المركز العربي للبحوث والدراسات : صور «داعش» السينمائية... عدوان على مشاهديها (طباعة)
صور «داعش» السينمائية... عدوان على مشاهديها
آخر تحديث: الأربعاء 29/06/2016 11:56 ص
أرنو ديبليشان أرنو ديبليشان

صور الإرهاب التي يبثها «داعش» على مواقعه لا تتوجه الى المشاهدين، مثلي، على رغم أنني هدفها وبغيتها. فصناعة هذه الصور يقصد بها مهاجمتي والعدوان عليّ، وليس القصد منها أن أشاهدها وأتأملها. وعلى هذا، فمعرفتي بها هي معرفة كابوسية وهاذية. وأسأل نفسي: هل أرتكب خطأ حين أتكلم على صور لم أرَها؟ وأنا رأيت إحدى هذه الصور، مطموسة عمداً، وهي لرجل يتكلم الفرنسية تجر سيارته جثثاً، ويبدو له الأمر مسلياً وهو يحادث جهاز التصوير. وفي صورة أخرى يُرى رجال ينتظمهم صف مستوٍ واحد، يذبحون ووجوههم الى البحر. وأنا أتكلم على هذه الصور، لا يغادرني شعور بالذنب. فأنا، مثلاً، لا أعرف عدد الرجال الذين ينحرون وقد صُفوا صفاً واحداً. وأؤاخذ نفسي على جهلي باسم الطيار الأردني الذي أحرق حياً وعلناً في قفص سلطت عليه ألسنة اللهب.

وصورة الطيار هذه هي زادي القليل في تناولي مسألة صور الإرهاب، وهي قريبة من صورة الكاهن البوذي الذي أجهل اسمه كذلك، وتنظر اليه ليف أولمان وهو يحترق في فيلم انغمار بيرغمان، «بيرسونا» (1967). والكاهن البوذي، الفيتنامي على ما أرجح، أجهل اسمه، شأن الولد الصغير الذي يخرج من غيتو وارسو (فرصوفيا)، في وقت لاحق من فيلم بيرغمان، رافعاً يديه. وأنا أجهل أسماء هؤلاء على رغم اقتناعي بوجوب تسمية الضحايا بأسمائهم. وهذا ما يتولاه المؤرخون، وآسف لنكوصي عن الاضطلاع بدور المؤرخ في هذا المعرض، وفكرت في أن صورة هذا الشهيد، الكاهن البوذي، تقول: «انظروا ماذا تفعلون: إنكم تحرقوننا بالنابالم وعليكم أن تكفوا». وتقول صورة الطيار الأردني الذي أحرقه «داعش»: «انظروا ما نفعله فيكم».

وهاتان الصورتان لا تستويان أبداً على صعيد معنى واحد – فصور الإرهاب تحجر على النظر ولا تخاطبه-، ويتراءى لي أن صورة الطيار الأردني تهزأ بصورة الكاهن البوذي. وهي تتحدر من صور عنيفة وسياسية أخرى سابقة، وتتعمد تحريف فعل الشاب محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه بالنار في تونس، وأراد القول: «انظروا ما يصنعه النظام بي، انظروا ما حُملت على صنعه». أما صورة الإرهاب فتقول: انظروا ما سنصنعه بكم». وتصعقني صور الإرهاب، ولا أعرف ما أصنعه بها. وأرى أن صناعة صور يوكل الى الانترنت استهلاكها أمر غريب، وأشعر بأنها لا تتوجه إليّ. ولهذا لم أشاهدها. ولو شاهدتها لما ازددت علماً، ولما كان لي فيها رأي جمالي أو سياسي يخرجني من حال الرهبة أو الإرهاب. ومجرد علمي بوجود هذه الصور يرعبني.

وألمحتُ قبل لحظة الى تحريف تقوم به هذه الصور. فاللباس الليموني الذي نحر الرهائن المصريون وهم يلبسونه، وهو لباس مسجوني غوانتانامو، مثل على هذا التحريف. وأنا أحسب، على رغم ضعف انخراطي السياسي، أن علينا التشكيك في غوانتامو وإدانة صيغة الاعتقال فيه، مع الإقرار بأن أحداً لم يحرق في هذا المعتقل! وصور «داعش» انتزعت هذا التفصيل، اللباس البرتقالي، من المعتقل وأعملته في صور التحريف والنحر.

وأرى أن هذه الصور تشترك مع أصحاب الإنكار (منكري المحرقة ومنكري فظائع تجارة الرقيق السود وإبادة الأرمن...) في الهزء بالضحايا وفي التوجه الى المشاهد بالتخويف والترهيب. وهذا غريب، فأصحاب الإنكار ينفون حصول الحادثة وحقيقة الضحايا، بينما تقول الصور: انظروا ما حصل وحدث.

ويتوجه المنكرون، من أمثال روبير فوريسون (الأستاذ الفرنسي الذي أنكر استعمال النازيين حجرات الغاز في الإبادة)، الى جمهور يدرك في قرارته الهزء الذي ينطوي عليه قول خلاف الحقيقة. وفي صورة الشاب الذي تجر سيارته جثث القتلى، الجزء الواضح من الصورة مسلط على وجه الشاب وضحكه البشع. وهذا الضحك هو أول ما يراه المشاهد، وأبرز ما يراه.

ولا شك في أن المصور تعمد طمس عناصر الصورة الأخرى. وما يرويه الشاب لا يتعلق بالجثث. وجل ما يريد المصور إظهاره هو انتهاك حرمة الموت والموتى والهزء بالجثة على الملأ. وهذه السخرية الهازئة هي جوهر انكار فوريسون ومقالته. والدعوة الى المشاركة في الانتهاك تتجلى في الضحكة البشعة والمزدرية.

وتفترض صيغة التصوير دعوة الى النظر. وصور الإرهاب هي خلاف الدعوة الى النظر. فهي تريد الحمل قسراً على الرهبة والرعب. ووصفها بـ «البورنوغرافية»، على قول بيرغمان، صحيح ودقيق. فالبورنوغرافيا (الصور الجنسية الفاحشة والداعية الى محاكاة متخيلة) ذرائعية وآلية. وهي نقيض الصورة الفنية ولزومها حد ما تُصور، فتحفز على معرفة فوق ما تريه، وترغب في صدم المشاهد وزعزعة توازنه، وفي تحميله، فوق طاقته، ولا تتجاوز الصورة البورنوغرافية الفقيرة رسماً فظاً على جدار بيت خلاء عام، وليس دورها إطلاق العنان للتخييل بل خنق الصور المحتملة أو الممكنة الأخرى في مهدها.

وفي صور أبو غريب، السجن الاميركي في العراق، يرى المشاهد ضحكات السجانين وهم يسومون المسجونين الإهانة والإذلال. والفارق بين صور أبو غريب وبين صور «داعش» هو أن الأولى لم تصور بقصد نشرها وتداولها. والانتهاك الذي تظهره قصدت به دائرة ضيقة أو خاصة. وفجأة، نشرت هذه الصور وتداولها العالم كله. وأنا على يقين من أن رجال «داعش» رأوا صورة الكاهن البوذي وأمعنوا النظر فيها. وهم يعلمون أنهم يدرجون صورهم في تاريخ القرن العشرين السياسي.

ولفظة «إرهاب» تستعملها الصحف للدلالة على وقائع مختلفة. وسبق لي أن تعاطفت مع بعض ايحاءاتها الرومنطيقية في حال الجيش الجمهوري الارلندي، أو في حال تحرير فيتنام، ووجه عرفات... ويحرجني الاشتراك في لفظة واحدة. والكلمة الأولى التي تتبادر الى ذهني في شأن صور الإرهاب هي «بربرية». واللفظة قاصرة. فالإرهاب من صنع بشر، من صنع إنسيين. وإنكار إنسية الجلادين ليس جواباً عن الاضطراب الذي تبعثه صور الإرهاب فينا. وأعود الى صورة الطيار الأدرني التي لم أشاهدها. فهي تثير فيّ إشفاقاً غامراً، بينما يدعو صانعوها المشاهد الى تماهٍ وضيع وإياهم (أو معهم). فكيف يكون التماهي حيث لا محل للإشفاق؟

والتصوير يقوم بقطبين أو جهتين: قطب آلة التصوير وقطب الوجه (أو المنظر) الذي تصوره، أو قطب الحقل الأول وقطب الحق الآخر (المضاد). ويقيم المشاهد في منزلة الوصلة بين الاثنين، ولا يدري تماماً الى أي قطب ينحاز: هل ينحاز الى جهة آلة التصوير أم الى الوجه الذي تصوره. ويعود الترجح على الصورة الفوتوغرافية بربح وافر.

ويحتاج المشاهد الى افتراض صاحب نظر، أو شخص إنسي، وراء عدسة التصوير وحيث العدسة. وفي الوقت نفسه يحل المشاهد محل الوجه الذي تصوره العدسة. وتنفي صور «داعش» نفياً قاطعاً ظهور وجه يدعونا الى التماهي فيه، أو الانحياز اليه، بعد النظر من موضع عدسة التصوير. فلا يحق لمن يرى صور «داعش» إلا التماهي في الجلاد، ولا تتاح له فرصة التماهي في الضحية.

ومشهد فيلم بيرغمان، «بيرسونا» (ليف أولمان تنظر الى حرق الكاهن البوذي نفسه) رائع على رغم تقادم مشهد الألم الذي طبعه زمن الانخراط السياسي بطابعه. ومصدر حداثته رؤية ليف أولمان الضحية من غير توحيد نفسها فيها. فهي تعض قبضتيها، وينتابها الهلع، ولا يسعها أخلاقياً ان تقول «أنا الضحية». فأنا (أولمان) أرى الكاهن يموت بينما أنا لا أموت، فلست، في هذه الحال، هو، ويرعبني قبول عجزي عن سبر عذاب غيري أو تقدير عذابه، وطريقتي في الإقرار بهذا العذاب وتقدير مقداره هي علمي بأنني عاجز عن هذا التقويم، وما نتشاركه، الضحية المعذبة والمشاهد المشفق، هو هذا الفرق القاطع بين حال من هو على وشك الموت وبين حال مشاهده. وصور «داعش» تستبعد هذه المشاركة وتحول دونها.

ولا أزعم أن المشاهد، في هذه الحال، هو شاهد. فمشهد الأردني صورته آلات تصوير متفرقة، من زاوية مختلفة، وتولى توليف (مونتاج) مشهدي القصد حبك الصور. وهذا الإخراج يحول دون الشهادة (على القتل)، فوحده الجلاد مرئي ومشاهَد. ومن طريق الكلمات والصحف يسعني شهود شهادة الرجل. والصورة يحجر عليها ضحك الجلاد وهو يصور نفسه في قلب مشهده.

والتداعي يذكر بفيلم «ابن شاول»، للازلو نيميش (2015). ففي قلب الشريط يرتسم محل صاحبه أو مخرجه، وينهض صوته ويسمع. ويدور هذا الصوت، في الشريط، على هاجس يدعو الى تكفين الميت ونفخ الحياة فيه، فلا يترك جثة على جنب الطريق، من غير اسم ولا مرقد أخير. وانتبهت بعد خروجي من الصالة، وقراءة ما كتب عن عمل نيميش، الى ان هذا العمل مدار محادثة أو محاورة، والكلمة عن ستانلي كافيل (في كتابه: «البحث عن السعادة. هوليوود وكوميديا الزواج ثانية»). وهذه المحادثة كانت غنية وثرية على نحو غير مسبوق منذ زمن طويل. نقلا عن الحياة

* مخرج سينمائي فرنسي، صاحب «العسس» (1991)، و «حياة الموتى» (1992)، و «ثلاث ذكريات من حياتي» (2016)، عن «إسبري» الفرنسية، 6/2016، إعداد منال نحاس.