يبدأ نواب البرلمان على عجل مناقشة ميزانية السنة المالية الجديدة التي
يبدأ العمل بها في أول شهر يوليو 2016 بعد أن تأخرت الحكومة في تقديم مشروع
الميزانية لمجلس النواب، وتأخر مجلس النواب في تشكيل لجانه المتخصصة التي ستقود
عمل المجلس التشريعي في المجالات المختلفة. ومن المقرر أن تبدأ المناقشات يوم
الأحد 19 يونيو على أن تنتهي في أسرع وقت قبل موعد بدء العمل بها. وربما يكون من
المفيد هنا إلقاء الضوء على بعض جوانب مشروع الموازنة المقدم من الحكومة إلى
البرلمان بقصد المشاركة عن بعد في المناقشات الي ستدور داخل المجلس ومن خلال النوافذ
الإعلامية المختلفة.
ومن الطبيعي أن يتم وضع مناقشة الموازنة العامة للدولة داخل سياق محدد حتى
نستطيع تقديم رؤية إيجابية بنائية؛ فمناقشة الموازنة لا تصح لمجرد أن نقارن السنة
المقبلة بالسنة الحالية أو الماضية محاسبيا لأن مثل هذه المقارنة ستضعنا داخل
الصندوق نفسه الذي يجلس داخله واضعوا الموازنة. كذلك لا يجوز أن يناقش كل طرف من أطراف المجتمع مشروع
الموازنة في سياق خاص به يضعه لنفسه، لأن مثل هذه المناقشة ستضع كل طرف في سياق
مختلف عن الآخر بما يؤدي إلى تشظي المناقشة وتفتيتها والوصول بها إلى طريق مسدود.
وإذا كان هناك سياق مشترك يجمع بين كل الأطراف المجتمعية، وليس فقط أعضاء
البرلمان من ناحية والحكومة من ناحية أخرى، فإن مثل هذا السياق يجب أن يقوم داخل
الإطار التالي: هذا هو مشروع الميزانية الأول للسلطة التنفيذية المقدم إلى
البرلمان الأول بعد ثورة يونيو، وهو أول مشروع ميزانية في السنة الأولى لتحقيق إستراتيجية
مصر 2030 التي احتفلت بها كل الأطراف كطريق إلى المستقبل خلال السنوات الخمس عشر
المقبلة، بمعنى آخر هي الخطوة الأولى نحو تحقيق حلم مصر 2030، كما إنه أول مشروع للموازنة
العامة للدولة تتقدم به الحكومة إلى البرلمان تحت مظلة الالتزامات الدستورية التي
نص عليها دستور 2014 بما في ذلك الالتزام برفع نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم
والصحة والبحث العلمي إلى ما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي. في اعتقادي أن
مناقشة الموازنة العامة للدولة يجب أن تتم في هذا السياق حتى نستطيع التقدم إلى
الأمام.
ومن الضروري أيضا أن ننبه إلى إن الموازنة العامة للدولة هي الصورة
"النقدية" للخطة "العينية" للتنمية الاقتصادية والاجتماعية؛
فهي ليست دفترا محاسبيا مستقلا بنفسه بعيدا عن الخطة السنوية، وهذه الأخيرة هي في
الوقت نفسه جزء من خطة خمسية أوسع نطاقا ترتبط بإستراتيجية التنمية المستدامة
2030. ومن الضروري أن تعكس المناقشات درجة التكامل والتشابك بين "الخطة
النقدية" المسئول عنها وزير المالية، وبين "الخطة العينية" المسئول
عنها وزير التخطيط والتنمية والمتابعة؛ فالمناقشات لن تكون مجرد حوار بالأرقام
بعيدا عن المشروعات التنموية أو بعيدا عن التحديات القائمة أمام تنفيذ إستراتيجية
2030.
أولاً: واقع التحديات التنموية في مصر
ارتبطت مصر بتعاقد مع الأمم المتحدة لتحقيق أهداف الألفية الثانية خلال
الفترة من العام 2000 إلى 2015، وقدمت مصر إلى المنظمة الدولية كشف حساب في العام
الماضي تؤكد فيه التزامها بالعمل في إطار التعاقد وتكشف فيه عن مدى ما تحقق من
إنجازات. ومن الإنجازات التي قالت الحكومة إنها نجحت فيها أن مؤشر إتاحة المياه
النقية للشرب إلى السكان تحقق بنسبة 100%! ومن المؤشرات الأخرى التي اعترفت فيها
الحكومة بالقصور أن معدل إتمام التعليم الابتدائي لمن هم في سن المرحلة الابتدائية
بلغ 58% فقط. وأظن أن أول ما يجب الالتفات إليه إنما يتعلق باستكمال تحقيق أهداف
الألفية، على اعتبار أن إنجاز أهداف الألفية يمثل أرضية الانطلاق إلى تنفيذ أهداف إستراتيجية
2030. إن مصر حققت بدرجة أو بأخرى عددا مهما من أهداف الألفية، لكنها لا تزال
تعاني من قصور في تحقيق أهداف أخرى خصوصا في مجالات التنمية والرعاية الاجتماعية.
ومع ضرورة دمج أهداف التنمية المستدامة التي أعلنتها الأمم المتحدة
(2015-2030) مع أهداف إستراتيجية التنمية 2030 فإننا سنجد عددا من التحديات التي
تواجهنا جميعا، حكومة وشعبا ومؤسسات، يتمثل أهمها فيما يلي:
-
تحقيق نمو اقتصادي واجتماعي يشمل كل فئات المجتمع،متوازن
ومستدام يؤدي إلى القضاء على عقبات القدرة على المنافسة، ويعيد إلى مصر مكانتها في
العالم.
-
القضاء على الفقر بكل أنواعه في كل مكان في مصر بدون تمييز،
وهذا لا يشمل الفقر النقدي فقط وإنما يشمل أيضا الفقر المائي والغذائي والصحي
وغيره.
-
التقدم على طريق صنع القيمة المضافة وزيادة المكون
المحلي في الصناعات والمنتجات المختلفة.
-
توفير فرص عمل لائق ومنتج لكل القادرين على العمل
والقضاء على البطالة
-
تأمين إتاحة واستدامة موارد المياه والصرف الصحي للجميع
والقضاء على العشوائيات والنهوض بالمناطق المهمشة.
-
النهوض بالتعليم والصحة والخدمات الأساسية المادية والاجتماعية
إلى المستوى اللائق بالمواطن المصري في القرن الواحد والعشرين، واعتبار الاستحقاقات
الدستورية الخاصة بالإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي هي خط الأساس الذي لا
يجوز النزول عنه أو التلاعب به.
هذه مجرد ستة من الأهداف الواضحة التي تتكامل مع الاستحقاقات الدستورية ومع
أهداف الألفية (2000-2015) والتنمية المستدامة (2015- 2030) وإستراتيجية التنمية
المصرية 2030 والتي يجب أن تكون معا الأساس لمناقشة الموازنة العامة للدولة في
السنة المالية الجديدة وما بعدها، وذلك حتى نضمن أن تستمر المناقشة على طريق
ارتضينا جميعا أن نسير فيه معا.
ثانياً: تصويب المسار
إلى هنا تبدو الأمور سهلة وجليه، فالأمر لا يحتاج منا أكثر من الإصرار على
أن نمضي في الطريق وألا ننحرف عنه لأي سبب من الأسباب. ولكننا بمجرد أن نصل إلى
هذه النقطة سنجد أنفسنا في مواجهة عدد كبير من الصعوبات والتحديات التي قد تؤدي
بالبعض إلى محاولة الاستسهال بالتنازل عن الأهداف، أو محاولة الإلتفاف عليها أو
البعض منها بالحيلة والفهلوة، أو بتشويه الصورة بأكملها ومحاولة ابتداع صورة أخرى
ممسوخة لا تمت إلى المستقبل بصلة وتتسبب في تعقيد الأمور أكثر مما هي معقدة. وسوف
أذكر هنا عددا من العقبات والتحديات الضخمة التي تواجهنا جميعا، وليس الحكومة فقط.
وهذه العقبات تتمثل في العجز ونقص السيولة وتدهور سعر صرف الجنيه المصري، وتراجع
القدرة على التصدير، واتساع نطاق أزمة المياه والعجز الغذائي وتلوث البيئة، وزيادة
التضخم والبطالة، وتداعيات كل ذلك على الحياة الاقتصادية والإجتماعية. فإذا تعامل
مشروع الموازنة العامة للدولة مع هذه العقبات (ولو بمنطق أن رحلة الألف ميل تبدأ
بخطوة واحدة) فسيكون على النواب وممثلي الشعب وأصواته المختلفة الإشتباك مع
الحكومة في مجهود منظم لقهر الصعاب والتحديات، ويكون ذلك بتصويب الخطوات والإتفاق
على الإجراءات وتعبئة الجهود من أجل التقدم للأمام. أما إذا ابتعد مشروع الموازنة
العامة للدولة عن مواجهة التحديات الحقيقية وحاد عن الأهداف المحددة، فسيكون من
المهم على الجميع تصويب المسار إلى الاتجاه الصحيح حتى لا تعيد الحكومة إنتاج
الفشل من طريق سهل؛ فتكون جريمة في حق وطننا يشارك في ارتكابها الجميع.