(ثم لاحت في مخيلته صورة شخصية أخرى لها كيان علمي
وأدبي، ...، تلك هي شخصية "أحمد تيمور باشا" ذلك العالم الجليل سليل المجد
والصديق الشخصي للملك فؤاد)(ص60).
(استصحب حسن البنا معه عددا ممن
استجاب له من هيئة كبار العلماء لمقابلة أحمد باشا تيمور في منزله، ...
فاستقبلهم الرجل أحسن استقبال وكان يعرفهم جميعا عدا هذا الشاب الصغير،...،
وتقدم هذا الشاب فتحدث عن الموضوع حديث الثكلى عن فلذة كبدها، ووصف الحال
التي تظل البلاد وكيف يعبث المبشرون فسادا تحت سمع الحكومة وبصرها بل وفي
حمياتها وانفجر في البكاء حتى أبكى الباشا فأبكى الحاضرين.) (ص61).
(وجاءت
سيرة الملك فؤاد فقال تيمور باشا إنه صديقي وأثق في غيرته على الإسلام،
وتعددت الاجتماعات ونوقشت أفكار ومقترحات وانتهت إلى قرار بأنه أول إجراء
لا بد منه أن نصدر مجلة تتصدى لهذه المؤامرة،... وبمجهود تيمور باشا وتدخل
الملك فؤاد صدرت (مجلة الفتح) واسندت رياسة تحريرها إلى الكاتب الاسلامي
العظيم الأستاذ محب الدين الخطيب)(ص61).
(أخذت مجلة الفتح تفضح مؤامرات الإنجليز، فاضطر الإنجليز إلى الانحناء أمام العاصفة)(ص61).
(ولم
تستطع الحملة الصليبية المسعورة بعد ذلك أن تثبت في أماكنها إلا أياما
معدودة، فكل يوم تجلو عن البلاد فرقة منهم حتى طهرت منهم البلاد في أشهر
معدودات.)(ص62).
سادسا: تحليل الخطابإذا
تأملت العبارات الخاصة بتصوير المأساة، سوف تخرج بالنتائج التالية: الحملة
التبشيرية انتشرت في كل أنحاء البلاد، أن الملك وحكام الأقاليم حتى العمد
في القرى جميعهم متواطئون مع هذه الحملات التبشيرية، أن الصحافة لم تقاوم
الحملة، لأن الملك يملك بحكم القانون سحب الترخيص من أي صحيفة إذا قاومت
هذه المؤامرة المدبرة على إذلال الشعب وتكفيره، أن هذه الحملة الضخمة –
بحسب تصوير عبدالحليم لها- لم تخرج بمحصول يزيد على عشرات الأفراد.
أما
إذا تأملت عبارات البطولة، وكيف تظهر صورة البطل فيها، سوف تجد أنه يعطي
لحسن البنا الدور الأعظم: فهو الواعي بالمشكلة، وهو المبادر - دون غيره-
لإيجاد مخرج لها ( كاد صدري يحترق، فكر حسن البنا، ثم لاحت في مخيلته) وهو
البطل المحرك للأمور، الذي يؤجج المشاعر الدينية، فبفضله يتم تجميع هيئة
كبار العلماء في الأزهر، وترتيب لقائهم بصديق الملك فؤاد الأول، ثم تأتي
ذروة الحبكة بقوله (استصحب حسن البنا معه عددا ممن استجاب له من هيئة كبار
العلماء لمقابلة أحمد باشا تيمور) العبارة شديدة الدلالة، فالتصوير هنا
يركز على البطل حسن البنا، والمستجيب تيمور باشا والباقي من كبار العلماء،
نكرات لا أهمية لهم.
ثم ما النتيجة: الملك فؤاد يأمر بإصدار (مجلة
الفتح) برياسة محب الدين الخطيب، لتقوم بمهمة التصدي لهذه الحملة الصليبية،
أي أن الملك لم يعد ذلك المتواطئ على الإسلام، كما ذكر في تصوير المأساة.
ثم وبكل بساطة، لم تستطع الحملة الصليبية المسعورة بعد ذلك أن تثبت في
أماكنها الا أياما معدودة.
نترك خطاب البطولة، ونعود إلى الواقع
والتاريخ، بحثًا عن أسباب نشأة (مجلة الفتح) وأهدافها المعلنة والمستترة،
لنرى هل كانت نشأتها بسبب الحملة التبشيرية المزعومة في خطاب محمود عبد
الحليم، أم أن هناك أسبابا أخرى.
الحقائق التاريخية، تقول إن مصر كانت
مشغولة في تلك الفترة 1922- 1926 بشاغل وحيد، وهو سقوط الخلافة العثمانية
على يد مصطفى كمال أتاتورك، السقوط الذي ترتب عليه ظهور ثلاث فرق: الأول
مناصر للأتاتوركية، والثاني يحاول التوفيق، والثالث يرفضها تماما على أساس
أنها وبال على الأمة الإسلامية، وتفتح باب الإلحاد على مصراعيه.
لقد خلق
قرار مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة، مناخا جديدا، فالكل ينوح على
الخلافة والكل طامع أن يكون الخليفة، وأولهم بطبيعة الحال كان الملك فؤاد
الأول نفسه، بالإضافة إلى الشريف حسين في الحجاز والشام، والملك أمان اللـه
ملك الأفغان، والكل يحرك أنصاره ومريديه للدعوة له، ومن خلفهم الانجليز
يرغبون في إسناد المنصب لحليف لهم، يسوغ لهم البقاء دون مقاومة في الأقطار
الإسلامية التي يحتلونها. وعلى إثر ذلك، قام الشيخ يوسف الدجوي باستئذان
الملك فؤاد في دعوة البلاد الإسلامية إلى مؤتمر لبحث موضوع الخلافة، مهمته
اختيار خليفة وعاصمة جديدة للخلافة الإسلامية.
وفي نفس السياق، بدأت
الجامعة المصرية الوليدة، تغير الفضاء الثقافي، وتهزه هزًا عنيفا، الأمر
الذي قاومته التيارات المحافظة أشد مقاومة، واعتبرت هذه الجامعة بابا من
أبواب الإلحاد، بل أن المجلة المذكورة، في عددها الثاني وصفت الجامعة
المصرية بالإلحادية خليفة الأزهر المتوفي غير مأسوف عليه (مجلة الفتح،
عدد2، ص4) بالإضافة إلى صدور كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول
الحكم) في عام 1925، ليصب المزيد من الزيت على النار المستعرة.
على أية
حال فقد انعقد مؤتمر الخلافة المذكور، بعد عدة تأجيلات في مايو 1926، وفشل
المؤتمر في الاتفاق على خليفة وعاصمة للخلافة، وصدر بيان المؤتمر الختامي
وفحواه: أن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المقررة في كتب الشريعة
الغراء، التي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ
أحكام الشريعة الغراء فيها، لا يمكن تحقيقها بالنسبة للحالة التي عليها
المسلمون الآن". إذن فقد انتهى المؤتمر إلى ما سبقهم إليه مصطفى كمال الذي
صار عدوا للجميع، والداعي الأول للإلحاد في الشرق والعالم الإسلامي.
على
أية حال فإن المشهد السياسي الإسلامي صار مرتبكا إلى أقصى درجة، فالنظم
الحاكمة العربية والإسلامية، ترغب في الانفتاح على سبل الحداثة والتقدم
الغربين، لكن بعد ما حدث في تركيا، وبعد فشل مؤتمر الخلافة، صارت في موقف
لا تحسد عليه، وتخشى من انتقال العدوى التركية، الأمر الذي جعلها تتحالف مع
التيارات المحافظة ضد التيارات الحديثة أو حتى التيارات التوفيقية، وتطلق
يد هذه التيارات في النيل من كل المفكرين المخالفين لهذه السلفية الدينية
السياسية، وبسبب ذلك صدرت مجلة الفتح المذكورة بمباركة من الملك فؤاد في
أعقاب فشل مؤتمر الخلافة مباشرة.
ويتضح الأمر أكثر بالاطلاع على الأهداف
التي حددها رئيس تحرير مجلة الفتح، في العدد الأول الصادر في يوم الخميس
الموافق 20 يونيه 1926. حيث يذكر محب الدين الخطيب سبعة أهداف هي: (احياء
ذكريات المدينة الإسلامية، صلاح الأصول الإسلامية للانطباق على مقتضيات كل
عصر ومكان، مقاومة الإلحاد ودعوى التجدد الكاذب، عرض أخبار العالم
الإسلامي، نقل قطع مختارة من السلف المتعلقة بالروح الإسلامية، بيان أسس
التشريع في الملة الإسلامية، تفسير القسم الاجتماعي والاخلاقي من القرآن
الكريم والسنة النبوية).
والقارئ للعدد الافتتاحي للمجلة، يجد أنها تسير عكس الاتجاه الذي صورة حسن
البنا لمحمود عبدالحليم، فلا يوجد مقال واحد، يشير من قريب أو بعيد للحملة التبشيرية
المزعومة، بل على العكس يقدم العدد مقالاً عن مزايا التعليم الأمريكي، وينشر
مقالات لثلاثة مستشرقين، ولم يختلف الوضع في الأعداد التالية للمجلة.
سابعاً: خطاب ادعاء البطولةيتضح مما
سبق، أن خطاب البطولة الذي تم تصويره، ووضع حسن البنا في مركزه، لم يكن سوى
عملية سردية محبكة، وهو بالتأكيد من نوع خطاب ادعاء للبطولة، يستثمر
الأحداث التاريخية، ويحاول الزج بالبطل داخل هذه الأحداث بوصفه من الفاعلين
الأساسيين، والحقيقة أن محمود عبد الحليم، وهو ينقل بأمانة عن حسن البنا،
قد فشل في ضبط الحبكة السردية سواء في تصوير الحملات التبشيرية، أو في وضع
البطل في مركز الأحداث المقاومة لهذا الحملات، وحتى نتيجة إصدار مجلة الفتح
لم يكن لها علاقة بموضوع البطولة من الأساس.