المركز العربي للبحوث والدراسات : المختبر السياسي: مستقبل النظام السياسي في تونس (طباعة)
المختبر السياسي: مستقبل النظام السياسي في تونس
آخر تحديث: الخميس 30/10/2014 10:56 ص إبراهيم نوار
 المختبر السياسي:

هل عادت الديمقراطية التونسية إلى المربع رقم 1 حيث الاستقطاب السياسي، بين النظام القديم من ناحية والإسلاميين من الناحية المقابلة؟ أم أن تونس خطت بعد ثورة الياسمين خطوة إلى الأمام في اتجاه تأسيس دولة ديمقراطية حديثة، تقوم على  التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وسيادة القانون وشيوع الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان والتنمية القائمة على الكفاءة في إدارة الموارد والعدالة في توزيع العائدات والأعباء؟

 في الحقيقة تبدو الصورة بشكل عام "مبشرة" في البلد الذي يعد بمثابة "المختبر السياسي" الذي تجري فيه التجارب المعملية للتغيير السياسي في العالم العربي في عصر ما بعد الحرب العالمية الباردة، وإعادة تشكيل المكونات السياسية على المستويين المحلي والإقليمي. أما لماذا أن هذا الوضع في تونس مبشر، فإن الإجابة ببساطة تتلخص في أن التفاعلات السياسية انتقلت من كونها "تفاعلات صراعية" في فترة ثورة الياسمين وما بعدها، جرى خلالها اغتيال أو محاولات اغتيال عدد من رموز وقيادات الحركات والأحزاب السياسية، منهم قائد العمال الاشتراكي شكري بلعيد الذي تم اغتياله أمام منزله، في ذروة التفاعلات الصراعية في تونس، وتحولت إلى تفاعلات "تنافسية سلمية"، ترجح "قبول الآخر" وتميل إلى "المبارزة السياسية" من خلال نظام يقوم على التعددية الحزبية غير المشروطة وغير المقيدة بنصوص دستورية أو قانونية تستبعد المشاركة السياسية لتيار من التيارات أو تحظر عمله. هذا وضع مبشر بلا شك.

لكن دعونا قبل أن نصدر الأحكام ونعلن الاستنتاجات نحاول النظر إلى الصورة من جوانبها المختلفة أو على الأصح من بعض هذه الجوانب:

ساعد فشل الإسلاميين ورعونتهم السياسية في فتح الطريق أمام القوى التقليدية للاصطفاف من جديد، بعد أن أدركوا ضعف القوى المدنية، وعجزها عن أن تقدم بديلا سياسيا مقبولا

أولا: الاصطفاف السياسي لقوى الدولة القديمة

استطاع السياسي التونسي المخضرم الباجي قائد السبسي أن يشكل تحالفا سياسيا- انتخابيا فضفاضا يسمح لكل القوى القديمة التي كانت تناصر نظام "الدولة القومية" التي نشأت بعد الاستقلال في تونس (حقبتي بورقيبة وبن علي) أن تمارس العمل السياسي جنبا إلى جنب بعيدا عن الحساسيات التي أثارتها ثورة الياسمين التونسية. لقد ساعد فشل الإسلاميين ورعونتهم السياسية في فتح الطريق أمام هؤلاء للاصطفاف من جديد، خصوصا بعد أن أدركوا ضعف القوى المدنية من تيار اليسار ومن التيار الليبرالي، وعجزها عن أن تقدم بديلا سياسيا مقبولا لدى الناخبين التونسيين يحل محل الإسلاميين أو ينافسهم بقوة. بمعنى آخر وبتعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل فإن الباجي قائد السبسي كان بمثابة "القائد الضرورة" لدفع ميزان القوى السياسي في تونس إلى التوازن، ولإنقاذ هذا البلد من السقوط في هاوية الصراعات الممتدة ذات الأثر السلبي على الجميع، بما في ذلك القوى السياسية المتصارعة والمواطنين وتونس كلها بشكل عام.

 وهذا يعني أن مؤشر القطب النقيض لتيار الإسلام السياسي في تونس عاد مرة في اتجاه قوة "الدولة القومية" بمعناها العام الموروث من حقبة الإستقلال، لكن مخصوما منها أدوات الاستبداد السياسي، وعلى الأخص قوة الأجهزة الأمنية التي لعبت دورا كبيرا في الحياة السياسية في تونس  خصوصا في أيام زين العابدين بن علي. إن محاولة خلق "قوة ثالثة" لم تنجح خلال السنوات الماضية، لكن هذا لا يعني إطلاقا فشل مثل هذه المحاولات للأبد، فسوف تعود قوى التيار المدني مرة تلو المرة إلى محاولة تأسيس هذه القوة الثالثة، وإثبات مصداقيتها وقدرتها على أن تكون "فاعلا" في الأحداث، بل وربما أن تصبح خلال سنوات قليلة مقبلة إلى "قوة فاعلة رئيسية" تستطيع أن تترك بصمتها على الحياة السياسية في تونس، وأن تثبت أن بعضا من هؤلاء الذين تمتعوا خلال حكم بن علي بأصوات عالية خارج تونس، في فرنسا على وجه الخصوص، يمكن أن يكون لهم أيضا صوت عال داخل تونس نفسها.

 وأظن أن خريطة توزيع الأصوات في البرلمان التونسي الجديد، وعدم حصول أي من الحزبين الكبيرين "نداء تونس" و "النهضة" على أغلبية مقاعد البرلمان، ربما تعطي الأحزاب الصغيرة ذات التمثيل البرلماني الضعيف، وعدد كبير منها أحزاب يسارية وليبرالية، صوتا مهما في البرلمان، لحاجة كل من الحزبين ذي التمثيل الأكبر في البرلمان، نداء تونس والنهضة، إلى أصوات ممثليهم في المعارك السياسية الكبرى داخل البرلمان. الباجي قائد السبسي، الذي يستعد لإعلان ترشحه لرئاسة الدولة، سيحتاج إليهم حزبه في الحصول على التصويت بالثقة للحكومة التي سيؤلفها، وسيحتاج إليهم كذلك في المعارك التشريعية المهمة للحصول على أكثرية الأصوات اللازمة لتمرير القوانين. ومن المعروف أن عدم ضمان أي من الحزبين الكبيرين، نداء تونس أو النهضة، على الحصول على تأييد البرلمان بنسبة 50% + 1 يمكن أن يؤدي إلى إضعاف نفوذه داخل البرلمان، إذا لم يحصل على تأييد أحزاب صغيرة.

 لكن (نداء تونس) سيكون الأكثر احتياجا إلى أصوات الأحزاب الصغيرة، ومنها الأحزاب اليسارية والليبرالية مقارنة بحزب (النهضة)، وذلك للمحافظة على تماسك قدراته في الحكم في حال تشكيل حكومة بقيادة نداء تونس تستبعد النهضة تماما من الحكم وتدفع به إلى مقاعد المعارضة. وحتى في هذه الحالة فإن حزب النهضة سيكون قادرا على تشكيل معارضة قوية داخل البرلمان وخارجه، مما سيزيد حاجة (نداء تونس) إلى الأحزاب الصغيرة. وإذا استطاعت الأحزاب اليسارية والليبرالية استثمار حاجة (نداء تونس) إليها، وعملت على تعزيز قواعدها الانتخابية، وتحولت من حركات تحريضية احتجاجية إلى أحزاب سياسية قادرة على المنافسة السياسية في البرلمان والبلديات، فإنها ربما تفاجئ نفسها في الانتخابات البرلمانية التونسية المقبلة بمفاجآت لا تتوقعها.

إن قبول حزب النهضة بنتيجة الانتخابات ربما يساعد على إزاحة المخاوف الشديدة، من أن يؤدي وصول الإسلاميين للسلطة إلى نشوء "ديكتاتوريات ذات طابع ديني

ثانيا: قبول الإسلاميين للتعددية السياسية

أظن أن واحدة من أهم نتائج الانتخابات البرلمانية التونسية، بل إن أهم هذه النتائج على الإطلاق، هي قبول زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي لنتيجة الانتخابات البرلمانية. وقف راشد الغنوشي بعد إعلان نتيجة الانتخابات، ليعلن بجرأة وبثقة شديدتين قبول حزبه بالهزيمة في الانتخابات. لقد تجنب الغنوشي الوقوع في مصيدة "الصبيانية السياسية" ليدفع بتزوير الإنتخابات ومحاولة إثارة الرأي العام ضد نتيجة الانتخابات التي منحت خصومه فوزا "محدودا" عليه. ولم يحشد الغنوشي أو يهدد بحشد أنصاره لمنع إزاحة حزبه من سدة الحكم، وهو إن كان قد فعل ذلك لكانت تلك بداية النهاية لكل أحزاب التيار الإسلامي في العالم العربي، خصوصا بعد  التجربة المهينة والرديئة التي استعرضها الإخوان المسلمون في الحكم في مصر في السنة الممتدة من يونيو 2012 إلى يونيو 2013. وقال الغنوشي إنه استفاد من التجربة المصرية، وإنه لم يشأ أن يقع في الأخطاء نفسها التي وقع فيها الإخوان في مصر، وأظنه صادقا فيما قال، وأظنه فوق ذلك قد استمع بعناية لـ "نصيحة" آخرين.

 إن واحدا من مقومات الخلل الهيكلية في فكر الإسلام السياسي، هو تجاهل حقائق العصر فيما يتعلق بمنطومة القيم السياسية التي تحكم العالم في القرن الواحد والعشرين. وقد اعتقد كثيرون من قيادات الأحزاب الإسلامية، وأظنهم لا يزالون على اعتقادهم، أنهم إن جاءوا إلى السلطة وبأي طريقة كانت، فلا مجال لانتزاعهم من فوق كراسي الحكم بأي طريقة كانت! حماس في فلسطين تدلل على ذلك، وحزب الدعوة في العراق يقدم مثالا آخر. وفي اعتقادي أن البيان الذي ألقاه راشد الغنوشي عقب إعلان نتيجة الانتخابات في تونس يمثل تحولا تاريخيا في الفكر السياسي لحزب النهضة، لكنني أعتقد أيضا وبالقدر نفسه أن انتقال هذا التحول إلى غير (النهضة) من الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في العالم العربي، ربما سيحتاج إلى فترة من الوقت لكي يتجذر ويجد لنفسه طريقا رئيسيا في نهر العمل السياسي ذي المرجعية الإسلامية.

 إن قبول حزب النهضة بنتيجة الانتخابات ربما يساعد على إزاحة المخاوف الشديدة، من أن يؤدي وصول الإسلاميين للسلطة إلى نشوء "ديكتاتوريات ذات طابع ديني"، وهي المخاوف التي كانت قد تأصلت على أرضية الممارسة الحقيقية في مصر. فالاعتقاد السائد لدى قيادة الإخوان في مصر، أن اللـه سبحانه وتعالى هو الذي اختارهم لحكم مصر، وأنه هيأ الأسباب لذلك، وما الانتخابات إلا سبب من هذه الأسباب. وهكذا أيضا يعتقد حزب الدعوة الإسلامية في العراق! وعلى أساس هذا الاعتقاد السياسي الخرافي فقد ظن الإخوان أنهم سيحكمون مصر لمدة 500 سنة على الأقل!

وقد ترى أنت أن هذا اعتقاد خارق في حماقته وخطئه، لكنهم لا يشاركونك الرأي في ذلك، لأن عقيدتهم السياسية، ولا شأن للدين الإسلامي في ذلك، تقوم على مبدأ "أستاذية العالم" وضرورة العمل على فرض تلك "الأستاذية" ولو بالقوة! وهذا "كعب أخيل" الذي سيظل يؤلمهم وينزف ويهدد حياتهم. فإذا تمت إزاحة هذا الخوف، فإن أحدا بل وأهم مبررات استبعاد الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية من الحياة السياسية سيسقط، ويفتح الباب أمامهم للمشاركة السياسية على أسس متساوية مع الآخرين، والاعتراف بسيادة مبدأ "المنافسة السياسية السلمية" على مبدأ "الصراعات العدائية" التي تقوم على نفي الآخر ومحاولة نفيه باستمرار.

 

ثالثا: ضعف تاثير الإرهاب الإسلامي على السياسة التونسية

تمت الانتخابات البرلمانية التونسية وسط حالة من "الهيستريا السياسية" العالمية ضد الإرهاب ذي المرجعية الإسلامية. ومع ذلك فإن المذابح التي يرتكبها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ضد المواطنين الأبرياء العرب والأكراد واليزيديين وغيرهم، وحرب التحالف الدولي ضد داعش، والحملات الإعلامية القوية ضد "التطرف الإسلامي" لم تترك أثرا سلبيا كبيرا على الوزن الانتخابي لحزب النهضة في تونس، على الرغم من أن الحزب فقد ما يقترب من 25% من قوته البرلمانية في الانتخابات الأخيرة مقارنة بالانتخابات السابقة. وأظن أن هذه الخسارة ربما كانت لها علاقة مباشرة بشخصيات المرشحين في الدوائر الخاسرة وبطريقة "النهضة" في إدارة الدولة خلال السنتين الماضيتين، أكثر مما لها من علاقة بالآثار السلبية التي تركها الإرهاب الإسلامي. والحقيقة أن حزب النهضة حاول دائما أن ينأى بنفسه عن العنف، خصوصا في الأشهر الأخيرة وترك هذا الدور للسلفيين الجهاديين، كما حاول أن يبدي مواقف واضحة ضد حالة انهيار الدولة على حدوده الشرقية في ليبيا، ولم يتورط في النزاعات المسلحة هناك.

 وفي المقابل فإن الإدانة العربية  والعالمية للإرهاب، والمشاعر الشعبية القاسية ضد (داعش) ورفاقها في بعض البلدان العربية، لم تصب إيجابا بالقدر نفسه في قدور حزب (نداء تونس) وتمثيله البرلماني. فكأننا إذن أمام انتخابات تحكمت فيها عوامل محلية بالأساس. وربما لم تستطع ماكينة الدعاية التابعة للباجي قائد السبسي من توظيف العوامل الخارجية لصالحها إلى أقصى حد ممكن. لكن حتى لو حدث ذلك فإن النجاح فيه كان سيتوقف على طبيعة المزاج العام للناخبين، وما إذا كان هذا المزاج يسمح بإعطاء وزن كبير للعوامل الخارجية أم لا. باختصار فإن الحرب على (داعش) ربما تكون قد تركت أثرا ضئيلا على الإنتخابات التونسية، لكن هذا الأثر لم يكن ذا وزن مؤثر في النتائج النهائية للانتخابات.

أن نتيجة الانتخابات في تونس تشير إلى "نضج كامل" لثورات الربيع العربي، ولها القدرة على "تجديد نفسها"، وعلى اكتساب سمات جديدة من أجل إقامة مجتمع ديمقراطي حديث

رابعا: استمرار سعي تجارب "الربيع العربي" إلى النضج

لن تنجح محاولات إجهاض الربيع العربي، ولن تنجح محاولات اغتيال ثوراته. هذه واحدة من النتائج الكبرى التي تعلنها الانتخابات التونسية. ولا يعني ذلك أن نتيجة الانتخابات في تونس تشير إلى "نضج كامل" لثورات الربيع العربي، ولكنها مع ذلك تشير إلى أن هذه الثورات عصية على الاغتيال وأقوى من محاولات الإجهاض، وإنها سوف تستمر. وكما أن الدعاية السوداء ضد الثورة في تونس لم تنجح فإن هذه المحاولات ستخسر أيضا في بقية بلدان الربيع العربي، وهي في معظمها، خصوصا في مصر وليبيا واليمن، كانت أعلاما رائدة في سماء ما يسمى بالدولة "القومية" بعد الاستقلال. ونشير هنا إلى ملاحظة ترتبط بطبيعة "نضج" ثورات الربيع العربي، وهي أن سمات التجربة في بلد ربما ستختلف من حيث الشكل والمسار عن سماتها في بلد آخر. ولنا في تجربة تونس الدليل على ذلك. البعض سيقول لا..لا هذه تونس فقط، وقد قالوها من قبل يوم أن انفجرت الثورة الشعبية في تونس وتمخضت عن إزاحة زين العابدين بن علي، ثم امتدت بعد ذلك لتسحق حسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد اللـه صالح.

  وتثبت التجربة التونسية أن ثورات الربيع العربي لها القدرة على "تجديد نفسها"، وعلى اكتساب سمات جديدة، وكذلك على تبني آليات جديدة للعمل السياسي، لمواصلة الطريق من أجل إقامة مجتمع ديمقراطي حديث، يستقر على مبادئ وقواعد الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة وترسيخ ممارسة الحريات العامة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والتنمية المستدامة على أسس الكفاءة في استخدام الموارد والعدالة في توزيع العائدات والأعباء.

إن "الدولة القومية" التي نشأت في العالم العربي بعد الاستقلال قد فقدت مبررات وجودها، بسبب الاستبداد والفساد والاستئثار بالسلطة والثروة في نطاق جماعة ضيقة من "المريدين المنتفعين" المتحلقين حول الرئيس، أي رئيس، وعائلته، وإخفاق هذه الدولة في تحقيق مهام بناء الإستقلال القائم على حقوق حرية الاختيار السياسي والتنمية العادلة وسيادة القانون. وانتهى الأمر بهذه الدولة بالفشل، حتى صنفت معظمها إن لم تكن كلها في خانة "الدول الفاشلة" على المستوى العالمي.

وكان انفجار ثورات الربيع العربي في حقيقته العميقة هو إعلان بسقوط هذه الدولة التي أدت في نهاية الأمر إلى تكريس الاستبداد بينما كانت ترفع رايات الحرية، وإلى تفتيت وتمزيق العالم العربي، بينما كانت ترفع شعار "الوحدة"، وأدت إلى تكريس ظاهرة "التخلف والفقر" بينما كانت ترفع شعارات "التنمية"، وساعدت على إشاعة الظلم في كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بينما كانت ترفع رايات "العدالة" وتلوح بها في كل مكان!

 وبقدر ما كانت "ثورات الربيع العربي" إعلانا بنهاية الدولة القومية، كما عرفناها بعد الاستقلال وإنهاء الاستعمار، بقدر ما تمثل تجربة الانتخابات البرلمانية التونسية بيانا عمليا لإمكان التعايش على أسس المنافسة السياسية بين أحزاب ذات مرجعيات مدنية وأحزاب ذات مرجعية دينية. لكنه تعايش يجب أن يسمو من مجرد المنافسة للوصول إلى السلطة، إلى تعايش وتنافس من أجل إقامة دولة جديدة، تعي حقائق العصر وتحترم حرية الاختيار الفردي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وبمعنى آخر، فن ساحة المنافسة يجب أن تستهدف السعي إلى إقامة دولة جديدة تتجاوز الآفاق "المسدودة" للدولة القومية المنهارة التي فقدت مبررات وجودها.

 

خامسا: استنتاجات نهائية

نستطيع القول بأن تجربة الانتخابات البرلمانية التونسية في أكتوبر 2014 ونتائجها هي تجربة إيجابية بكل المقاييس، وتدعونا إلى إعادة دراسة طبيعة وديناميكيات عمل الثورة في كل بلد. ومن الضروري ألا نتوقف عند حد في دراسة "ثورات الربيع العربي"، وألا نتخذ منها موقفا مسبقا، وأن نحاول استخلاص الدروس من كل تجربة وفي كل مرحلة من مراحلها. ومن الدروس التي يمكن استخلاصها من تجربة الانتخابات التونسية ما يلي:

-         إن الانتخابات البرلمانية التونسية في أكتوبر 2014 وضعت أسسا وسابقة مهمة لبناء نظام سياسي تعددي في الدول العربية، يتم فيه تداول السلطة سلميا، ومن ثم إمكان تحول التفاعلات السياسية من النمط "الصراعي العدائي" إلى النمط "السياسي التنافسي" الذي يقوم على الاعتراف بالآخر وليس إقصاؤه.

-         ترسيخ فكرة "احتواء" أحزاب سياسية ذات مرجعية إسلامية في النظام السياسي العربي الجديد، واستبعاد مفهوم "الإقصاء"، باستثناء ما ينطبق على الأحزاب المتطرفة التي تنتهج العنف طريقا لها. وفي ظني أن مفهوم ومضمون "المرجعية الإسلامية" سيتغيران عبر الزمن والممارسة إلى ما قد يقترب بشكل من الأشكال من مضمون "المرجعية المسيحية" للأحزاب "المسيحية الديمقراطية" في أوربا، وهي أسرة كبيرة من الأحزاب السياسية الأوربية التي أصبحت لا تختلف في جوهرها عن الأحزاب المدنية، من حيث احترام قواعد وقوانين "اللعبة السياسية".

-         تأكيد أسبقية الانتخابات البرلمانية والعمل السياسي على الأنشطة التحريضية والاحتجاجية كوسيلة لكسب النفوذ السياسي. وهذا درس يجب أن تتعلمه الأحزاب اليسارية على وجه الخصوص. وأظن أن قلة حيلة تلك الأحزاب، وضعف نفوذها في العالم العربي عموما يعودان بصورة أساسية إلى اعتمادها على "العمل التحريضي والاحتجاجي" أساسا، وضعف عملها السياسي بما في ذلك محاولات بناء قوة تصويتية في الإنتخابات البرلمانية والبلدية. إن هذه الأحزاب تعمل في حقيقة الأمر وكأنها "حركات احتجاجية" وليس أبدا كأحزاب سياسية، وذلك على عكس حال الأحزاب اليسارية في أمريكا اللاتينية التي كانت البديل السياسي الموضوعي والعملي للديكتاتوريات العسكرية في تلك البلدان خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي، وكذلك الأحزاب اليسارية في اليونان وإسبانيا والبرتغال خلال مرحلة التحول الديمقراطي في تلك البلدان في منتصف سبعينيات القرن الماضي.

-         نتيجة الانتخابات تمنح الأحزاب اليسارية والليبرالية رخصة جديدة للحياة، ولا تنهي وجودها إلى الأبد، ذلك أن هذه الأحزاب تستطيع من خلال الحصول على تنازلات سياسية من حلفاء يكبرونها حجما ونفوذا في إطار المساومات البرلمانية، ربما تصبح في وضع يمكنها من تعويض بعض ما فاتها بسبب القيود الشديدة والملاحقات الأمنية، التي كانت مفروضة عليها خصوصا خلال فترة حكم زين العابدين بن علي. إن هذه الأحزاب يجب أن تعلم أن خسارات متتالية قد تدفعها إلى الفناء. وليس من المستحيل حدوث شيء من هذا القبيل، حتى يتمكن التونسيون من إفراز نخبة تونسية جديدة وأكثر طهارة وفاعلية سياسيا، تحل محل النخبة الحالية العاجزة عن مد جذور لها في الحياة السياسية الحقيقة ومراكز صنع القرار، وتكتفي في أغلب الأحوال بالنحيب والعويل والشكوى مما تلاقيه من تضييق وتعنت، وكأنما السياسة هي طريق مفروش بالحرير يتعين على الآخرين أن يمهدوه لهم، وأن يحملوهم على أكتافهم إلى مقاعد صنع القرار!

-         وأخيرا فإن نتائج الانتخابات التونسية تشير إلى أن العوامل المحلية وليس الخارجية هي التي حكمت توجهات التصويت لدى الناخبين، وكان تأثير العوامل الخارجية طفيفا جدا في اختيارات الناخبين لممثليهم في برلمان الثورة.

 باختصار، ثورات الربيع العربي مستمرة، وتؤكد قدرتها على تجديد نفسها، وليس هناك مجال لإعادة إنتاج الفشل الذي ثارت عليه الشعوب العربية ضد النظم المستبدة الفاسدة السابقة. الانتخابات التونسية الأخيرة تذكركم جميعا أنه كانت هناك ثورة، وإن هذه الثورة تكبر وتنضج.