المركز العربي للبحوث والدراسات : البحث عن تعددية قطبية: محاولات حثيثة لإعادة صياغة النظام العالمي (طباعة)
البحث عن تعددية قطبية: محاولات حثيثة لإعادة صياغة النظام العالمي
آخر تحديث: الثلاثاء 06/01/2015 02:26 م د. أحمد قنديل *
البحث عن تعددية قطبية:
كان العام الأول من عُمر مجلة "آفاق سياسية" مليئا بالأحداث السياسية والاجتماعية التي تابعتها مجلتنا الغراء، مع خلال دراساتها وتقاريرها وتحليلاتها. حيث تناولت المجلة أهم ما جرى من تطورات على الساحة العالمية، والتي من شأنها ترْك بصمات واضحة على مستقبل العالم. ولعل السمة الأهم خلال العام الأول من عمر المجلة هو عدم الاستقرار الذي ساد في العلاقات بين القوى الكبرى المهمة على الساحة الدولية، مما جعل العالم يموج ويغلي إلى درجة غير مسبوقة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق وانتهاء الحرب الباردة. حيث وجدت الولايات المتحدة، وهي الدولة التي هيمنت على الشئون العالمية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، نفسها في مواجهات متعددة مع الدول الكبرى الصاعدة على الساحة العالمية، وفي مقدمتها روسيا والصين، من أجل وضع قواعد جديدة للعلاقات الدولية. وهو ما برز خلال العام الماضي في تحدي هاتين الدولتان للهيمنة الأمريكية العالمية تزامنا مع التحسن الملحوظ في قدراتهما الاقتصادية والعسكرية، وميل قادتهما إلى التمرد على إرادة واشنطن. الأمر الذي دفع الكثير من المراقبين إلى التحذير من أن العالم أصبح مقبلا على الدخول في مرحلة جديدة تتميز بسلسلة من التوترات والصراعات والحروب الدموية على الصعيد الإقليمي، والتي قد تطور في مرحلة لاحقة لتنشب "حرب باردة جديدة" تعقبها حرب ثالثة على الصعيد العالمي.

أولاً- مراجعة فرضية "نهاية التاريخ"

دخول الولايات المتحدة في سلسلة من التوترات والصراعات مع القوى الكبرى الصاعدة على الساحة العالمية خلال العام المنقضي، يمثل، بالتأكيد، تحديا كبيرا لمقولة "نهاية التاريخ" التي أطلقها المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، بعد سقوط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفيتي إلى دويلات، ونهاية الحرب الباردة في 1989. وتتلّخص هذه المقولة في فرضية مفادها أن الدول التي تريد أن ترتقي في سلم التقدم والتطور الإنساني، عليها أن تحذو حذو الولايات المتحدة سياسيا وثقافيا واقتصاديا، ومَن تأخر فعليه "أن يركب القطار سريعا قبل فوات الأوان". كما رأى فوكوياما أيضا أن نشر المبادئ والقيم الأمريكية في العالم، وفي مقدمتها قيم الديمقراطية الليبرالية الحديثة وحقوق الإنسان، من شأنه أن يدعم السلام والاستقرار في العالم لأن الديمقراطيات، في رأيه، لا تتحارب، بل تتعاون لتحقيق الرفاهية والرخاء والاستقرار.

تبدو واشنطن عاجزة عن قيادة العالم، في ظل أزماته المتعددة، التي تتخبط فيها

إلا أن العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة من جهة وكلٍّ من الصين وروسيا من جهة أخرى، خلال العام الماضي تشير إلى عدم صلاحية هذه المقولة، حتى كتابة هذه السطور. فلا بكين وموسكو سعتا إلى اللحاق بالركب الأمريكي، ولا نجح نشر الديمقراطية في كثير من الدول في تحقيق السلام والاستقرار، بل على العكس شهد عدد من هذه قدرًا كبيرًا من الفوضى وعدم الاستقرار. بل إن واشنطن نفسها تبدو عاجزة عن قيادة العالم، في ظل أزماته المتعددة، التي يتخبط فيها. وفي مواجهة هذا الفشل ومن أجل تحقيق حلم الإمبراطورية العالمية، مال صانعو القرار الأمريكي في العام الماضي إلى افتعال المشاكل والأزمات مع القوى الصاعدة عالميا، من خارج المعسكر الغربي، من أجل استنزافهم واحتوائهم وعرقلة صعودهم الاقتصادي والعسكري، وبالتالي استمرار الهيمنة الأمريكية على العالم. وقد كشف عن هذه التوجهات الأمريكية الجديدة تقرير صدر عن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في مارس 2014 بعنوان "تأمين دفاع قوي للمستقبل". فقد أكد هذا التقرير على أن واشنطن يجب أن تأخذ المبادرة في العمل الخارجي في ظل "عالم منفلت ومنعدم الاستقرار" نتيجة سعي عدد من الدول إلى التحالف ضد الولايات المتحدة من أجل تأمين أقصى ما يمكن من مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. ولعل حديث هنري كيسنجر، السياسي المخضرم ومستشار الأمن القومي ووزير الخارجية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون لصحيفة ديلي إسكيب اليومية المحلية، بضرورة شن حرب عالمية ثالثة لإخراج كل من الصين وروسيا من معادلة اللعبة السياسية الدولية والهيمنة على السلع الاستراتيجية في العالم العربي والتمكين لقيام "إسرائيل الكبرى" أحد المؤشرات المهمة، التي برزت خلال العام الماضي، للتأكيد على طبيعة السياسة الأمريكية التصعيدية في مواجهة القوى الصاعدة عالميا، خاصة وأن كيسنجر، كان، ولا يزال، من أهم الشخصيات المؤثرة على صنع القرار الأمريكي المتعلق بالسياسة الخارجية.

وفي ضوء هذا الإطار الاستراتيجي العام، اتبعت واشنطن ثلاثة تكتيكات متميزة خلال العام الماضي للمحافظة على هيمنتها العالمية في مواجهة كلٍّ من الصين وروسيا.

التكتيك الأول: الاحتواء

سعت واشنطن إلى احتواء كل من موسكو وبكين بمزيج من الحصار الاقتصادي أو التطويق العسكري، أو كليهما معا، مع العمل على كسر تحالفاتهما مع الدول الأخرى سواء في محيطهما أو في مناطق أخرى استراتيجية من العالم. ففي مواجهة روسيا، نشطت الدبلوماسية الأمريكية، بالتعاون مع الاتحاد الأوربي، من أجل فرض عقوبات اقتصادية متعددة على موسكو بعد تفجر الأزمة الأوكرانية. ويؤكد عدد من الخبراء أن الموقف الأمريكي تجاه التطورات الجارية في أوكرانيا جاء لوقف الصعود القوي لروسيا، بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين، عبر إشعال حريق على حدوده، وإظهاره في موقف العاجز عن نجدة حلفائه، أو تعريضه للعزل والإقصاء من قبل جميع الدول الغربية، وكذلك لعقوبات من نوع إخراجه من النظام المصرفي العالمي. وقد سبق ذلك، حرْص صانعي القرار الأمريكي على قيام حلف شمال الأطلسي (الناتو) بسلسلة خطوات لتعزيز موقعه في أوربا الشرقية، بما فيها الإعداد لقوة تدخل سريع ونشر أنظمة الدفاع الصاروخي في الدول المجاورة لروسيا، والتي كانت تعتبر مناطق نفوذ تقليدية للدولة الروسية، مثل بولندا والتشيك والمجر ورومانيا وبلغاريا. كما كان الإصرار الأمريكي على ضم أوكرانيا وجورجيا لحلف الناتو، من العوامل الملفتة في سياسة واشنطن تجاه موسكو، رغم حساسية هذا الملف لدى الأجهزة الأمنية الروسية ولدى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.

سعت واشنطن إلى احتواء كل من موسكو وبكين بمزيج من الحصار الاقتصادي أو التطويق العسكري، أو كليهما معا، مع العمل على كسر تحالفاتهما مع الدول الأخرى

وقد دفعت التحركات الأمريكية الاستفزازية تجاه روسيا، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التحذير في منتصف شهر نوفمبر الماضي من حدوث "ثورة ملونة" في روسيا. وبعد ذلك بأسبوع واحد، اتهم وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، صراحة وبشكل علني في 22 نوفمبر 2014 الولايات المتحدة والغرب بمحاولة إثارة الاحتجاجات الشعبية من أجل "تغيير النظام" في روسيا نتيجة الاستمرار في فرض العقوبات الاقتصادية على بلاده.

وبالمثل، وفي مواجهة الصين، سعت واشنطن خلال العام الماضي إلى احتواء بكين عن طريق زيادة وجودها العسكري في شرق وجنوب شرق آسيا. حيث عمدت الولايات المتحدة إلى إعادة نشر أساطيلها بشكل مكثف في منطقة آسيا والمحيط الهادي، في إطار استراتيجيتها الجديدة المعروفة باسم "الانعطافة نحو آسيا"، والتي أعلنها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عام 2012، كما عززت تحالفاتها العسكرية والسياسية مع اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية. ومن ناحية أخرى، شجعت واشنطن الحكومة اليابانية الحالية، بزعامة شينزو آبي، على تعديل تفسير دستورها السلمي، من أجل إتاحة الفرصة أمامها مستقبلاً للعمل العسكري الخارجي في مواجهة أية تهديدات خارجية محتملة، خاصة من جانب الصين. ويرى عدد من المراقبين أن الولايات المتحدة لم تفوّت فرصة إعلان الصين عن إنشاء منطقة جديدة للدفاع الجوي في بحر الصين الشرقي في العام الماضي، من أجل صب النار على الزيت المشتعلة في العلاقات المتوترة بشدة في الآونة الأخيرة بين طوكيو وبكين، حيث سارعت الإدارة الأمريكية إلى التأكيد على وقوفها إلى جانب اليابان في أية نزاعات عسكرية مع الصين بشأن الجزر المتنازع عليها بين الدولتين، مشيرة إلى أن هذا الموقف يأتي متسقاً مع معاهدة الدفاع الأمريكية-اليابانية.

وبالتزامن مع ذلك، سعت الولايات المتحدة خلال العام الماضي أيضا إلى تأجيج الخلاف بين فيتنام والصين حول السيادة بشأن جزر سبراتلي وبارسيل في بحر الصين الجنوبي، بعد أن قامت أحدى الشركات الصينية العاملة في مجال التنقيب عن البترول والغاز في 2 مايو الماضي بإقامة منصة للبحث في المياه العميقة المتنازع عليها مع هانوي. وهو الأمر الذي فجر متوالية من ردود الفعل العنيفة، التي لم تكن لتحدث إلا بتشجيع أمريكي لصانعي القرار في فيتنام، في ضوء العلاقات التاريخية الوطيدة التي ربطت الحزبين الشيوعيين في كلٍّ من بكين وهانوي. حيث انفجرت موجات غضب واحتجاج شديدة تجاه الصين في مناطق متفرقة في فيتنام أسفرت عن حرق محال تجارية ومصانع يملكها صينيون. كما وقعت أيضا مواجهة فعلية بين سفن فيتنامية وصينية بخراطيم المياه، وهي الأولى من نوعها منذ الحرب التي وقعت بين الدولتين في عام 1979. ولم تقف الأمور عند ذلك الحد، فعلى المستوى الرسمي، حذر رئيس وزراء فيتنام نجوين تان دونج الصين من أن بلاده مصممة على "معارضة الانتهاك الصيني لمياهها"، مؤكدا على أن فيتنام ستدافع "بصرامة عن سيادتها ومصالحها الشرعية، لأن السيادة على مناطقها البحرية وجزرها مقدسة". وقد عملت واشنطن على استمرار وزيادة  التوتر في العلاقات الفيتنامية الصينية بقدر الإمكان، حيث قررت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في بداية شهر أكتوبر الماضي القيام برفع جزئي لحظرها على مبيعات السلاح إلى فيتنام، والساري منذ انتهاء حرب فيتنام في عام 1975. وكانت واشنطن قد أبرمت اتفاقا مع هانوي في ديسمبر الماضي لدعم مهمة قوات خفر السواحل الفيتنامية في حماية السيادة الفيتنامية على بحر الصين الجنوبي، في مواجهة "التهديدات الصينية". وقد جاء هذا الاتفاق بعد أن أصبحت فيتنام، بدعم أمريكي علني وصريح، مؤخرا مركزا لعدد كبير من الشراكات الدفاعية الجديدة التي ربطتها بالهند وكوريا الجنوبية واليابان والفلبين وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا وأستراليا، نظرا لموقع فيتنام الإستراتيجي والبالغ الأهمية في أية مواجهة مستقبلية مع الصين.

التكتيك الثاني: السيطرة على موارد الطاقة

إلى جانب تكتيك الاحتواء لكلٍّ من روسيا والصين من أجل المحافظة على هيمنتها العالمية خلال العام الماضي، عملت الولايات المتحدة أيضا خلال العام الماضي على إعادة صياغة التوازنات الإقليمية في كثير من المناطق الاستراتيجية في العالم، وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط من أجل إحكام سيطرتها على موارد الطاقة ذات الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية البالغة لموسكو وبكين. حيث يرى عدد من الخبراء أن محاولات واشنطن الحالية لصياغة شرق أوسط جديد من بين أهدافها التحكم بشكل مطلق في موارده من البترول والغاز الطبيعي. فهذا التحكم يمكن توظيفه عند الحاجة كسلاح لخنق وتركيع كل من روسيا والصين . فموسكو تعتمد بشكل جوهري على عوائد تصدير موارد الطاقة، وبالتالي فإن مستوى أسعارها العالمية يعد عاملا حاسما في رفاهيتها الاقتصادية وتماسكها الاجتماعي بل وقوتها العسكرية أيضا. أما بكين فهي تفتقر إلى موارد الطاقة المحلية، وتعتمد بشكل رئيس على واردات الطاقة الخارجية من أجل ضخ الدماء في شرايين اقتصادها المتنامي.
عمدت الولايات المتحدة إلى إعادة نشر أساطيلها بشكل مكثف في منطقة آسيا والمحيط الهادي، في إطار استراتيجيتها الجديدة المعروفة باسم "الانعطافة نحو آسيا"

وفي هذا الإطار، قامت واشنطن في العام الماضي بتعزيز وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط، الغني بثروات الطاقة، عن طريق التضخيم من خطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف إعلاميا باسم " داعش". ففي 5 سبتمبر 2014، قادت الولايات المتحدة قمة حلف الناتو، التي انعقدت في مدينة نيوبورت بمقاطعة ويلز البريطانية، للتأكيد على أن تنظيم داعش، أصبح يشكل تهديدا خطيرا على المجتمع العالمي، وتعهدت بالتصدي له، والتضييق على موارده المالية، وملاحقته عسكريا، والتعاون مع الدول الصديقة في مجال جمع المعلومات لمكافحته والقضاء عليه. وأشارت القمة أيضا إلى أن تنظيم داعش له مخاطر متعددة، مثل: تصدير الإرهابيين إلى العالم، والسعي إلى السيطرة على موارد الطاقة المهمة، وصب الزيت على نار الطائفية المشتعلة بالفعل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي منطقة تتسم بالحدود الهشة والفقر وتجارة السلاح. وشددت القمة أيضا على أن تنظيم داعش لديه أيديولوجية مختلفة ترفض الديمقراطية الليبرالية، وتؤكد على معاداة الغرب، وتطلع لاقتناص كل الفرص المتاحة لتقويض قيم الحرية الفردية والديمقراطية واحترام سيادة القانون، وحقوق الإنسان. وأضاف البيان الختامي للقمة أن الحلف أصبح في خط المواجهة الأمامي لمعركة جديدة بين التسامح والتعصب، بين الديمقراطية والاستبداد، بين المجتمعات المفتوحة والمغلقة.

ومن اللافت للنظر في هذه القمة، كلمة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في الجلسة الختامية، والتي أكد فيها على وجود إجماع تام بين دول الحلف على ضرورة "دحر هذا التنظيم الهمجي الذي يتسبب في فوضى عارمة بالمنطقة، ويؤذي كثيرا من الناس، ويشكل تهديدا طويل الأجل لأمن وسلامة المجتمع الدولي". وفي إطار طرحه لاستراتيجية واشنطن تجاه داعش، ألمح أوباما إلى إمكانية شن حملة عسكرية واسعة، شبيهة بتلك التي قام بها الجيش الأمريكي في مواجهة تنظيم القاعدة على طول الحدود الباكستانية مع أفغانستان، من أجل استئصال قيادته، وتقليص الأراضي التي استولى عليها، ودك العناصر الموالية له عبر ضربات جوية منتظمة باستخدام طائرات بدون طيار. كما رأى الرئيس أوباما أيضا ضرورة التعاون مع الدول العربية، وتحديدا ذات الغالبية السنية، للقضاء على تنظيم داعش لما يمثله من فكر إرهابي متطرف.

التكتيك الثالث: اللعب على وتر الديمقراطية

إلى جانب تكتيكي الاحتواء وإحكام السيطرة على موارد الطاقة في منطقة الشرق الأوسط، حاول صانعي القرار في واشنطن خلال العام الماضي أيضا الاستفادة من جميع الفرص الممكنة لاستنزاف خصومهم في روسيا والصين، وذلك على مستويات الانتخابات، والأقليات الإثنية، والاضطرابات الاجتماعية، والنزاعات الدينية، مستفيدين في ذلك مما يملكونه من وسائل مختلفة للقوة الناعمة كالإعلام ومراكز الفكر والموسيقى والسينما والتحكم التقني بالإنترنت. حيث استمرت واشنطن في تقديم نفسها كداعمة لقيم الديمقراطية الليبرالية الحديثة واحترام حقوق الإنسان. وهو ما ظهر واضحا من مواقفها المعلنة تجاه تأييد المطالب المنادية بالإصلاح الديمقراطي في هونج كونج (المهمة للصين)، بعد تأييدها الصريح والعلني أيضا لأنصار الديمقراطية الغربية في أوكرانيا (المهمة لروسيا). وقد أسهم الموقف الأمريكي في تصعيد الأحداث في جزيرة هونج كونج بسرعة منذ الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر الماضي. حيث بدأ اتحاد الطلبة وحركة "احتلوا المركز" المطالبة بالإصلاح الديمقراطي في الجزيرة، وبدعم أمريكي مباشر وغير مباشر، سلسلة من المظاهرات السلمية، استمرت لأكثر من عشرة أيام، بهدف شل الحياة في الجزيرة، من أجل الضغط على الحكومة الصينية لتغيير موقفها الراهن فيما يخص انتخاب الرئيس التنفيذي في عام 2017 عن طريق لجنة يشرف عليها الحزب الشيوعي الصيني. حيث يطالب المتظاهرون بألا تدخل بكين بأي شكل في اختيار هذا الرئيس على أن يكون انتخابه مباشرة من الناخبين في هونج كونج. كما أكد المشاركون في "ثورة المظلات"، وهي التسمية التي أطلقت على المظاهرات المنادية بالديمقراطية في الجزيرة لقيام المتظاهرين باستخدام مظلاتهم للحماية من قنابل الغاز المسيل للدموع والفلفل الأسود التي أطلقتها عليهم قوات الشرطة، على ضرورة المحافظة على هويتهم كـ "هونج كونجيين" وليسوا "صينيين"، مشيرين إلى رغبتهم في العيش بحرية في ظل نظام ديمقراطي حقيقي يسمح لهم باختيار من يحكمهم، بعيدا عن الاستبداد والقمع والاضطهاد الذي يمارسه الحزب الشيوعي الصيني، خاصة وأنهم يشعرون بالقلق وعدم الرضا تجاه الكيفية التي يتم حكمهم بها.

وفي مواجهة ذلك، انتقد المسئولون في الصين وهونج كونج بشدة هذه المظاهرات، التي يشارك فيها "الخونة والعملاء" المدعومين من الولايات المتحدة، وأيدهم في ذلك العديد من رجال الأعمال والسياسيين البارزين الذين عبروا عن خشيتهم من أن تقوض هذه المظاهرات استقرار هونج كونج وازدهارها الاقتصادي، مؤكدين عزمهم على عدم الاستجابة للتدخل الأمريكي والغربي في شئونهم الداخلية.

يرى الروس والصينيون أن مصر، بقيادة السيسي، قد تغير من موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط

وفي ضوء هذه التطورات، أكد الكثير من المراقبين خلال العام الماضي على أن "ثورة المظلات" في هونج كونج تمثل كابوسا مزعجا لقادة الحزب الشيوعي في بكين. فهي أول مظاهرات ضخمة تطالب بالديمقراطية منذ أحداث ميدان تيانينمين عام 1989. كما أنها أول اختبار جدي، لقادة الصين الجدد، بزعامة الرئيس الصيني تشي جينبينج، الذي تولى منصبه في مارس 2013. حيث يدرك قادة الحزب الشيوعي الصيني أن مثل هذه المظاهرات والحركات الاحتجاجية، المدعومة أمريكيا، قد نجحت أخيرا في الإطاحة بالعديد من الأنظمة الحاكمة في تونس والقاهرة وطرابلس وكييف. ومن ناحية أخرى، يدرك قادة الحزب الشيوعي الصيني أيضا أن الاستجابة لمطالب المتظاهرين، وتقديم تنازلات لهم، حتى وان كانت محدودة، قد تؤدي إلى تأجيج المطالب الانفصالية في أنحاء البلاد، وهو ما قد يؤدي إلى تقسيمها وتفككها، على غرار ما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق، خاصة مع وجود معارضة سياسية في العديد من الأقاليم الصينية، وفي مقدمتها إقليم التبت وإقليم تشينج يانج الذي تسكنه أغلبية الإيجور المسلمة.

ثانياً- التقارب الروسي الصيني

التكتيكات الأمريكية الثلاثة سالفة الذكر للمحافظة على هيمنتها العالمية خلال العام الماضي في مواجهة القوى الصاعدة عالميا وفي مقدمتها روسيا والصين، زادت التقارب بين موسكو وبكين بشكل غير مسبوق، حيث تواترت الأنباء في الشهور القليلة الماضية عن صفقات ضخمة في مجالات الطاقة والتمويل والتسليح بين الجانبين. ومن أهم الصفقات التي تم التوقيع عليها اتفاق في مايو 2014 ينص على بيع  الغاز الروسي إلى الصين لمدة ثلاثين عاما، بمعدل أربعين مليار متر مكعب سنويا، بقيمة إجمالية تبلغ نحو أربعمائة مليار دولار. كما توصلت الدولتان أيضا إلى اتفاق حول دعم تنفيذ مشروع بناء خط لأنابيب الغاز على الأراضي الروسية الصينية، وقد بدأ بناء الجزء الروسي من الخط في مقاطعة ياكوتيا بشمال البلاد. وسياسيا، برز وجود رؤية مشتركة بين موسكو وبكين بشأن العديد من القضايا العالمية الساخنة، وفي مقدمتها الأزمة السورية والملف النووي الإيراني. حيث تقوم الدولتان حاليا بدعم الرئيس بشار الأسد في سوريا، وتقاومان عملية تكثيف الضغوط والعقوبات الدولية علي إيران. بل وتتعاون موسكو بنشاط مع طهران في المجال النووي منذ فترة طويلة، كما دخل أسطول المحيط الهادئ الروسي لأول مرة البحر الأبيض المتوسط منذ عقود. ويظهر التحدي الأكبر من جانب روسيا والصين للولايات المتحدة حاليا في منطقة الشرق الأوسط بشكل جلي في دعمهما المتواصل سياسيا واقتصاديا وعسكريا للنظام الحالي في مصر، بزعامة الرئيس عبد الفتاح السيسي. حيث يرى الروس والصينيون أن مصر، بقيادة السيسي، قد تغير من موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، خاصة إذا ما قررت القاهرة مراجعة تحالفها الأمني والإستراتيجي مع واشنطن، نتيجة تردد الإدارة الأمريكية في الاعتراف بالإطاحة بجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، بالإضافة إلى تهديدات واشنطن المتكررة بقطع المساعدات المالية والعسكرية عن مصر. وفي ضوء ذلك، لم يكن غريبا أن يشير عدد من التقارير، خلال العام المنقضي، إلى جاهزية روسيا والصين لتصبحا الموردين الرئيسيين للسلاح إلى مصر، والحليفين الأنسب للسلطة الجديدة في مصر لمحاربة الجماعات الدينية المتشددة.

ثالثاً- مستقبل خطير

إن المحاولات الأمريكية لاحتواء وتطويق روسيا والصين، من أجل المحافظة على هيمنتها العالمية، قد يقود إلى مزيد من التوترات والصراعات الإقليمية في الفترة المقبلة، خاصة في شرق أوربا وشرق آسيا فضلا عن منطقة الشرق الأوسط، التي تشهد صراعا كبيرا من أجل خلق شبكة تحالفات جديدة تعكس طبيعة العلاقات الجديدة بين واشنطن وحلفائها من ناحية وموسكو وبكين ومناصريهم من جهة أخرى.

كما من المتوقع أيضا أن تقود المحاولات الأمريكية لاحتواء صعود موسكو وبكين عسكريا واقتصاديا، كلتا الدولتين إلى التعاضد معا في مواجهة واشنطن أكثر من أي وقت مضى، وهو ما سيمثل بداية لسلسلة متوالية من التفاعلات الدولية التي من شأنها أن تقود في النهاية إلى "حرب باردة جديدة". وربما يكون قرار بكين أخيرا إنشاء بنك آسيوي جديد للاستثمار في مشروعات البنية الأساسية، أحد المؤشرات المهمة على هذه الحرب، حيث يمثل هذا البنك، حال بدء تشغيله الفعلي على أرض الواقع، نقلة نوعية جديدة من شأنها تعديل النظام المالي العالمي، الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والدول الغربية حاليا بشكل رئيسي. على أية حال، سيكون استئناف الحرب الباردة فاجعة تاريخية لابد من محاولة تجنّبها قدر الإمكان.


* خبير العلاقات الدولية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية