المركز العربي للبحوث والدراسات : تأثير التقارب الأمريكي – الإيراني على منطقة الخليج العربي (طباعة)
تأثير التقارب الأمريكي – الإيراني على منطقة الخليج العربي
آخر تحديث: الثلاثاء 31/12/2013 12:16 م بقلم: د. محمد السعيد إدريس
تأثير التقارب الأمريكي
- مؤشرات التقارب وأسبابه:
قبل أن تتكشف حقيقة "قناة التفاوض السرية" التي وفرتها ورعتها سلطنة عمان للولايات المتحدة وإيران منذ مارس 2013، أي قبل خمسة أشهر من تسلم الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني مهامه الرئاسية، كان يمكن وصف ما أخذ يتكشف ويتسرب من معلومات عن اتصالات أو تفاهمات أمريكية – إيرانية عقب مباشرة الدكتور حسن روحاني لمسئولياته كرئيس لإيران أنها مجرد "نوايا حسنة" لتفاهمات سواء كانت تتركز على الأزمة المثارة حول برنامج إيران النووي أو كانت أوسع من ذلك، وتمتد لعدد من القضايا الإقليمية الساخنة، وفي مقدمتها بالطبع الأزمة السورية.
لكن تكشف حقيقة تلك القناة السرية للتفاوض حقيقة مهمة، وهي أن الحرص الأمريكي على التفاهم مع إيران له دوافعه التي لا ترتبط بوصول رئيس معتدل إلى السلطة في إيران، فاللقاءات المشتركة التي رعتها سلطنة عمان منذ مارس الماضي، وشارك فيها من الجانب الأمريكي ويليام بيرنز نائب وزير الخارجية الأمريكي، وجيك سوليفان المستشار الرئيسي بالخارجية الأمريكية سبقت فوز روحاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وجرت وقت أن كان الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد- الذي يوصف بالتشدد- على رأس السلطة.
وسواء كانت تلك المفاوضات السرية الأمريكية – الإيرانية قد جرت بعلم أو بدون علم أحمدي نجاد، فهي حتمًا تمت بعلم المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، وبعلم الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ومن ثم فنحن أمام توجه حقيقي نحو التفاهم المشترك.
هذا التفاهم تدعم بوصول حسن روحاني للحكم كرئيس يوصف بالاعتدال، ويعتبر محسوبًا على جماعة الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، ولعل ذلك ما شجع الرئيس الأمريكي باراك أوباما على تهنئة روحاني بفوزه في الانتخابات، وشجع روحاني على الذهاب إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهناك حدث ما وصفه البعض بـ"اختراق إيراني غير مسبوق" للعقل الغربي الأمريكي والأوروبي استطاع تحقيقه حسن روحاني ووزير خارجيته "البارع" محمد جواد ظريف، الذي سبق أن أمضى ما يقرب من عشرين عامًا بالولايات المتحدة ضمن البعثة الدبلوماسية الإيرانية في نيويورك.
خطاب روحاني أمام الجمعية العامة ومؤتمره الصحفي ولقاءات ظريف مع وزير الخارجية الأمريكي ووزراء خارجية "مجموعة دول 5+1" (الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وألمانيا) ثم الاتصال التليفوني الذي أجراه الرئيس الأمريكي مع الرئيس الإيراني قبيل مغادرة الأخير مطار نيويورك عائدًا إلى بلاده بعد أن اعتذر روحاني عن المشاركة في "لقاء عابر" مع الرئيس الأمريكي، كل هذا كان له تأثيره في تيسير نجاح نوايا التفاهم الأمريكي – الإيراني، والارتقاء بها إلى تقارب بين البلدين تأكد في التوصل يوم 24 نوفمبر 2013 إلى اتفاق مرحلي مدته ستة أشهر، بخصوص البرنامج النووي الإيراني، وهو الاتفاق الذي أُقِرّ، ولو ضمنيا، بحق إيران في تخصيب اليورانيوم، وهو الحق الذي ناضلت إيران لسنوات طويلة للتمكن من امتلاكه، والذي كافحت إسرائيل لسنوات طويلة أيضا لحرمانها من هذا الحق.
لقد خاض البلدان: إيران وإسرائيل (مدعومة بالولايات المتحدة والدول الأوروبية الصديقة) حربًا حقيقية حول تمكين أو عدم تمكين إيران من امتلاك برنامج نووي يشمل حق التخصيب، وجاء توقيع الاتفاق المرحلي الذي يعرف بـ"اتفاق جنيف" حول البرنامج النووي الإيراني، ليؤكد فوز إيران في هذه الحرب، لكن ما هو أهم بهذا الخصوص هو أن هذا الفوز جاء بدعم أمريكي أكده المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتيناهو في واشنطن (30/9/2013) الماضي، بعد يومين فقط من إلقاء الرئيس الإيراني حسن روحاني خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقبيل يوم واحد من توجه نتنياهو إلى نيويورك لإلقاء خطابه هو الآخر.
كانت توقعات المراقبين تقول إن مهمة نتنياهو في واشنطن ولقائه مع الرئيس أوباما هدفها يتلخص في محاولة "صب الماء البارد على حماسة الإدارة الأمريكية والغرب عمومًا للتعاون مع الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني"، كما أنها تستهدف حسب وصف خبراء إسرائيليين، مجرد محاولة "تخريب للحفل الدولي المحتفي بتراجع احتمالات الحل العسكري، وزيادة فرص التسوية السلمية لأزمة البرنامج النووي الإيراني، وكل ما استطاع نتنياهو تحقيقه في هذا اللقاء هو ما ورد على لسان الرئيس الأمريكي في مؤتمره الصحفي المشترك مع نتنياهو مساء 30 سبتمبر الفائت، من أنه سيكون "حذرًا في مباحثاته مع طهران" وقوله: إن "كلمات إيران ليست كافية، ويجب أن تعطي المجتمع الدولي الثقة من خلال الأفعال"، مشيرًا إلى أنه "متفق مع نتنياهو على ضرورة ألا تمتلك طهران سلاحًا نوويًّا"، لكنه شدد على أن واشنطن "تدخل المفاوضات مع طهران بنية صادقة، وستتشاور عن كثب مع إسرائيل"، وأنه "لا يستبعد أي خيار، بما في ذلك الخيار العسكري" في ما يتعلق بإيران وبرنامجها النووي.
الواضح من كلام أوباما أنه بقدر ما حاول طمأنة نتنياهو من آفاق ما هو قادم من تطورات على صعيد العلاقات الأمريكية - الإيرانية بقدر ما كان حريصًا أيضًا على تأكيد جدية التحول في الموقف الأمريكي، وهذا ما ظهر في قوله "إن واشنطن تدخل المفاوضات مع إيران بنية صادقة"، وقوله إنه متفق مع إسرائيل في ضرورة "ألا تمتلك إيران سلاحًا نوويًا"، وهنا بالتحديد جوهر الخلاف الحقيقي الأمريكي – الإسرائيلي، فقول أوباما إنه ضد امتلاك إيران سلاحًا نوويا، يعني أنه يجعل "خطة الأحمر" في العلاقة مع إيران، متمركزًا حول الامتلاك الإيراني للأسلحة النووية، وما دون امتلاك هذا السلاح من قدرات علمية وتكنولوجية نووية إيرانية تقع خارج "الخط الأحمر".
هذا الحد الفاصل بين ما هو خط أحمر وما هو خط أخضر أمريكي بالنسبة للبرنامج النووي الإيراني سوف يتحول إلى خلاف جوهري إسرائيلي – أمريكي من الآن فصاعدًا؛ لأن هذا الحد الفاصل هو أهم ما تريده وما تسعى إليه إيران على قاعدة التمييز بين مسعاها لتكون دولة نووية، وتأكيدها المطلق لرفضها أن تسعى لامتلاك سلاح نووي، وهذا يعيدنا إلى أجواء مفاوضات إعداد معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية عام 1968.
فخلال تلك المفاوضات اقترحت الهند الفصل بين مفهوم (دولة نووية حائزة للسلاح النووي) ومفهوم (دولة نووية غير حائزة للسلاح النووي)، واعتمدت المعاهدة المصطلحان، وكان السبب في تقدم الهند بهذا الاقتراح هو أنها كانت وقتها دولة نووية، ولكنها لم تكن حائزة بعد للسلاح النووي، وكان هدف الهند ألا تكون أو ألا تأتي معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية كعائق يمنع حق استخدام التكنولوجية النووية للأغراض السلمية.
فقد أقرت المعاهدة في ديباجتها فقرة تقول: "وإذ تؤكد المبدأ القاضي بأن تتاح للأغراض السلمية لجميع الدول النووية أو الدول غير الحائزة للأسلحة النووية فوائد التطبيقات السلمية للتقنية النووية"، كما أعادت التأكيد على ذلك في المادة الرابعة التي نصت على:
أ- "يحظر تفسير أي حكم من أحكام هذه المعاهدة بما يفيد إخلاله بالحقوق غير القابلة للتصرف التي تمتلكها جميع الدول الأطراف في المعاهدة في إنماء بحث وإنتاج واستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية دون أي تمييز، ووفقًا للمادتين الأولى والثانية من هذه المعاهدة".
ب- "تعهد جميع الدول الأطراف في هذه المعاهدة بتيسير أتم تبادل ممكن للمعدات والمواد والمعلومات العلمية والتقنية لاستخدام الطاقة النووية في الأغراض السلمية، ويكون لها الحق في الاشتراك في ذلك التبادل، وترعى كذلك الدول الأطراف في المعاهدة والقادرة على ذلك، التعاون في الإسهام، منفردة، أو بالاشتراك مع دول أخرى أو منظمات دولية في زيادة تطوير تطبيقات الطاقة النووية للأغراض السلمية".
كل هذا الوضوح حاولت الدبلوماسية الإسرائيلية والإعلام الإسرائيلي بالتعاون والتضامن الكامل مع الدبلوماسية والإعلام الأمريكي والأوروبي طَمَسَه على مدى السنوات الماضية من عمر أزمة البرنامج النووي الإيراني من خلال التركيز على اتهامات استخباراتية ملفقة تزعم أن إيران الدولة الموقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، متورطة فعلًا في مشروع هدفه إنتاج أسلحة نووية، ومن ثم لا بد من وقف هذا المشروع بالدبلوماسية أو بالحل العسكري قبل أن يكتمل المشروع، ويُصدم العالم بإيران دولة نووية عسكريًا.
كل هذا حدث في وقت جرى فيه التعتيم المتعمد للقدرات النووية العسكرية الإسرائيلية، والتستر على الترسانة النووية العسكرية الإسرائيلية الهائلة، وتمييع كل مطلب عربي أو إيراني أو دولي بإجبار إسرائيل على التوقيع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وفتح منشآتها النووية أمام إجراءات التفتيش الدولية التي يقوم بها خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رغم صدور قرارات تؤكد وتطالب بذلك من مؤتمر مراجعة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية الذي يُعقد كل خمس سنوات ومن أبرزها قرارات مؤتمر عام 1995 التي لم تحترم حتى الآن، والتي جرى التأكيد عليها في مؤتمر المراجعة الأخير (مايو 2010) الذي عُقد في نيويورك بمقر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودعا إلى عقد مؤتمر دولي لجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية عام 2012 هو المؤتمر الذي تعمدت واشنطن إجهاضه استجابة لضغوط إسرائيلية.
ما ورد في المؤتمر الصحفي للرئيس الأمريكي مع بنيامين نتنياهو مساء يوم 30 سبتمبر الفائت، فَهِمَ نتنياهو خطورته، وهذا ما اتضح في ما ورد في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي جاءت مناقضة للمعنى الذي ورد على لسان الرئيس أوباما بخصوص التوافق الأمريكي – الإسرائيلي على منع إيران من امتلاك سلاح نووي، وهو ما أكده نتنياهو بمطالبه التي تضمنت:
- أن إيران تسعى لامتلاك أسلحة نووية، ويجب عدم تخفيف الضغوط عليها، وكلما ازدادت الضغوط ازدادت الفرص لنجاح منعها من امتلاك سلاح نووي.
- من الضروري إبقاء إمكانية استخدام القوة ضد إيران كاحتمال في حال اقتربت من امتلاك سلاح نووي.
- في حال اضطرت إسرائيل فستقف وحدها في مواجهة إيران.
بالتوصل إلى الاتفاق النووي المرحلي في جنيف بين إيران و"مجموعة دول 5+1" نستطيع أن نقول إن مطالب نتنياهو تلاشت أمام واقع جديد أقر بحق إيران في تخصيب اليورانيوم، وهو وإن كان إقرارا ضمنيا ومحصورا في التخصيب عند حدود 5% فقط مع التوقف الإيراني عن التخصيب إلى 20%، إلا أنه يعطي إيران حق التخصيب وحق أن تكون "دولة نووية" وفقًا لديباجة معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، أي دولة نووية لا تملك أسلحة نووية، كما أنه أقر واعتمد الحل السياسي والدبلوماسي لأزمة البرنامج النووي الإيراني، وأنهى كل طموحات إسرائيل في فرض الحل العسكري، لكن ما هو أهم من هذا كله أنه أسس لتقارب أمريكي – إيراني، وأن هذا التقارب يمكن أن يؤدي إلى ما يخشاه كثيرون (الدول العربية الخليجية وإسرائيل) وهو الانخراط في "صفقة تفاهم شاملة" بين إيران والولايات المتحدة، وربما بمشاركة روسية تكون الأزمة السورية هي ساحتها الأهم.
2- تداعيات التقارب على الخليج
على الرغم من أهمية التقارب الأمريكي – الإيراني إلا أنه تقارب محكوم بنجاح "اختبار صدقية النوايا المشتركة" بين الأمريكيين والإيرانيين في اتفاق جنيف النووي خلال الأشهر الست القادمة، كما أنه تقارب لا يمكن اعتباره، بأي حال من الأحوال، انقلابا في التحالفات الإستراتيجية الأمريكية في الخليج والشرق الأوسط على الرغم من كل ما هو مثار الآن من فزع إسرائيلي وتخوفات عربية خليجية وسعودية على وجه الخصوص.
فهذا التقارب- كما أشرنا- له دوافعه وله أيضا خلفياته من مصالح أمريكية وإيرانية، فهو تقارب يمكن اعتباره واحدا من أهم أصداء التفاهمات الأمريكية – الروسية التي تجلت بوضوح في الأزمة السورية، عندما انحازت واشنطن إلى الخيار السياسي دون الخيار العسكري، وتراجعت في اللحظات الأخيرة عن الضربة العسكرية التي كانت تخطط لها بمشاركة أوروبية (فرنسية – بريطانية)، واكتفت بخيار تفكيك ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية، كما أن هذا التقارب محصلة تفاعل عوامل أمريكية بحتة أبرزها ذلك القرار الأمريكي الإستراتيجي بالتوقف عن خوض المزيد من الحروب في الشرق الأوسط، وهي حروب لم تعد تتحملها القدرات الاقتصادية الأمريكية، ولم يعد يقبل بها المواطن الأمريكي، إضافة إلى قرار إستراتيجي أمريكي آخر يقضي بالتحول الأمريكي نحو إقليم الشرق الأقصى لمواجهة التحديات الهائلة العسكرية والاقتصادية التي تواجه الولايات المتحدة هناك في ظل البروز الصيني القوي، والعودة الروسية للتنافس هناك مع واشنطن، إضافة إلى تحسبات للقوة الهندية الصاعدة.
ضمن هذه الدوافع اختارت الإدارة الأمريكية سياسة "تفكيك الأزمات" الشرق أوسطية ونزع فتيل المواجهات بين القوى المتصارعة، ومن ثم فإن واشنطن باتت في حاجة ماسة إلى تأسيس لـ"تفاهمات" إقليمية جديدة وبديلة لتفاهمات أخرى سابقة بعد سقوط "الخيار الإخواني" وتوابعه عقب ثورة 30 يونيو في مصر، وهو الخيار الذي كان يجمع دول ما أخذ يعرف بـ"المحور السني الجديد" الذي يضم الدول التي يسيطر عليها الإخوان ابتداءً من المغرب إلى تونس وليبيا ومصر والأردن وسوريا ليلتقي بالدور التركي الإقليمي في تحالف هدفه حماية المصالح الأمريكية يجمع هذه الدول مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وقطر، على أمل ضم السعودية وباقي دول الخليج العربية الأخرى لمواجهة "محور الشر" أو "الهلال الشيعي" ويضم إيران وسوريا وحزب الله بصفة أساسية دون تجاهل لنظام الحكم في بغداد.
سقوط هذا الخيار أجبر الإدارة الأمريكية، خصوصًا مع التوافق الأمريكي مع روسيا على حل سلمي للأزمة السورية بمشاركة كل من إيران والسعودية في "مؤتمر جنيف- 2"، كما حفزها على التوجه نحو إيران في تحول غير مسبوق في السياسة الأمريكية يعد الأول من نوعه منذ سقوط نظام الشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، وهو تحول له حساباته وأثمانه الهائلة بالنسبة للدول العربية الخليجية للأسباب التالية:
أ- أن هذه الدول تواجه للمرة الأولى معضلتها الأمنية في الخليج دون اعتماد قوى وموثوق به في الحليف الأمريكي الذي فرض على الخليج منذ حرب الخليج الثانية عام 1991 نظاما أمنيا فريدا يقوم على أساس "عسكرة الأمن" في الخليج، وقيام الولايات المتحدة بالدور الأساسي في ضمان هذا الأمن عبر اتفاقيات عسكرية ثنائية مع كل دولة خليجية على حدة.
هذا النظام أسرف في الإنفاق على شراء أسلحة ومعدات أمريكية بآلاف المليارات من الدولارات، وأنهك ميزانيات هذه الدول، لكن ما هو أخطر أنه حال من ناحية دون التأسيس لنظام أمن جماعي يربط الدول العربية الخليجية الست مع الولايات المتحدة أو حتى مع نفسها، ومن ناحية ثانية فصل الأمن الخليجي عن الأمن العربي بعد أن أفشل فرصة إنجاح مشروع "إعلان دمشق" الذي كان يعطي لمصر وسوريا دورًا في الأمن الخليجي، ومن ناحية ثالثة عزل العراق واليمن عن أي صيغة لأمن الخليج.
والآن تجد الدول الخليجية العربية الست نفسها دون نظام للأمن يعتد به في حالة أي تراجع محتمل في الالتزامات الأمريكية بهذا الأمن وغياب "الموازن الإقليمي" القادر على مواجهة ما هو قائم، وما هو مستجد من التحديات والتهديدات.
ب- أن هذه الدول تخشى أن يكون التقارب الأمريكي - الإيراني ضمن "صفقة شاملة تعطي لإيران أدوارًا إقليمية معترف بها دوليًّا في مناطق شديدة الحساسية لأمن الدول الخليجية والأمن العربي بصفة عامة، خاصة في مياه الخليج، وفي العراق وفي سوريا ولبنان.
جـ- أن الدول الخليجية ستجد نفسها مضطرة للتفاهم مع إيران وقبول شروط إيرانية مرفوضة، منها قبول إيران جارة نووية وقبول إيران قوة إقليمية مهيمنة، انخراط بعض الدول الخليجية في مثل هذه التفاهمات سيكون حتمًا ضد وحدة الموقف الخليجي، وقد يؤدي إلى انفراط أو تهديد تماسك منظومة دول مجلس التعاون الخليجي.
يذكر بهذا الخصوص أن وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد بادر بزيارة طهران يوم 28 نوفمبر 2013 أي بعد أربعة أيام فقط من التوصل إلى اتفاق إيران النووي في جنيف، كما أن سلطنة عمان هي من رعى المفاوضات السرية الأمريكية – الإيرانية، كما أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف زار أربعة عواصم خليجية، واستقبل بحفاوة فيها، ووجه دعوات لزعمائها لزيارة إيران، خاصة أمير الكويت ورئيس دولة الإمارات، هذه العواصم هي الكويت ومسقط والدوحة وأبو ظبي.
د- أن هذا التفاهم ستكون له حتما انعكاساته على الأزمة السورية بفرض إيران دولة مشاركة في حل الأزمة، وقد يعجل بإنجاح مؤتمر "جنيف- 2" دون قرار بإبعاد الرئيس السوري بشار الأسد عن المستقبل السياسي لسوريا، وهذا معناه إلحاق هزيمة للخيارات الخليجية في الأزمة السورية، وخاصة الخيارات السعودية والقطرية.
هـ- أن خرائط جديدة لتحالفات إقليمية جديدة قد تفرض نفسها على حساب توازن قوى كان يعمل لصالح الدول الخليجية في ظل الشراكة الإستراتيجية الأمريكية - الخليجية، التقارب التركي مع كل من العراق وإيران، والتفاهمات السورية - الإيرانية - العراقية، وزيارة رئيس الحكومة السورية لطهران في نوفمبر الماضي وزيارة رئيس الحكومة العراقية هو الآخر لطهران أوائل ديسمبر الجاري مؤشرات مهمة على مثل هذه التفاهمات أو التحالفات الجديدة.
مثل هذه التداعيات المتوقعة سيكون لها حتمًا مخاطرها الأمنية والسياسية والاقتصادية على الأمن الإقليمي الخليجي وعلى الأوضاع الداخلية في الدول العربية الخليجية، وربما على مستقبل مجلس التعاون الخليجي إذا ما استطاعت إيران أن تفرض نفسها كفاعل إقليمي ضمن منظومة أمنية خليجية جديدة وبديلة لمجلس التعاون.
3- الخيارات الخليجية المحتملة
في ظل كل هذه الاحتمالات نستطيع أن نقول إن الدول العربية الخليجية معرضة لمواجهة خيارات صعبة، فهي إما أن تقبل بالتقارب مع إيران وإما أن ترفض خيار التقارب، وعندها ستكون مطالبة بامتلاك بدائل وسياسات قادرة على المنافسة والصراع.
مشكلة هذا الخيار الأخير أي خيار المواجهة والتحدي هو صعوبة المحافظة على موقف خليجي جماعي متماسك في ظل ظهور نوايا لدى أربعة دول من أعضاء المجلس للتقارب مع إيران، إذ لم يبق غير المملكة العربية السعودية والبحرين فقط خارج نطاق هذا التقارب، كما أن هذا الخيار في حاجة إلى منظومة تحالفات جديدة، وإذا حاولت الدول الخليجية ذلك فإنها لن تجد غير ثلاثة قوى إقليمية للتحالف معها منفردة أو مجتمعة هي بالتحديد: تركيا وإسرائيل ومصر، وكل من هذه الأطراف له حساباته الخاصة:
- فتركيا حريصة على أن تعيد تقاربها مع إيران، رغم أنها تريد أن تكون "حليفًا لما يسمى بـ"الدول السنية" في المنطقة لأسباب اقتصادية وسياسية، إلا أنها حريصة في الوقت ذاته على التحالف مع إيران، وهذا يعنى أنها لن تقبل أن تكون "موازنا إقليميا" للدول الخليجية في مواجهة إيران، كما أن تركيا مأزومة في علاقتها مع مصر في ظل استمرار انحيازها للمشروع الإخواني، مما يعرقل فرص التحالف الخليجي معها.
- أما إسرائيل فهي متلهفة للتحالف مع "محور عربي" لمواجهة التقارب الأمريكي - الإيراني، التحالف مع "الحلف السني" كان رغبة أعلنتها تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة عام 2006 في معرض الطرح الأمريكي لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي استهدف فرض إيران عدوًا للعرب بديلا عن إسرائيل، وفرض صراع عربي – إيراني يحل محل الصراع التاريخي العربي – الإسرائيلي، وتفجير الصراع الطائفي السني – الشيعي لفرض هذه المعادلة الصراعية الجديدة أو البديلة، والآن يعيد بنيامين نتنياهو طرحه هذا التحالف لمواجهة التقارب الأمريكي – الإيراني، ولكنه "خيار انتحاري" بالنسبة للدول العربية الخليجية، قد يداعب عقول بعض الساسة لكنه شعبيا يبقى محوكما عليه بالفشل إن لم يكن بالإعدام.
- تبقى مصر هي الحليف العربي المرجح لإعادة بناء منظومة جديدة للأمن الإقليمي الخليجي، يربط هذا الأمن بالأمن القومي العربي عبر الدور المصري، ويؤسس لمفهوم جديد للأمن هو "الأمن التعاوني" المرتكز على قاعدة "توازن المصالح" بين العرب وإيران بدلًا من الأمن الإستراتيجي القائم على قاعدة "توازن القوى" الذي أسرف في الإنفاق العسكري، وأهدر القدرات ولم يحقق الحد الأدنى من الأمن في الخليج.
هذا الخيار يمكن أن يكون مدخلًا لتفاهم عربي - إيراني حول الأزمة السورية، وهو خيار يمكن أن يحظى بدعم دولي: أمريكي - روسي - أوروبي - صيني، إذا وضع في اعتباره تأسيس هذا المشروع على محاربة "الجهادية التكفيرية" داخل سوريا وخارجها، والتأسيس لنظام ديمقراطي في سوريا لا يشترط أن يكون الرئيس السوري بشار الأسد ضمن مرتكزاته، عندها يمكن أن تكون تركيا شريكًا، ويمكن التأسيس لنظام أمن إقليمي جديد ليس فقط في الخليج ولكن أيضًا في إقليم الشرق الأوسط إذا ما استطاع مجلس التعاون الخليجي أن يحافظ على تماسكه، خصوصا في ظل رفض سلطنة عمان على لسان وزير خارجيتها يوسف بن علوى أن تكون بلاده عضوا في اتحاد خليجي يحل محل مجلس التعاون الخليجي حتى لو أدى هذا الرفض إلى انسحابها من مجلس التعاون، إعلان بن علوى هذا الرفض جاء في معرض حديث مهم له في منتدى "الأمن الإقليمي" في المنامة يوم 7 ديسمبر الجاري أي قبيل 48 ساعة فقط من انعقاد القمة الخليجية في الكويت.
وإذا ما أمكن إعادة إحياء النظام العربي بمركز قوة جديد يعتمد على تحالف خليجي- مصري عندها يمكن أن يكون هذا المركز بمثابة رافعة قوية لإعادة بناء وهيكلة نظام عربي جديد أكثر قوة وأكثر تماسكا وأكثر فعالية يكون قادرا ليس فقط على مواجهة أية تداعيات لتقارب أمريكي إيراني مفترض أو محتمل، ولكن أيضًا استبدال مثل هذه المواجهة بسياسية تعاون تحمي المصالح المشتركة، وتحقق الأمن للجميع.