المركز العربي للبحوث والدراسات : الدين المُعَلَّب … والتدين المُجَفف (طباعة)
الدين المُعَلَّب … والتدين المُجَفف
آخر تحديث: الثلاثاء 21/06/2016 11:10 ص
د. نصر محمد عارف د. نصر محمد عارف

فقراء أبناء هذا الجيل فى التأمل والخيال، ضعفاء فى السباحة فى ملكوت عوالم الغيب، وبائسون فى حياتهم الروحية؛ التى لم يعد فيها من الروح إلا الاسم، يصومون صوماً مادياً، ويصلون آلياً، ويحجون ويعتمرون بصورة ميكانيكية، ولا بأس أن يحرص الواحد منهم على التقاط صورة سيلفى مع كل ركن من أركان الكعبة، ومع قبر الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، صورة تعكس الصورة الحقيقية للمكان فى قلبه وعقله، فهو مجرد مكان سياحى، وربما تحولت الصورة إلى وسيلة للتفاخر بأداء الحج والعمرة؛ ليتحول ذلك إلى رصيد مادى فى العمل والوظيفة والتجارة والعلاقات…سر هذا الفقر والبؤس أن الدين تحول إلى وسيلة، وليس غاية، وصار عرضا للإنسان أى صفة له، وليس جوهراً، أى وجودا للإنسان ذاته. الدين عند جميع البشر هو جوهر الوجود، هو الغاية من هذا الوجود، لذلك يعنى خضوع الإنسان للإله، والانقياد له، والطاعة والتسليم لأوامره، والعمل على مرضاته، لأنه هو، أى الإله، غاية الوجود، ومقصد كل موجود، كل الأشياء وسائل فى طريق الوصول إليه، المال والجاه والذرية والنفس، كلها وسائل توصلنا إليه، فهو غاية الغايات، وعنده تقف الغايات جميعها، فلا غاية بعده، وهو المقصد الأسنى، والملجأ الأعلي، وهو المنتهي، واليه الرجعي، وكل شىء لاقيمة له إلا إذا قربنا إليه…الدين جوهره الخضوع للديان، والتسليم له، لذلك كان الدين عند الله الإسلام، والإسلام هنا هو التسليم والاستسلام لله وهو دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وعيسى المسيح ومحمد بن عبدالله عليهم الصلاة والسلام، جميعهم دينهم هو الإسلام، كما وصفهم القرآن الكريم. ظل المصريون على هذه الحالة من التدين الفطرى الروحانى البسيط، الذى ينفعل فيه القلب فيوجه العقل، ويحرك السلوك، لم يكن الفلاح المصرى البسيط، أو العامل والتاجر فى المدن فى حاجة إلى وجود الفقيه الذى يحدد له سلوكه، ويوجهه فى حركاته وسكناته، لم يسأل المصرى البسيط فقهيا على مدى ١٤٠٠ سنة هل يهنئ جاره القبطى فى عيده؟ أو هل استنشاق البخور يفطر؟ أو هل استخدام الشطاف فى الحمام يفسد الصيام؟ ….كانت هذه الموضوعات بالنسبة له بدهيات، والسؤال عنها من قبيل السخافات، كان يصلى على عادة أهل بلده وطبقا لمذهبهم، ومن الطريف أن مذهب الإمام مالك المنتشر فى جنوب مصر بنى على عمل أهل مدينة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لان عاداتهم وتقاليدهم هى الأقرب إلى سنته صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم تحولت الحال وإنقلبت، وتغيرت الأمور عندما ضعفت مصر اقتصادياً، وتدهور وضعها سياسياً فى السبعينيات، وأصبح المصريون فى موقع المغلوب الذى يقلد الغالب فى سلوكه وسائر أحواله وعوائده - كما يقول ابن خلدون، بدأ المصريون يكتشفون إنهم لم يكونوا مسلمين، وأنهم فى حاجة إلى دخول الإسلام من جديد، بل فى حاجة إلى هدم جميع مساجدهم وإعادة بنائها، ولصعوبة ذلك مالياً، بدأنا نرى خيوطا، وأشرطة لاصقة على أرضية جميع المساجد تقول أن القبلة كانت خطأًً، وإن اتجاه القبلة غير ما كان عليه آباؤنا وأجدادنا…الذين ضاعت صلاتهم؛ لأنهم يعاصروا الوافدين الجدد، القادمين من وراء البحر الأحمر؛ حاملين نسخة معلبة وجاهزة من الدين…من دين جديد، ليس هو الدين الذى عشنا عليه وتربينا فى كنفه.

حدث كل هذا مع عودة القوى العاملة المهاجرة، وعودة دعاة تم تصنيعهم فى معاهد لا ترقى لأن تكون كتاتيب، عادوا يحملون سمت العلماء، يطيلون اللحى، ويلبسون ثياباً فخمة غريبة، والمصريون فى جاهلية، ويحتاجون للدخول فى الدين المعلب، سابق التجهيز فى معابد النفط.

تغيرت حال الدين فى مصر فخرج من القلوب ليستقر على شعر اللحى، والأثواب القصيرة، والحجاب والنقاب، وتحولت الصلاة إلى حركات … أهم الخشوع فيها كيفية وضع يديك، وموضع قدميك، وأصبحت التقوى ليس بحسن المعاملة؛ إنما بمقدار فقاعة جلدية فى الجبهة يسمونها الزبيبة؛ تمت صناعتها بليل لأغراض التسويق، وأصبح فعل الخير تفاخراً، والحج والعمرة رياءً لنيل مكانة إجتماعية.

جاءنا الدين المعلب مع تجار دين أطلقوا على أنفسهم ألقابا ومسميات منها السلفية، ومنها أنصار السنة، ومنها جميعات كذا وكذا، وجميعها تقدم نسخة من الدين سابقة التجهيز فى صحراء جزيرة العرب، وما على المصريين إلا اعتناقها إن أرادوا دخول الإسلام، وأصبح المتخصصون فى مهن التجارة والإعلام والمرضى النفسيون من أكابر مشايخ مصر، تدفقت عليهم الأموال من وراء الحدود، وأصبحوا بعد عيلة وفقر يملكون القنوات الفضائية، ويسكنون القصور، ويبدلون النساء كما يبدلون ثيابهم.

 

تحول تجار الدين هؤلاء إلى نموذج وقدوة وأصبح كل واحد منهم حريصا على أن يخلفه ابنه أو أخوه، وأصبح هؤلاء فى موقع الجاذبية للشباب، والشابات؛ إما اقتداء، وإما تقرباً للاستفادة مما لديهم من ثروة ونفوذ، وضعفت الدولة فى مواجهتهم فتراخت أمامهم تارة، وسعت إلى الاستفادة منهم تارة أخري، دون أن تدرى أن هؤلاء جففوا تدين المصريين، فأصبح المصريون يعيشون حالة تدين جاف، شكلى بلا روح، بلا معنى.

قاد هؤلاء المصريين إلى حالة غير مسبوقة، تجتمع فيها المتناقضات، حيث تزداد نسبة الحجاب والنقاب ومعها تزداد نسبة زنا المحارم، والخيانة الزوجية، والحمل السفاح، والدعارة، وقتل الأزواج من أجل العشاق … وانتشرت اللحي، وعلامة الصلاة على الجباه، وفى نفس الوقت انتشر الفساد، والغش، والإنتهازية، وأكل الحرام، وخيانة الأمانة، حتى أنه يتم تسريب امتحان الحديث النبوى الشريف فى أيام رمضان لتحٍقيق حالة من الغش الجماعى، والحديث يقول «من غشنا فليس منا» … أى دين يدين به المصريون؟

وصل المصريون إلى حالة من التدين المجفف، الذى يشبه الدين فى شكله، ولكنه ليس بدين؛ بل هو على النقيض منه تماما، لقد دمر هؤلاء المجرمون حياة المصريين بصورة تحتاج إلى أجيال كى تعود إلى ما كانت عليه، ومازالت الدولة ضعيفة أمامهم، لا تملك أن تفعل لهم شيئاً إما خوفا منهم، أو مجاملة لهم.

لا مستقبل لمصر إلا بمنع كل هذه الجماعات، وتجريم وجودها، ومنع البلهاء من زعمائها من إصدار فتاوي، ومنع وتجريم استضافتهم فى القنوات الفضائية، أو نقل أخبارهم فى الصحف، وأن ينحصر كل الشأن الدينى فى مؤسسة الأزهر…ولكم فى المملكة المغربية قدوة حسنة؛ فتعلموا قبل فوات الأوان.

 

نقلاً عن الأهرام