدور السياسي للقبيلة في اليمن (1-3) (طباعة)
القصر والديوان الدور السياسي للقبيلة في اليمن (1-3)
آخر تحديث: السبت 11/10/2014 10:49 ص د.أحمد موسى بدوي
القصر والديوان الدور

المشهد معقد في اليمن بلا شك، تتقاطع فيه: صراعات قبلية، وثقافية جهوية، ودينية طائفية، فضلا عن الصراعات الاقليمية والدولية التي تتخذ اليمن مسرحاً لها. وهو مشهد تتطور فيه الأحداث بشكل متسارع، وتختل فيه موازين القوى أكثر من مرة. آخر هذه الاختلالات، بروز الحوثيين كقوة، تتجاوز مستوى الدفاع عن هويتها، إلى مستوى فرض الهيمنة على الدولة اليمنية، ثم بدخول تنظيم القاعدة طرفاً مباشرا في الصراع الدائر بين الدولة والحوثيين. كل هذه المتغيرات، تدفعنا إلى العودة لفهم طبيعة العلاقة بين الدولة والقوى التقليدية في اليمن، من نقطة انطلاق سوسيولوجية، ومراجعة كتاب القصر والديوان، يمكن أن تكون نقطة ملائمة لفك طلاسم هذا المشهد المعقد.

        يقدم عادل مجاهد الشرجبي، بمعاونة فريق من الباحثين، دراسة هامة عن العلاقة بين الدولة (القصر) والقبيلة (الديوان) في المجتمع اليمني، يمكن من خلالها فهم المجال العام شديد التعقيد الذي تدور في إطاره الأحداث الراهنة في اليمن. اعتمدت الدراسة على مسح اجتماعي بالعينة (483 مفردة) طبق في ستة محافظات يمنية، بالإضافة إلى مقابلات بؤرية، وفردية معمقة. الدراسة بصفة عامة تزيل الكثير من اللبس والغموض الذي يكتنف هذه العلاقة، كما أنها تصحح أفكار عديدة موروثة من الكتابات الغربية حول اليمن. وسوف نكتفي في هذا المقال بمراجعة الفصلين الأول والثاني، نتبعه في مقال تال بمراجعة بقية فصول الدراسة الستة.

أن المجتمع القبلي، عرف المساواتية في صلب القبيلة القائم على القرابة، فلا توجد فروق مادية بين السادة والقضاة، والقبليين

أولا، البنية القبلية في اليمن:

        يتناول الفصل الأول بالتحليل البنية القبلية وتحولاتها التاريخية، مقدما دحضاً للأفكار المتداولة في التراث الغربي، التي تزعم أن القبيلة اليمنية بناء مستقل عن الدولة، وأنها تمثل تنظيمات مساواتية، وتنظيمات بدون رأس، ويثبت الشرجبي أن القبيلة اليمنية استطاعت أن تتعايش مع نظام الدولة المركزية القوية، ولكن حين يدب الضعف والتحلل، تعود القبيلة اليمنية لممارسة أدوارها في الفضاء السياسي، وتصبح العلاقة بينها وبين الدويلات أو الإمارات صراعية الطابع. ويتتبع الباحث التحولات حتى لحظة تاريخية هامة في تاريخ اليمن الحديث، وهي لحظة التوحد بين اليمن الجنوبي والشمالي (1990)، فالصراع الذي نشأ عقب الوحدة مباشرة، أدى فيما أدى، إلى سيطرة القوى المحافظة على الدولة اليمنية الموحدة، ومنذ ذلك الحين، تحولت العلاقة بين الدولة والقبيلة إلى علاقة تمصل وتحالف.

        لا تختلف البنية القبلية اليمنية عن البنى القبلية في بقية الوطن العربي، فهي بالمثل تنتظم في اتحاد قبلي، وقبيلة، وعشيرة، وبيت. لكل منها أدواره المخصوصة، ولا تعتمد هذه البنية على القرابة كأسس للاتحاد، فقد عرفت اليمن نظام المؤاخاة، حين تنسلخ قبيلة أو أكثر من اتحاد قبلي إلى آخر بازغ. وهذا يعني أن أساس تشكل الاتحاد القبلي هو "المولاة" وليس "القرابة". تبدأ المناصب العليا في البناء القبلي من شيخ مشايخ الاتحاد القبلي، ثم مشايخ الضمان، ثم المشايخ، ثم العقال، ثم الأمناء، وتختلف هذه التسميات في المناطق اليمنية، دون خلل في التراتب. وفيما مضى كان شيخ المشايخ يتم تنصيبه من خلال اختيار مشايخ الضمان، لشخص شيخ المشايخ، وارتضاء أفراد القبائل لهذا الاختيار، ولكن في العصر الحديث، صارت كافة المناصب القبيلة حكراً على بيوت محددة، وغالباً ما يرث الابن الأكبر منصب والده بعد وفاته.

        وقد عرفت اليمن منذ ظهور الإسلام أربعة اتحادات قبلية، هي: حمير، مذحج، كندة، وهمدان. تجمع همدان ينقسم إلى قبائل حاشد وبكيل، ويقطن المناطق الشمالية. وفي الشرق تسكن مذحج وقبائلها عنس، مراد، والحدا. أما قبائل حمير فقد سكنت الجنوب والوسط، وهذه الاتحادات لا تقر على حالها الذي كان في العصور الوسطى، فقد شهد العصر الحديث، اندماج اتحاد "مذحج" في اتحاد "بكيل"، وانضمت عدد من قبائل حمير إلى اتحاد "حاشد". وهذه الدينامية، ترجع لأن القبيلة اليمنية في ظل الغياب المستمر للدولة المركزية القوية، كانت تمثل تنظيماً حربياً، يضطلع بكافة المهام الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت تقوم بها الدولة. وبالتالي فإن انسلاخ وانضمام القبائل من وإلى الاتحادات القبلية، أمر يرتبط بمتغير القوة العسكرية في لحظة تاريخية معينة. وفي هذا السياق يصبح المحارب، هو الأعلى مكانة داخل القبيلة، كما يصبح البيت الذي يقدم بطولات مشهودة في الحروب، هو الأشرف بين بيوتات القبيلة. حتى أن كلمة "قبيلي" تستخدم في الدارجة اليمنية معنى الإنسان المقاتل.

        يذهب الشرجبي إلى البنية القبلية، ضمت إليها فئة اجتماعية أخرى، وهم أسرى الحروب الطويلة التي خاضتها القبيلة، ويسمون "أهل الخمس" وتوكل إليهم أعمال الخدمات، ويحتلون مكانة اجتماعية متدنية. وخارج هذه البنية توجد فئة اجتماعية أخرى من "أهل الذمة"، ولا يمثلون في ذواتهم تنظيما قبليا، ولكنهم يطلبون حماية الاتحاد القبلي في المنطقة التي يعيشون فيها، نظير دفع الجزية السنوية، ويلتزم الاتحاد بتأمينهم. وهذه الفئة تعمل في الحرف: صياغة الذهب والفضة، الحدادة، النجارة، والبناء،..الخ. ويخلص الباحث إلى أن المجتمع القبلي، عرف المساواتية في صلب القبيلة القائم على القرابة، فلا توجد فروق مادية بين السادة والقضاة، والقبليين. ولكنه في ذات الوقت نظام لا يمنح كافة الحقوق للقبائل الموالية بنظام المؤاخاة، فقبائل المؤاخاة تدفع اتاوات معلومة نظير الحماية ولا تشارك في الحروب، كما أنه نظام تمييزي اقصائي فيما يخص " أهل الخمس" و " أهل الذمة".(ص:21)

        ويلفت الشرجبي الانتباه، إلى أن تسوية النزاعات لا يتم بين أفراد، ولكنه يتم بين البيوت، تحت إشراف شيخ القبيلة، وبالتالي فإن المجتمع القبلي، طور نظاما مختلاً لتحقيق العدل، يقوم على التسوية وليس العقاب. وبسبب ذلك تدور رحى المواجهات الثأرية دون توقف، لأن النظام غير قادر على إنزال العقاب بمرتكبي الجرم. فأهل القتيل لا يرضون في كل الأحوال بالتسوية، ويقتصون لأنفسهم، ولا يتبع القصاص نظاما معينا، وإنما يكون القصاص من أي فرد من أفراد عشيرة القاتل. ما يؤدي إلى استمرار وتوسيع الظاهرة.(ص:23)

أن اليمن لم يعرف الدولة المركزية القوية طوال تاريخه الوسيط والحديث، إلا في فترات محدودة للغاية

ثانيا، الدولة والقبيلة في اليمن:

ينتقل الشرجبي في الفصل الثاني إلى تحليل العلاقة بين الدولة والقبيلة، منوهاً إلى أن اليمن لم يعرف الدولة المركزية القوية طوال تاريخه الوسيط والحديث، إلا في فترات محدودة للغاية، وأثناء هذه الفترات، كانت السلطة الفعلية في أيدي المشايخ، وعقال القرى والأمناء، واستطاعت القبيلة أن تتعايش مع السلطة المركزية، تعايش الجوار والمؤاخاة، فالمشايخ يقومون بجباية الضرائب وتسليمها إلى الدولة، نيابة عن شعب القبيلة، دون أن يكونوا ممثلين لهذه الدولة ودون تقاضي رواتب منها. وقد شهد التاريخ أن القبائل اليمنية دائما ما تكون أول القبائل خروجا على السلطة المركزية الإقليمية، ففي أوج الخلافة العباسية، كانت الأمارات القبلية في اليمن تزيد على إحدى عشر إمارة، لكل منها عاصمة. وفي العصر العثماني، لم تفلح السياسة المركزية التركية في بسط هيمنتها على اليمن، واضطرت إلى تغيير سياستها في الجباية وفرض النظام، وذلك بالاستعانة بقوة " الجندرمة" من أبناء القبائل.

ومع الوقت، وبمقتضى العلاقة التعايشية، ولد في بواكير القرن العشرين، نظام لاقتسام السلطة  عرف بنظام الهجرة، وبموجبه تكون السلطة في البلدات الحضرية للدولة، والسلطة في الريف والبادية للقبيلة. بحيث تكون الهجرة "المدينة" غير خاضعة للأعراف القبلية، ومحظور أخذ الثأر داخلها. ولكنه كان نظاما هشاً، لا يطبق غالباً إلا في صنعاء. ولا تلتزم به كافة القبائل. وفي بداية الخمسينيات من القرن العشرين، وبفعل القوى الاستعمارية، ظهرت مسألة شمال اليمن وجنوبه، ثم تتحول إلى مشروع سياسي وتنشأ دولتين: الجنوبية تتلمس تحديث المجتمع من خلال القضاء على النعرات والعصبيات القبلية، في حين تسعى الشمالية إلى  التحديث لكن من خلال إعادة تشكيل العلاقة التقليدية بين القبيلة والدولة. وعبر سنوات من التوتر والصراع السياسي، لم تنجح دولة الشمال من تخفيف الهيمنة القبلية.

 وبعد الوحدة في عام 1990. لم تتمكن الدولة الجديدة من استدماج الاستراتيجية التنموية الاشتراكية، وتم نقض الاتفاق القاضي بوجود فترة انتقالية للتحول الديمقراطي، الذي لم يحدث، فكان أن تغيرت موازين القوى لصالح الكوادر الشمالية، المدعومة صراحة بالقوة القبلية خلال الحرب الدائر بين الشمال والجنوب، في شهري مايو ويونيه من عام 1994، وتتحول الدولة بتعبير الشرجبي "إلى دولة مسخ نصفها دولة ونصفها الآخر قبيلة، يقوم نظامها السياسي على تزاوج بين مؤسسات سياسية حديثة، ومنظومة قبلية تقليدية".(ص:44)     

  ويذهب الشرجبي في نهاية الفصل إلى أن العلاقة بين القبيلة وسلطة النظام، أصبحت علاقة تكاملية تنتقص من كيان الدولة الحديثة، بمقتضاه تتنازل السلطة المركزية عن جزء من اختصاصاتها للقبيلة، ويتحول المشايخ إلى ممثلين للدولة، وتجري عليهم الدولة الرواتب لمساعدتهم على أداء هذه الاختصاصات، وتمكينهم من السيطرة على المجلس التشريعي، وتتحول آلة الدولة الموجودة في كل مكان إلى آلة دون فعالية، فالقبيلة هي التي تتولى إدارة الأمور في المناطق التابعة لها. لقد حدث تواطؤ بين المشايخ والنخبة الحاكمة، فاستمرار النخبة في السلطة مرهون باستخدام قوة القبائل، واستمرار مشايخ القبائل في السيطرة والحصول على المنافع، مرهون بإقرار السلطة المركزية. هذا الأمر أضعف القبيلة والدولة معاً، فمن ناحية الدولة أدى إلى فشلها التام في تحصيل انجاز تنموي، ومن ناحية القبيلة، اختفت العلاقات المساواتية التاريخية، لتظهر علاقات تمييزية بين العشائر الموالية للشيخ وتلك المنافسة له. ويرى الشرجبي إلى أن التمفصل بين الشيوخ والنخب، أدى في نهاية الأمر إلى خضوع المواطن اليمني لقمع مركب، قمع اجتماعي تمارسه عليه النخب القبلية، وقمع سياسي يمارسه عليه النظام.(ص:46)

 مهمة هذه الدراسة، في فهم المشهد اليمني المعقد، وفي المقال التالي، نعود لمراجعة بقية فصول الدراسة، ثم نحاول توظيف المعرفة المكتسبة من هذه الدراسة في فهم المشهد اليمني الراهن.

المراجع:

عادل مجاهد الشرجبي. 2009. القصر والديوان الدور السياسي للقبيلة في اليمن. صنعاء. المرصد اليمني لحقوق الإنسان.