المركز العربي للبحوث والدراسات : تشكيل متعثر: الدور التركي الجديد في الشرق الأوسط (طباعة)
تشكيل متعثر: الدور التركي الجديد في الشرق الأوسط
آخر تحديث: الأربعاء 08/07/2015 10:56 ص د. محمد السعيد إدريس
تشكيل متعثر: الدور
قدمت الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت يوم الأحد (7 يونيو/ حزيران الجاري) درسًا مهمًا للدول العربية قبل غيرها. فمعظم الدول العربية تعاملت في العامين الأخيرين مع تركيا باعتبارها رجب طيب أردوغان، أو حكومة رجب طيب أردوغان. فقد غابت الدولة التركية والمجتمع التركي والشعب التركي بكل مكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية عن حسابات معظم الدول العربية فتحولت العداءات مع أردوغان وحكومته وحزبه "العدالة والتنمية" إلى عداءات مع تركيا، كما تحولت الصداقات مع أردوغان وحكومته وحزبه إلى صداقات مع تركيا. الآن تغيرت الخريطة السياسية تمامًا، ولن يكون أردوغان صاحب الكلمة الأولى، أو صاحب الإرادة المطلقة في إدارة السياسة والحكم في تركيا، إذا نجح في أن يكون حزبه طرفًا أساسيًا في حكومة ائتلافية، أما إذا استطاعت المعارضة أن تشكل حكومة ليس لحزب العدالة والتنمية وجود فيها فإن الأمور ستختلف تمامًا.
لن يكون أردوغان صاحب الكلمة الأولى، أو صاحب الإرادة المطلقة في إدارة السياسة والحكم في تركيا
أولا- قراءة في مشهد ما بعد الانتخابات
لقد وضعت نتائج الانتخابات التي لم يستطع حزب العدالة والتنمية أن يفوز بالأغلبية المطلقة (نصف المقاعد +1) أمام أحد خيارين أحلاهما شديد المرارة: فإما أن يقبل بحكومة ائتلافية بشروط الأحزاب التي ستدخل في هذه الحكومة، وإما الدعوة إلى انتخابات مبكرة، على أمل استعادة زمام المبادرة مرة أخرى باستعادة الأغلبية المطلقة.
واقع الحال الآن يقول إن حزب العدالة والتنمية ليس له في البرلمان الجديد غير 258 نائبًا بعد أن كان 327 نائبًا في البرلمان السابق، ولكي يستطيع أن يشكل حكومة منفردة فإنه في حاجة إلى 18 نائبًا من أحزاب المعارضة ليصبح لديه 276 نائبًا، وهو الحد الأدنى المطلوب لتشكيل الحكومة، فمن أين سيأتي بهذا العدد من النواب؟
والإجابة من المعارضة، والمعارضة بينها من يرفض أن يدخل في حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية بالمطلق مثل "حزب الشعوب الديمقراطي" وزعيمه صلاح الدين ديميرطاش الذي تجاوز حاجز الـ "10% اللعين" الذي كان يحول دون دخول الحزب في السابق البرلمان، لكن الحزب استطاع أن يقتنص فوزًا تاريخيًا بفضل زعامته التي تنافس زعامة أردوغان، وقدرات هذا الزعيم الشاب الكاريزمية الذي نجح في توحيد الصوت الانتخابي الكردي في كل أنحاء تركيا ضد إردوغان وحزبه، وبفضل أخطاء فادحة ارتكبها إردوغان ضد الأكراد في سوريا وخاصة في منطقة عين العرب (كوباني) عندما انحاز إلى "داعش" ومنع دخول متطوعين أكراد أتراك لنصرة أشقائهم من أكراد سوريا.  
ومن بين أحزاب المعارضة من يفرض "شروط إذلال" للرئيس أردوغان وحزبه للمشاركة في حكومة ائتلافية. فحزب "الشعب الجمهوري" وحزب "الحركة القومية" يطلبان من أردوغان مغادرة "القصر الأبيض" الجديد الذي انتقل إليه بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية وأن يعود إلى القصر الجمهوري القديم في "تشانكايا" كشرط للدخول في أي ائتلاف. وقد وعدهم زعيم حزب الشعب الجمهوري بتسليم "القصر الأبيض" الجديد إلى الجمعيات الخيرية، في حين تعهد حزب "الحركة القومية" بتحويله إلى مجمع للوزارات. 
من بين أحزاب المعارضة من يفرض "شروط إذلال" للرئيس أردوغان وحزبه للمشاركة في حكومة ائتلافية
ثانيا- موقف أردوغان من شروط المعارضة
أردوغان رفض كل الشروط ووضع "خطًا أحمر" حول قصره وحول شرعيته، مؤكدًا أنه لن يقبل مناقشة هذين الشرطين، ونقلت عنه صحيفة "ميليت" أن "الانتخابات المبكرة ستكون حتمية إذا لم يتمكن حزب العدالة والتنمية والمعارضة الرئيسية من تشكيل حكومة جديدة خلال المهلة الدستورية ومدتها 45 يومًا من تاريخ إعلان نتائج الانتخابات"، كما أعلن أنه "يعتزم تكليف حزب العدالة والتنمية أولًا بتشكيل الحكومة الجديدة، وإذا لم يتمكن الحزب الذي جاء في المرتبة الأولى في الانتخابات من تحقيق ذلك، وإذا لم يتمكن الحزب الذي جاء في المرتبة التالية هو الآخر من تشكيل حكومة في حال فشل حزب العدالة والتنمية، فإن التوجه إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى وفقًا للدستور سيكون أمرًا لا مفر منه".  

ثالثا- احتمالات تشكيل الحكومة التركية الجديدة
معنى ذلك أن تركيا تواجه ثلاثة احتمالات:
الأول، أن ينجح حزب العدالة والتنمية تشكيل حكومة ائتلافية مع من يقبل من أحزاب المعارضة وبشروطها، وهي حتمًا تعني وضع نهاية مأساوية لتفرد أردوغان بالسلطة.
أحزاب المعارضة وخاصة حزب "الشعوب الديمقراطية" الكردي لن تعطي لأردوغان فرصة أن يهنأ بانتخابات جديدة وميسرة
الثاني، أن يفشل حزب العدالة والتنمية وينجح ائتلاف معارضة من تشكيل حكومة.

الثالث، أن تفشل المعارضة في تشكيل الحكومة، ومن ثم يكون التوجه حتميًا إلى إجراء الانتخابات الجديدة.

الخيار الأخير له أهمية عند أردوغان على أمل أن ينجح في تحسني ما أفسدته انتخابات السابع من يونيو الجاري، لكنه لا يملك أوراق قوية لخوض مثل هذه الانتخابات في ظل الوضع الراهن المأساوي لحزبه الذي جرى تفريغه من قياداته التاريخيين بسبب رفض أردوغان تغيير أو على الأقل تعديل اللائحة الداخلية للحزب التي تمنع من مرت عليه ثلاث ولايات نيابية من الترشح مجددًا. الذين خرجوا من حلبة الانتخابات البرلمانية الأخيرة من كبار قادة الحزب أمثال بولنيت آرينتش وبشير اتالاي وجميل تشتيشيك على قناعة أن هذه هي إرادة أردوغان كي يتفرد بالزعامة، لكن هذا التفرد كانت نتيجته تفريغ الحزب من قوته الضاربة، لكن هناك أيضًا تحدين أهم؛ أولهما، العداء السافر الذي يكنه تيار فتح اللـه جولين لأردوغان وحزبيهم وإصرارهم على عدم تمكين حزب العدالة والتنمية من التفرد مجددًا بالسلطة. ثانيهما، أن أحزاب المعارضة التي فازت بجدارة في هذه الانتخابات وخاصة حزب "الشعوب الديمقراطية" الكردي لن تعطي لأردوغان فرصة أن يهنأ بانتخابات جديدة وميسرة حتى ولو نجح في استغلال بوادر أزمة اقتصادية أخذت تفرض نفسها، لإدراكهم أنه هو من يسعى إلى افتعال هذه الأزمة كورقة ضغط على الناخبين تحمل رسالة تقول أنه "بدون حزب العدالة والتنمية لا تقَدُّم ولا رخاء اقتصادي".
بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن أردوغان سوف يضطر إلى القبول بالقانون الجديد، أي قانون الائتلافات الحكومية بما يتضمنه من حسابات معقدة أهمها بالطبع القبول بالمساومات السياسية وتقديم التنازلات، خصوصًا وأن أحزاب المعارضة بدأت تأخذ زمام مبادرة تشكيل حكومة ائتلافية لا يشارك فيها حزب العدالة والتنمية على نحو ما جاء على لسان مسؤولين من حزب "الشعب الجمهوري" من أنهم سيبحثون مع حزب "الحركة القومية" تأليف حكومة ائتلافية على أن يدعم حزب "الشعوب الديمقراطية" هذه الحكومة من الخارج، كما أن الحزب على استعداد لتأليف حكومة ائتلافية مع حزب "الشعوب الديمقراطية" على أن يدعم حزب "الحركة القومية" هذه الحكومة من الخارج على ضوء فجوة الخلافات الواسعة بين حزب "الحركة القومية" وحزب "الشعوب الديمقراطية".
في الحالات سيخسر حزب العدالة والتنمية احتكاره للسلطة ومصادر القوة وخاصة في المواقع المؤثرة مثل رئاسة المخابرات ومدراء الأمن والمجلس الأعلى للقضاء والمجلس الأعلى للتعليم والمجلس الأعلى للإعلام، وكلها أجهزة مهمة كانت أهم مصادر قوة أردوغان الذي عليه أن ينسى مشروعه لفرض نظام حكم رئاسي يعطيه كل السلطة على حساب رئيس الحكومة، فهو سيكمل مدته الرئاسية في ظل رئيس حكومة في يده كل السلطات، ومن ثم فإن سياسة تركيا الخارجية سوف تواجه تغييرات مهمة خاصة بالنسبة للشرق الأوسط وبالتحديد التحالف التركي مع جماعة الإخوان المسلمين ومع تنظيم "داعش" والعداء لمصر، فحلم الإمبراطورية العثمانية الجديدة يودع التاريخ قبل أن يبدأ، وعلى الدول العربية أن تكون واعية بما يحدث في تركيا وخياراتها السياسية الجديدة.