المركز العربي للبحوث والدراسات : أزمة الاقتصاد المصرى والاستجابة للتحدى (طباعة)
أزمة الاقتصاد المصرى والاستجابة للتحدى
آخر تحديث: الأحد 31/07/2016 01:28 م
د‏.‏ طه عبد العليم د‏.‏ طه عبد العليم
تدهورت- دون ريب- مؤشرات أزمة الاقتصاد المصرى بعد ثورة 25 يناير؛ فى ظروف الانفلات الأمنى والفوضى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التى تعقب جميع الثورات، ثم تفاقمت الأزمة بعد ثورة 30 يونيو؛ وما أعقبها من تصاعد جرائم إرهاب الفاشية التكفيرية المتاجرة بالدين، ومنها ضرب السياحة وتخريب الاقتصاد. ومع الثورتين جاءت فورة توقعات انتزعت مطالب اقتصادية واجتماعية، منها المشروع وغير المشروع، ثم أعقبتها فورة إحباطات زادت الطين بلة؛ بتراجع الإنتاجية وتردى الأداء وانزواء الضمير وفقدان الاتجاه. وأى استهداف لتقليص مظاهر ومخاطر الأزمة المتفاقمة لن يكون مستداما فى استجابته للتحدى ما لم يقتلع جذور الأزمة بنبذ النظام الذى، رغم مظاهر النمو الريعى ومؤشرات الأداء المخادعة فجرت اخفاقاته فى التنمية والتصنيع الثورة أو النكبة؛ سمها ما شئت.

وأسجل، أولا، أن اقتلاع جذور الأزمة يكون بالتقدم على طريق بناء نظام جديد، يرتكز الى دولة المواطنة، دولة جميع مواطنيها، التى تحمى السيادة الوطنية الاقتصادية وغير الاقتصادية، لتكون مصر للمصريين، وتحترم كل حقوق المواطنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والثقافية والدينية لجميع المصريين، دون تهميش أو تمييز أو انتقاص أو اقصاء. ويعنى هذا من المنظور الاقتصادى أن يكون إقتصاد مصر للمصريين، من جهة، حماية السيادة الاقتصادية الوطنية؛ أى انفراد الأمة بحقها فى اختيار نظامها الاقتصادى والاجتماعى وسيطرتها على مواردها الطبيعية وسوقها الوطنية وتنميتها الاقتصادية وصناعاتها وتكنولوجياتها الأساسية.

وثانيا، حتمية مكافحة الفساد، الذى كان فسادا منظما ومصدرا لثروات فردية غير مشروعة قبل الثورة، لكنه كان أيضا ترجمة لنظرية اقتصاد العرض أو اقتصاد التنقيط فى سوق حرة؛ زعمت أن زيادة الأغنياء ثراء سوف يرفع معدلات الاستثمار والنمو ومن ثم تتساقط الثمار أو على الفقراء والعاملين بزيادة التشغيل والأجور. وبين المطالب الشعبية بعد الثورة المصرية تصاعدت الدعوة الى مكافحة الفساد بعد انفضاح أبعاده، فجرت محاكمة بعض رموزه، وعجزت الدولة عن استرداد الثروات المنهوبة المهربة. وحيث توقفت أو تباطأت حركة الاستثمار، وسعت الدولة لتعبئة الموارد المالية لتخفيف الأزمة، فقد صدر مرسوم أضاف مادة جديدة لقانون ضمانات وحوافز الاستثمار للتصالح مع المستثمرين. وقد تفرض الضرورة العملية والملحة التصالح، الذى ينبغى أن يتم على أساس من الشفافية وسيادة القانون والحفاظ على المال العام واحترام العقود غير الفاسدة، شرط ألا يكون قد صدر حكم بات بالإدانة، ولكن يبقى الأهم هو سد منافذ الفساد. وبينما ينبغى حفز المستثمرين بإزالة عوئق الاستثمار؛ لا ينبغى الاستجابة لسعى جماعات من رجال الأعمال الى تعميم الخسائر بعد خصخصة الأرباح، استمرارا لتهربهم من مسئولياتهم الوطنية والمجتمعية والتنموية.

وثالثا، انه فى مصر- كما فى دول كثيرة- تعجز الإيرادات الفعلية للموازنة العامة للدولة عن الوفاء بكامل مصروفاتها؛ مما يتطلب الاستدانة لتمويل عجزها. لكن تقليص الدين العام الداخلى يمثل ضرورة من أجل الاستقرار الاقتصادى الكلى، ولأنه يضاعف أعباء سداده، ويرفع معدل التضخم بآثاره السلبية على محدودى الدخل وفرص الاستثمار. ويتطلب تقليص الدين خفض عجز الموازنة، بإجراءات ينبغى أن يكون فى مقدمتها وقف الإنفاق الحكومى غير الرشيد، وعدم تجاوز اعتمادات الموازنة، ووضع معايير تضمن أن يأتى الانفاق بعائد يساويه، وترشيد الدعم بضمان وصوله الى المستحقين له من الفقراء ومحدودى الدخل، وإلغاء دعم الطاقة للمصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة، التى تبيع منتجاتها فى السوق المحلية بالأسعار العالمية وأحيانا بأعلى منها وتحقق أرباحا احتكارية. أضف الى هذا ضرورة زيادة إيرادات الدولة من ممتلكاتها ومشروعاتها، وضم الحسابات والصناديق الخاصة الى الموازنة تحقيقا لمبدأ شمولها لكل إيرادات الدولة أيا كان مصدرها، ومواجهة التهرب الضريبى وتحصيل أقصى ما يمكن من الضرائب المتنازع عليها، وفرض نظام الضريبة التصاعدية، والالتزام بالمساواة والعدالة بين الممولين، وتحقيق الأهداف السيادية والاقتصادية والاجتماعية للموازنة.

ورابعا، أن تدنى معدل الادخار المحلى الإجمالى قد ترتبت عليه فجوة فى تمويل الاستثمار المحلى الاجمالى، وهو ما دفع بالدولة الى تغطية الفجوة بالاقتراض من الخارج لتغطية فجوة الاستثمار. ولا جدال أن مصر تحتاج للاستثمارات والمساعدات الاجنبية، لكن الأزمة المالية، التى تعانى منها الدول الكبرى الراغبة فى تقديم العون، والدول العربية المصدرة للنفط التى قدمت الكثير من العون, قد ضيقت فرص تلقى المزيد منه. وفى تقديرى أن الاحتياجات الملحة وتراجع التصنيع واختلالات الموازنة العامة وميزان المدفوعات وتدهور قيمة الجنيه المصرى.. إلخ تفسر لجوء الدولة للاقتراض مجددا، وبعد طول رفض، من صندوق النقد الدولى. لكن على الدولة ألا ترضخ للشروط الاقتصادية والسياسية غير المقبولة والملازمة لقروضه، وأن تحمى استقلال القرار الاقتصادى والسياسى الوطنى وأن ترفض روشتة الصندوق سيئة السمعة. ولنتذكر ما كرره عبد الشكور شعلان بعد ثورة 25 يناير عن استعداد صندوق النقد الدولى لإقراض مصر، قائلا: إنه فى المراحل الأولى من برامج الإصلاح فى كل دول العالم أول من يستفيد الأغنياء الذين يزدادون غنى, ويبدأون في إعادة تدوير إستثماراتهم, ثم تبدأ إستفادة الفقراء تكون فى مرحلة تالية للنمو حيث تبدأ الثمار فى التساقط!! ولا ينبغى نسيان أن تلك الروشتة قد سقطت مع الأزمة الإقتصادية العالمية، ومع الأزمة الشعبية المصرية، ببساطة لأنها لم تتحقق لا الكفاءة فى تخصيص الموارد بما يسرع التنمية والتصنيع، ولا العدالة فى توزيع الدخل بما يقلص البطالة والفقر، وتحجز التقدم صوب الاستجابة الحقيقة للأزمة واقتلاع جذورها.
*نقلا عن الأهرام