المركز العربي للبحوث والدراسات : مفاجأة الأكراد: قراءة في نتائج الانتخابات البرلمانية التركية (طباعة)
مفاجأة الأكراد: قراءة في نتائج الانتخابات البرلمانية التركية
آخر تحديث: الأربعاء 10/06/2015 12:47 م د.أحمد موسى بدوي
مفاجأة الأكراد: قراءة

لم يكن السابع من يونيه 2015 موعداً لإجراء الانتخابات البرلمانية التركية فحسب، وإنما بالتأكيد هو يوم انعطفت فيه الخارطة السياسية التركية منعطفا جديدا، لذلك فقد تابع العالم  باهتمام بالغ وقائع هذه الانتخابات الأهم بكل المقاييس بعد انتخابات 2002 التي أوصلت حزب العدالة والتنمية الى السلطة. وفي هذا المقال نحاول تقديم قراءة أولية لنتائج هذا اليوم، وكيف تمكن حزب الشعوب الديمقراطي من تحقيق المفاجأة،  وقلب موازين القوى داخل البرلمان التركي الجديد.

حزب العدالة والتنمية لم يحقق الحد الأدنى من طموحاته في الانتخابات البرلمانية

أولاً: البرلمان التركي حسابات وأرقام

لدى تركيا واحدة من أهم العقبات الانتخابية في العالم، وهو القانون الذي يسمى "العتبة الانتخابية" الصادر في عام 1980، ويقضي بضرورة حصول أي حزب سياسي على نسبة 10% من مجموع الأصوات كشرط  لدخول البرلمان. ومن المعلوم أن هذه العقبة  وضعت  بهدف منع الأكراد وقوى الإسلام السياسي من الدخول إلى البرلمان في ذلك الوقت.  غير أن حزب العدالة والتنمية بعد وصوله للسلطة في عام 2002، قاوم تغيير هذا القانون، ولم يستجب لمطالب المعارضة في عام 2010، بطرحه ضمن  التعديلات الدستورية المقترحة آنذاك، لأنه الرابح الأول من وجود العتبة الانتخابية، التي تمنحه غالبية أصوات الأحزاب الصغيرة التي لم تتجاوز نسبة الـ 10%.

يبلغ عدد أعضاء البرلمان التركي (550 عضو)، والحزب الذي ينجح في حصد أكثر من 275 مقعداً يستطيع أن يشكل الحكومة منفرداً، كما يحتاج أي حزب إلى 367 مقعداً، من أجل تعديل الدستور دون الحاجة إلى اجراء استفتاء شعبي على هذه التعديلات. ويمكن لأي حزب لديه 330 معقداً داخل البرلمان أن يطرح تعديلات دستورية للاستفتاء الشعبي. ويبدو من النتائج الأولية، أن حزب العدالة والتنمية لم يتمكن من تحقيق الحد الأدنى من طموحاته، فلن يتمكن الحزب من تشكيل الحكومة بشكل منفرد، تمكنه من الاستمرار في إحكام السيطرة على مؤسسات الدولة، ولم يعد بإمكانه حال تشكيل الحكومة الائتلافية من تحقيق طموحه في تعديل النظام السياسي التركي من برلماني إلى رئاسي.

لأول مرة منذ منذ عام 2002 تنجح أربعة أحزاب تركية في تخطي العتبة الانتخابية

ثانياً: النتائج الأولية لبرلمان 2015

علينا في البداية التأكيد على أن المواطن التركي، يستحق أن نقف له احتراما، بغض النظر عن نتائج الانتخابات البرلمانية، لأنه يقدم البرهان تلو البرهان، على أنه مواطن لا يفرط في ممارسة حقوقه السياسية، حيث بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 84% وهي نسبة تفوق المعدل العالمي بكثير. ورغم التحفظ على سياسة الحكومة التركية الخارجية، فإنها تستحق أيضاً الاشادة على إدارتها للانتخابات البرلمانية بنزاهة مشهودة.

جرت الانتخابات في أجواء تنافسية ساخنة، ولأول مرة منذ عام 2002 تنجح  أربعة أحزاب في تخطي حاجز الـ 10%، وهو تطور جديد، يدل على بوادر تغيير في الخريطة السياسية التركية. وتشير النتائج الأولية إلى حصول العدالة والتنمية على 40% من الأصوات، (259 مقعدا مقابل 327 مقعدا في 2011) يليه حزب الشعب الجمهوري بنسبة 25%  (132 مقعدا مقابل 138 مقعدا في 2011) ثم حزب الحركة القومية بنسبة 16% (80 مقعدا مقابل 50 مقعداً في 2011)  وحصول حزب الشعوب الديمقراطي على 13% (79 مقعداً مقابل 37 مستقل كردي في 2011).  المعركة الرئيسية في هذه الانتخابات كانت بين  حزبي الشعوب وبين العدالة والتنمية، بينما دارت معركة فرعية هامة بين حزبي الشعوب ، والحركة القومية.

بالنسبة للمعركة الرئيسية، فقد راهن الحزب الحاكم على اخفاق حزب الشعوب (تأسس في 2012) في تخطي العتبة الانتخابية، ما يعني توزيع ما يحصل عليه في الانتخابات على الأحزاب الثلاثة الأخرى، ونصيب العدالة والتنمية سيكون الأكبر بطبيعة الحال، ما يسمح له بتمرير مشاريعه السياسية. الشاهد، أن العدالة والتنمية لم يفلح هذه المرة في استثمار الملف الكردي لصالحه، كما احترف ذلك منذ تولي السلطة، ولم تفلح حملته الهجومية على حزب الشعوب  في شق الصف الكردي.

وفي المقابل أقدم  حزب الشعوب على مغامرة خطيرة  حين قرر الدخول بقائمة حزبية،  بدلا من ترشيح كوادره كمستقلين، كما جرت عادة الأكراد في الاستحقاقات السابقة، ومكمن الخطورة هنا، أنه في حال فشل الحزب في بلوغ العتبة الانتخابية، فإنه سيخسر كل شيء. فما الذي شجع الأكراد على خوض هذه  المغامرة؟ يمكن تحديد ثلاث عوامل لذلك (1) يبدو أن العدالة والتنمية لم يعد يملك أوراق يلعب بها مع الأكراد بعد توتر العلاقة بينهما، وميل الحزب الحاكم إلى التسويف وعدم الحسم في المسألة الكردية.  (2) المكاسب السياسية التي حققها الأكراد في الإقليم  في أعقاب الربيع العربي،  ما يدفع  بالسلوك السياسي الكردي إلى الانتقال من حالة  اللامبالاة إلى الفاعلية، ومن اليأس إلى الأمل. (3) الزخم المصاحب لترشح صلاح  دمرطاش  زعيم حزب الشعوب في الانتخابات الرئاسية التركية، وقدرته على جذب الصوت الكردي، ومهارته في حشد  أطياف وأقليات  أخرى غير الأكراد، مثل الأشوريين، التركمان، الأرمن، والعلويين، فضلا عن أفكاره اليسارية العامة.

أما المعركة الفرعية، فقد استفاد منها كلا الحزبين (الحركة القومية ، والشعوب الديمقراطي) ،  الأول ممثل القومية التركية الرافض لمنح حقوق اجتماعية أو ثقافية للأكراد، والثاني ممثل القومية الكردية، الذي يناضل من أجل هذه الحقوق. ومن الطبيعي أن يثير صعود حزب الشعوب قلقا متزايدا لدى مؤيدي حزب الحركة، ما دفعهم إلى التكتل خلف حزبهم، وارتد هذا التكتل على الشعوب ايجابيا كذلك، في صورة  حشد لمواجهة التحدي، واثبات الوجود الكردي. والنتيجة أن حزب الحركة القومية كسب في هذه المعركة ثلاثون معقداً جديداً، بينما كسب حزب الشعوب أكثر من أربعين مقعد مقارنة بما تحصل عليه الأكراد المستقلون في برلمان 2011. 

تراجع العدالة والتنمية مرتبط بأداء الحكومة، والخطاب الاردوغاني المثير للجدل

  ثالثاً: أسباب تراجع العدالة والتنمية ومسئولية أردوغان

لدينا نوعين من العوامل التي أدت الى تراجع حزب العدالة والتنمية، العامل الأول يرتبط بأداء حكومة العدالة والتنمية، في الملف الاقتصادي، وموقفها من محاربة الفساد، و من الحريات، وعلاقتها  بالمؤسسات السيادية وخاصة القضاء والشرطة.  حيث تشير الاحصاءات الاقتصادية الكلية، إلى  تراجع الاقتصاد التركي في عام 2014، من حيث انخفاض  معدل النمو  لأقل من 3% ، ارتفاع نسبة التضخم، تدهور قيمة العملة التركية، ارتفاع نسبة العجز الكلي للميزانية. بينما أخفقت الحكومة في كسب ثقة المواطن التركي، في التعامل مع ملفات الفساد، وميلها للتعسف مع مؤسسة الشرطة والقضاء، لإجبارها على غلق  الملفات المتهم فيها قيادات من العدالة والتنمية وأبناءهم. بالإضافة  الى تضييق هامش الحرية التي كانت تتمتع به تركيا في السنوات الأخيرة، خاصة ما يتعلق بملاحقة عناصر "جماعة الخدمة"، ذات التأثير الاجتماعي والثقافي في الأوساط التركية.

أما العامل الثاني فيرتبط ، بشخص رجب طيب أردوغان نفسه، وطموحاته المثيرة للجدل. وميله الدائم نحو الاتهام والتحقير وتخوين قوى المعارضة التركية. ولم يسلم منه كبار موظفي الدولة. كما أنه تورط في الدعاية والترويج  لحزبه في هذه الانتخابات، مخالفا الدستور والقانون، ولم يعد رئيسا لكل الأتراك في نظر قطاعات كبيرة من المواطنين. وعلى الصعيد الخارجي، تجاوز أردوغان الأعراف الدبلوماسية في التعامل مع القضايا الخارجية، بتهوره في التدخل في الشئون الداخلية لبلدان المنطقة، وخلق حالة تصادمية في علاقته مع دول الشرق الأوسط وخاصة مصر ودول الخليج العربي في أعقاب ثورة 30 يونيه 2013. 

تورط أردوغان في الداعية لحزبه مخالفا الدستور، ولم يعد بذلك رئيسا لكل الاتراك

رابعاً:  حكومة تحالف أم انتخابات مبكرة

أصبح لزاماً بعد هذه النتائج تفاوض الكل مع الكل، من أجل تكوين تحالف حزبي يتجاوز نسبة الـ 50% ، يسمح بتشكيل الحكومة، ويكفي العدالة والتنمية التحالف مع حزب واحد فقط من الأحزاب الثلاثة الباقية، بينما يتوجب على حزب الشعب الجمهوري أن يتحالف مع الحركة القومية وحزب الشعوب معا. وتثير التصريحات الأولية لزعماء الأحزاب الثلاثة رفضها التحالف مع العدالة والتنمية.  ويبقى الاحتمال الثاني وهو  تشكيل تحالف (الشعب، الحركة، الشعوب)، وهو احتمال ضعيف،  صعب التحقق بسبب اختلاف المرجعيات ، والعداء التاريخي بين الحركة القومية والأكراد. ومع ذلك فإن المسلمات السياسية تسقط أمام البرجماتية والمصالح المشتركة. وإذا لم تتمكن الأحزاب من  تشكيل تحالف في غضون 90 يوم،  سوف يصدر رئيس الجمهورية قراراً بإجراء انتخابات  مبكرة. ووفقا لطريقة التفكير الأردوغاني ، فالمرجح أن العدالة والتنمية سوف تدعو إلى انتخابات مبكرة، ولن تقبل بالتعايش ضمن حكومة ائتلاف، ولن يقبل أردوغان أن تتحطم أحلامه على عتبة البرلمان الجديد.

لكن في حال تكوين التحالف وتشكيل الحكومة، فإن أردوغان سيواجه صعوبات كبيرة في التعامل مع الحكومة الائتلافية، فلن يتمكن من بسط هيمنته على الحكومة كما كان يفعل، ويبدو كذلك  أن ملف التحول الى نظام رئاسي، قد طوي نهائيا بعد هذه النتائج التي تعد استفتاء شعبيا مسبقا ضد توجهات أردوغان وأحلامه السلطانية. ومع ذلك فإن هذه الانتخابات جرت في مناخ حر، واتسمت  بالنزاهة، وعكست إرادة الناخبين، وحركت الركود في الحياة السياسية التركية، ولكنها أبقت كافة الاحتمالات متاحة.