ثانياً: النتائج
المتوقعة لهبوط الأسعار على الدول الخليجية
سوف يترك هبوط أسعار النفط آثارا واسعة النطاق على الدول
المنتجة للنفط، إبتداء من معدل النمو الإقتصادي إلى توازن الميزانية وسعر العملة
الوطنية وميزان المدفوعات والبطالة وتدفق الإستثمارات إلى الخارج. وعلى المستوى
النظري يمكن أن يؤدي هبوط أسعار النفط إلى تراجع معدل النمو وزيادة عجز الميزانية
وانخفاض قيمة العملة المحلية وتراجع فائض ميزان المدفوعات وزيادة البطالة وتوقف
البدء في إنشاء مشروعات جديدة خصوصا مشروعات البنية الأساسية المكلفة. لكن الدول
العربية الخليجية تتمتع في واقع الأمر بوسادة مخملية من الفوائض المالية سواء كانت
في شكل احتياطيات من النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية أو استثمارات في الخارج أو
أصول مملوكة لصناديق الاستثمار السيادية.
ثالثاً: سيناريوهات للتعامل مع هبوط الأسعار
وفي مواجهة الهبوط في أسعار النفط، والآثار المحتملة
لذلك على المتغيرات الاقتصادية الكلية للدول العربية الخليجية المصدرة للنفط، فإن
هناك ثلاثة سيناريوهات للتعامل مع ذلك.
السيناريو الأول، هو أن يتحمل الاحتياطي النقدي والاستثمارات الخارجية والصناديق السيادية
عبء هبوط الأسعار بالكامل.
السيناريو الثاني، هو أن يتحمل الاحتياطي النقدي والاستثمارات الخارجية والصناديق السيادية
نسبة من تغطية الهبوط في عائدات الصادرات النفطية، قد تصل إلى 50% (تزيد أو تقل
طبقا لظروف كل دولة).
السيناريو الثالث، هو أن تتحمل الموازنة السنوية عبء هبوط عائدات تصدير النفط بالكامل، مع
اتباع حزمة من السياسات النقدية والمالية لتقليل أثر ذلك على الاقتصاد المحلي،
وذلك بتحريك سعر الصرف مقابل الدولار واستخدام سياسة أسعار فائدة ملائمة، وضغط
الإنفاق العام بحيث تكون الأولوية لاستكمال المشاريع التي تم البدء في تنفيذها
وتلك ذات الأهمية الإستراتيجية أو العائد الاقتصادي والاجتماعي المرتفع.
ويبدو أن دولة الإمارات العربية المتحدة جاءت في مقدمة
الدول العربية الخليجية المصدرة للنفط التي اختارت السيناريو الأول بدون تردد.
وتظهر موازنات الدول العربية المصدرة للنفط للسنة المالية 2015 اتجاها إيجابيا
بشكل عام على الرغم من أن بعضها يتضمن عجزا في التمويل مثل الميزانية السعودية.
وتظهر الميزانية الاتحادية لدولة الإمارات العربية المتحدة زيادة في الإنفاق
(13.35 مليار دولار) بنسبة 6.5% أكثر من
العام 2014 مع اهتمام بالغ باستمرار الإنفاق على مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية
والخدمات الأساسية طموحا إلى تحقيق معدل
للنمو يبلغ ما يتراوح بين 4 إلى 4.5%. وتستند موازنة الإمارات إلى موقف مالي صلب
حيث بلغت قيمة احتياطي النقد الأجنبي ما يقرب من 90 مليار دولار (327.6 مليار
درهم) في يوليو عام 2014. كذلك بلغت قيمة الأصول التي يستثمرها صندوق أبوظبي
للأصول السيادية أكثر من 800 مليار دولار. هذا بدون احتساب الأصول الاستثمارية
المملوكة لهيئة دبي للاستثمار وغيرها من المؤسسات.
إن هذه الأرضية المالية والاستثمارية الصلبة التي تتمتع
بها الدول العربية المصدرة للنفط من شأنها أن تجعل من الهبوط الحالي في أسعار
النفط مجرد فقاعة في الأجل القصير. ومع ذلك فإنه من الضروري التحوط ضد مخاطر
واحتمالات استمرار المستوى المتدني للأسعار في الأجل المتوسط بحزمة من السياسات
الإستثمارية تهدف لتنويع مصادر الدخل المحلي، والسياسات النقدية التي تهدف لإضفاء
قدر أكبر من المرونة على أسعار الصرف وأسعار الفائدة، مع التمسك بالانفتاح على
العالم والدخول في اتفاقيات واسعة لتحرير التجارة وزيادة الاستثمارات من خلال
الدخول، عن طريق إبرام اتفاقات تعاقدية، إلى سلاسل خلق القيمة على المستوى العالمي
(Global Value Chains) بالقدر
الكافي لتحقيق التنافسية وتنويع هياكل الإنتاج.
رابعاً: استنتاجات
نستنتج مما تقدم ما يلي:
-
يعكس الهبوط في أسعار النفط حاليا تغيرات جوهرية في بنية العرض والطلب على
المستوى العالمي.
-
هذه التغيرات سيستمر تأثيرها في الأجل القصير على الأقل. ومن ثم فليس من
المتوقع أن تعود أسعار النفط في عام 2015 إلى مستوياتها السابقة في العام 2014.
ومن المرجح أن تتراوح أسعار النفط بين 55 دولارا إلى 65 دولارا للبرميل في المتوسط
خلال عام 2015.
-
سيتوقف الارتفاع في الطلب على النفط على قدرة دول الإتحاد الأوروبي ودول
أمريكا الشمالية واليابان على التعافي، مع استمرار معدلات نمو قوية في الصين والهند
وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول الصاعدة.
-
يعتبر تخلي أوبيك عن القيام بدور "المنتج المرجح" (swing producer) من العوامل
التي ستوفر للسوق توزانا معقولا في العقود المقبلة، وذلك بفضل طاقة الإنتاج
الهائلة والرخيصة لدى الدول الأعضاء في أوبيك. لكن هذا التوازن المطلوب لمصلحة
المنتجين والمستهلكين على السواء سيحتاج دائما قدرا معقولا من التشاور والتنسيق
بشأن سياسات الإنتاج بما يتلاءم مع احتياجات النمو والبعد عن الصدمات السعرية
المفاجئة.
-
من المرجح أن تتأثر الاستثمارات في قطاع النفط والغاز سلبا بانخفاض الأسعار
عن المستوى الذي كانت عليه في العام 2014. وتشير التجربة التاريخية إلى أن الأزمة
المالية الآسيوية في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي أدت إلى تراجع الاستثمار
في القطاع النفطي على مستوى العالم بنسبة 20% ثم تعافي بعد ذلك. كما أن الاستثمار
في القطاع نفسه تراجع أيضا بنسبة 10% نتيجة للأزمة الاقتصادية العالمية 2008- 2009
ثم تعافي بعد ذلك.
-
تستفيد الصين من فوائضها المالية والتجارية بزيادة استثماراتها في قطاعات
الموارد الطبيعية على مستوى العالم، وفي مقدمتها قطاع الطاقة. ومن المتوقع أن تسهم
هذه الاستثمارات في تقليل الأثر السلبي لانخفاض أسعار النفط على القدرة الاستثمارية
لشركات النفط الكبرى.
-
من المرجح أن تتأثر سلبا شركات إنتاج البترول الصخري، خصوصا تلك المثقلة
بالديون، بهبوط الأسعار. وعلى الرغم من أن معظم هذه الشركات يعمل حتى الآن في
استخراج النفط من آبار قليلة التكاليف (sweet spots) وتنتقل بسرعة
من موقع إلى آخر فإن بعضها يعاني من نسبة مرتفعة للقروض إلى الأصول (debt-to- assets ratio) ومثل هذه
الشركات ستكون معرضة للخروج من السوق مع انخفاض العائد عن التكلفة الحدية
المتغيرة. ويجب أن نضع في اعتبارنا هنا أن العبرة ستكون بمعدلات التكلفة المتغيرة
وليس التكاليف الكلية أو الرأسمالية.
-
ومن الضروري أن نذكر هنا أن السوق تعاني حاليا من نقص في الإمدادات نتيجة
لاضطراب الإنتاج والصادرات في دول رئيسية مصدرة للنفط مثل روسيا وإيران وليبيا
والعراق. وفي حال استقرار الأوضاع في هذه البلدان أو إلغاء العقوبات المفروضة
عليها أو تخفيفها، فإنها ربما تتجه للإفراط في إمداداتها للسوق لتعويض ما فاتها،
وللحصول على عائدات تمكنها من إعادة بناء نفسها بسرعة (مثل حال ليبيا والعراق).
وربما يؤدي ذلك إلى الضغط على الأسعار إلى ما دون المستوى المتوقع لتوازن الأسعار
في العام 2015.
-
نظرا لتمتع الدول العربية المصدرة للنفط بمراكز مالية واستثمارية قوية،
فإنها على وجه العموم لن تعاني من الهبوط الحالي لأسعار النفط في الأجل القصير.
وتظهر موازنات العام 2015 أن هذه الدول اختارت استراتيجية واضحة لمواصلة النمو
وزيادة الإنفاق وعدم اللجوء إلى سياسات انكماشية، كما أن عملاتها لم تتأثر سلبا
بالهبوط على غرار ما حدث في روسيا.
-
ومع ذلك فمن المهم أن تتحوط الدول العربية المصدرة للنفط من احتمالات
استمرار المستويات المتدنية لأسعار النفط في الأجل المتوسط، وذلك باتباع حزمة من
السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية تساعد على استمرار التوسع الاقتصادي وتنويع
الإنتاج وزيادة الاندماج في الاقتصاد العالمي.
-
ومن المهم هنا الإشارة إلى ما تنطوي عليه هذه الاستنتاجات على صعيد الاقتصاد
السياسي للمنطقة وعلاقاتها الاستراتيجية مع العالم. فانخفاض اعتماد الولايات
المتحدة على نفط الشرق الأوسط، قد يؤدي إلى تراجع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة من
وجهة النظر الأمريكية، ومن ثم تراجع المصلحة في ضمان أمنها واستقرارها على المدى
البعيد. ويقودنا هذا إلى ضرورة العمل مبكرا على تعزيز القوة الاستراتيجية للمنطقة
من خلال ترتيبات دفاعية مشتركة على الصعيد الإقليمي تضمن الاستقرار واستمرار
الرخاء لشعوب المنطقة.
* رئيس وحدة البحوث الاقتصادية