ووفقًا للاتجاهات الثلاثة
السابقة يعد الحل الثالث الخاص بمدنية الدولة حلًا أساسيًا وافق عليه أغلبية المحللين
المسلمين السنة.
حيث يمكن تعريف الدولة المدنية
من هذا المنطلق بكونها الدولة التي تعبر تمامًا عن إرادة المجتمع وتستند لقيمه، وتتصف
هذه الدولة بصفات ثلاث أساسية:
1- دولة المواطنة التي تسعى إلي العضوية الكاملة والمتساوية لجميع أفراد المجتمع.
2- دولة القانون كإطار ينظم العلاقات بين الشعب والدولة.
3- دولة المؤسسات الديمقراطية التي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه والتي تشير إلى مجموعة
الأدوات اللازمة لضمان وصول الإرادة الشعبية إلى إدارة مؤسسات الدولة ومراقبة عملها
ومحاسبة القائمين عليها.
وهي الاتجاهات الثلاثة التي
يمكن القول بعد عرضها إنها تجعل الجدل حول علاقة الدين بالدولة والسياسة في عديد من
الدول المسلمة ينطلق من أساس يسهل دحضه، حيث يتخيل وجود انقسام حاد بين الدول الإسلامية،
والدول العلمانية وهو أمر مضلل، فالدولة بالتعريف هي مؤسسة سياسية علمانية خاصة في
السياق الحالي للمجتمعات الإسلامية. فعلمانية الدولة لا تعني إقصاء الإسلام عن الحياة
العامة أو حصره في المجال الخاص بالفرد، وإذا تم الأخذ بعلمانية الدولة فإن الاختيار
هنا لن يكون بين دولة إسلامية تفرض الشريعة، ودولة علمانية ترفضها تمامًا، ذلك لأن
الدولة عندما تفرض أي مبدأ من مبادئ الشريعة تفرض بما يتراءى لها وذلك وفقًا لرؤية
النخبة الحاكمة ولا يمثل بالضرورة الشريعة الدينية للمسلمين. وفي المقابل فإن الدولة
العلمانية التي تستبعد الدين تمامًا من السياسة العامة والتشريع تقوم على ادعاء زائف
لأن الإسلام لا يمكن فصله عن السياسة(2).
وعليه يمكن القول إن حل العلاقة
الجدلية بين الدين والسياسة يكمن في فكرة أساسية هي أن يصل الدين لأهل السياسة لا أن
يصل الدين إلى السياسة.
القسم الثاني
موضع الإسلام
في الدول الآسيوية
في إطار النظر إلى موضع الإسلام
في الدول الآسيوية يجب ابتداءً الأخذ في الاعتبار الملاحظات التالية:
1- فيما يتعلق بدخول الإسلام إلى القارة الآسيوية وعدد المسلمين
فيها:
يعد مجتمع المسلمين في القارة
الآسيوية من أكثر المجتمعات اعتدالًا وتسامحًا في العالم الإسلامي. وقد تأثر الإسلام
في جنوب شرق القارة بعض الشيء بالأفكار الهندوسية والبوذية والممارسات الشعبية نظرًا
لارتباطه بالبيئة المحلية وهو ما جعله يختلف من مكان إلى آخر حسب امتزاج هذه العناصر.
وقد وصل الإسلام إلى منطقة
جنوب شرق آسيا من خلال التجار وعلماء الدين ولم يصل بالقوة أو الغزو.
ويعرف عن تاريخ الإسلام في
آسيا أنه تاريخ لنوع فريد من التسامح الديني والتواصل الحضاري بين الإسلام، والهندوسية
والبوذية وغيرها من العقائد الآسيوية، إذ لم يسجل التاريخ أي نوع من المواجهات الحضارية
العنيفة في تلك القارة، ولكن ما إن دخل الغزاة الأوربيون حتى وضعوا الديانة الإسلامية
على حواف القتال وجبهات الاختصام، كما عملوا على حصر المناطق الإسلامية وعزلها ووضع
الحواجز التي تعوق انسيابه.
وهناك خلاف بين الباحثين بشأن
تاريخ وصول الإسلام إلى جنوب شرق آسيا وكيفية وصوله، فبالنسبة لتاريخ وصوله يرى البعض
أن الإسلام وصل في القرن الأول الهجري أي نهاية القرن السابع أو بداية القرن الثامن
الميلادي، وآخرون يرون أنه وصل في القرن الثاني عشر، وغيرهم يرون أنه وصل في القرن
الثالث عشر الميلادي.
أما عن كيفية وصول الإسلام إلى جنوب شرق آسيا فتوجد ثلاثة اتجاهات توضح كيفية
وصوله، الأول يرى أن الإسلام وصل إلى المنطقة عن طريق البحر بواسطة التجار العرب وخاصة
التجار اليمنيين الحضارمة في القرن الثالث عشر الميلادي. بينما يري الاتجاه الثاني
أن الإسلام وصل عبر الهند لذا تأثر الإسلام بالهند في القرن الرابع عشر الميلادي، وأنه
لم يصل إلى تلك المنطقة من الشرق الوسط مباشرة لذا تأثر بالفكر الصوفي وبالعادات والتقاليد
الهندية فأصبح أكثر مرونة، وأصبح مختلفًا عن الإسلام في الشرق الأوسط.
أما الاتجاه الثالث فيرى أن الإسلام وصل إلي المنطقة عبر اليمن والهند، وأن
الإسلام الذي وصل من الهند تأثر بالثقافة الهندية وكان أكثر مرونة من الإسلام الذي
وصل من اليمن في القرن الثالث عشر، وأقل تشددًا من الإسلام الوهابي الذي وصل بعد ذلك
في العصر الحديث مع الطلاب الذين تلقوا تعليمهم في السعودية.
ويعد الاتجاه الأول هو الأكثر قبولًا وخاصةً بالنسبة لإندونيسيا والتي انتشر
الإسلام منها إلى باقي دول المنطقة، فقد وصل عن طريق العلاقات التجارية والتجار المهاجرين،
وأن لعب الاستعمار دورًا في إعاقة انتشار الإسلام. وقد واجه الإسلام في جنوب شرق آسيا
تحديات كبيرة خاصة من قبل القوى الاستعمارية التي احتلت دول المنطقة وأعاقت انتشاره،
فقد شهد تاريخ المنطقة العديد من القوى الاستعمارية التي تبنت توجهات وسياسات مختلفة
تجاه الإسلام والمسلمين، مما دفع المسلمين لمحاربة الاستعمار وسياساته بكافة الطرق
من أجل الحفاظ على هويتهم ودينهم(3).
وقد بلغ عدد المسلمين عام 2013 في آسيا نحو 600 مليون مسلم من مجموع 1,57 مليار
مسلم في العالم، وذلك بنسبة 23 % وهم في زيادة مستمرة رغم المحاولات المستمرة لإخراجهم
من العقيدة.
ويعيش نحو 62% من مسلمي العالم في قارة آسيا، وخاصة في دول مثل إندونيسيا، وماليزيا،
وباكستان، وبنجلاديش، فضلًا عن الهند التي توجد فيها أكبر أقلية مسلمة في العالم بلغت
أكثر من 160 مليون مسلم يشكلون 13,4% من سكان الهند، وعامة توجد في قارة آسيا 27 دولة
مسلمة(4).
2- فيما يتصل ببداية الإشكالية الحديثة بين الإسلام والدولة
في آسيا
ظهرت إشكالية الدين والدولة في جنوب آسيا في القرن العشرين وتحديدًا خلال فترة
النضال ضد الاستعمار، وما ترتب عليه من تشكيل دول جديدة مستقلة في النصف الثاني من
القرن العشرين عرفت بكونها دول مسلمة.
في هذه الفترة، حدث تشابك بشكل وثيق بين الدين والدولة، حيث لعب الدين دورًا
مهمًا في إضفاء الشرعية على الدولة والحكام، وتم إنشاء المؤسسات، هذا إلي جانب الممارسات
والخرافات والتي هدفت إلى استخدام الدين لتدعيم شخص الحاكم والدولة حيث كانت العلاقة
بين الدين والدولة مدعمة لبعضها البعض، واستفاد كلاهما من الآخر واستخدمت الدولة الدين
لإضفاء الشرعية على نفسها وترسيخ الحكام وسلالتهم في السلطة، في المقابل أمنت المؤسسة
الدينية لنفسها العديد من المزايا، مثل المنح والهبات المادية، والمحسوبية، وزيادة
سلطتها على شئون الحكومة والدولة.
3- فيما يتعلق بإسلامية الدولة
توجد اختلافات بين الباحثين حول التفرقة بين الأغلبية والأقلية المسلمة في الدولة
الآسيوية. إذ ارتأى بعض الباحثين أنه إذا زادت نسبة المسلمين في الدولة على 50% تكون
الدولة إسلامية، وقرر البعض الآخر أنه إذا كان المسلمون أغلبية مقارنة بأصحاب الديانات
الأخرى –حتى وإن لم تتجاوز نسبتهم 50% تصبح الدولة إسلامية، على حين أتجه البعض الثالث
إلى أن المعيار الأساسي المحدد لإسلامية الدولة يكمن في نص الدستور وطبيعة النظام الحاكم(5).
4- فيما يتعلق بتضمين الدين الإسلامي في الدساتير الآسيوية
يمكن تقسيم الدول الآسيوية المسلمة ما بين أقلية من الدول اتجهت للنص في دساتيرها
على أن الإسلام دين الدولة، وبين أغلبية لم تنص على هذا، يضاف إلى هذا دولة واحدة عدلت
عن هذا النص بعد الأخذ به.
أ.
من الدول الآسيوية
المسلمة التي نصت في دساتيرها على أن الإسلام دين للدولة:
1- ماليزيا: والتي نص دستورها على أن الإسلام دين الدولة لكن
الديانات الأخرى تمارس في سلام وهي الديانات الهندوسية والبوذية والمسيحية.
إذ نصت المادة الثالثة من الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد لكن
يمكن ممارسة الأديان الأخرى بسلام وانسجام في أي جزء من الاتحاد.
كما أوضحت المادة الحادية عشرة من الدستور أهمية حرية العبادة لكل الأشخاص،
وعدم جواز فرض ضرائب تخصص كليًا أو جزئيًا لأغراض دين معين يختلف عن دين الشخص، ولكل
جماعة دينية إدارة تتولى شئونها الدينية وإقامة مؤسساتها(6).
2- باكستان: إذ نص دستورها على أن الدولة تتبع تعاليم الإسلام
كما وردت في الكتاب والسنة، وتعمل في الوقت نفسه على حماية حقوق الأقليات وإعطائهم
الحرية التامة لمزاولة عباداتهم وفق تعاليمهم الدينية(7).
3- إيران: إذ نص دستورها على أن الإسلام هو الدين الرسمي
للدولة وأن المذهب الشيعي الاثنى عشري الجعفري هو مذهب أغلبية المسلمين فيها، هذا مع
تمتع المذاهب الأخرى باحترام كامل في اتباع وأداء مراسمهم الدينية(8).
ب.
أما
الدول المسلمة التي لم تنص دساتيرها على الإسلام كدين للدولة فتأتي معظم الدول ومن أبرزها إندونيسيا أكبر الدول المسلمة قاطبة، حيث تمت
الإشارة في المادة 29 من الدستور علي ضمان الدولة لحرية العقيدة لكل الأديان(9) ويشارك
إندونيسيا في عدم تضمين الإسلام في الدستور دول آسيا الوسطي والقوقاز(10) وهي دول يتم
احتواء الدين فيها لتقوية الدولة حيث تبنت الإسلام كتراث وطني وتوجيه أخلاقي فقط.
ت.
فيما
يتعلق بالدول الآسيوية التي يعد المسلمون فيها إحدى الأقليات الدينية: غالبًا ما تنص دساتيرها على حظر التمييز لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية
أو ثقافية، أو بسبب الجنس أو العقيدة أو الوضع الاجتماعي. كما تم التأكيد على عدم جواز
تمييز طائفة دينية بأي صورة من الصور، وهذا ما يوجد في دساتير كل الدول الآسيوية غير
المسلمة مثل كوريا الجنوبية، والصين، والهند، واليابان، وتايلاند (11)، وإن كانت تبرز
في مجال الواقع عديد من الاختلافات في مجال معاملة المسلمين كأقلية مثال ذلك ميانمار،
والصين. حيث توجد في ميانمار على سبيل المثال مواجهات عنيفة بين الدولة والمسلمين.
ث.
أما
الدولة المسلمة التي سحبت النص في دستورها علي كونها تسير وفق تعاليم الإسلام وتمنح الأقليات الحرية التامة فهي دولة بنجلاديش التي يصنفها الخبراء باعتبارها
أكبر تجمع للمسلمين في العالم، حيث اتجهت بنجلاديش عام 2012 وعقب أربعين عامًا على
استقلالها عام 1972 إلى إلغاء المواد الدستورية المعبرة عن إسلامية الدولة، وهو المسلك
الذي رفضته أغلبية المسلمين بها، مما دعا الحكومة والحزب الحاكم لتأكيد استحالة الرجوع
في قرار الإلغاء(12).
ويبقى بعد عرض الملاحظات الأساسية
السابقة محاولة الوقوف على موضع الإسلام في الدول الآسيوية، وهو الأمر الذي يمكن تناوله
من ناحيتين أساسيتين: الناحية الأولى: موضع الدين في دول آسيا. الناحية الثانية: موضع
قوى الإسلام السياسي في دول آسيا المسلمة. وهما الناحيتين اللتان سيتم تحديد أهم معالمهما
الأساسية.
الناحية الأولى: موضع الدين في دول آسيا
سيتم فيما يلي توضيح موضع
الدين في دول آسيا المسلمة وغير المسلمة:
1- موضع الدين في الدول المسلمة:
تم اعتبار الدن الإسلامي في
دول جنوب شرق آسيا المسلمة أحد المحددات الأساسية للمجتمع، وذلك نظرًا للبناء العرقي
للمجتمع، وعليه أعتبر الإسلام مكونًا أساسيًا من مكونات الثقافة السياسية. ففي ماليزيا
وعقب تولي محاضير محمد السلطة (1981-2003) تبنى فكرة أساسية استقاها من دستور البلاد
وهي ضرورة أن يعيش الجميع في سلام، وقد اتجه باعتباره مسلمًا إلى البحث في كيفية الاستفادة
من الإسلام والقيم الإسلامية في عملية التنمية ودمج القيم الإسلامية في السياسات الداخلية
والخارجية. وقامت الحكومة الماليزية في هذا الإطار بعقد مؤتمر تحت عنوان مفهوم التنمية
في الإسلام، الذي أصدر عددًا من التوصيات حول موقف الإسلام من القانون والتعليم والاقتصاد
والعلوم والتكنولوجيا..إلخ، حرصت الحكومة من جانبها على تبني تلك التوصيات من خلال
إنشاء عدد من اللجان التي عنيت بكيفية تطبيقها ودمجها في السياسات الحكومية.