المركز العربي للبحوث والدراسات : تحـرك اسـتباقى عربـى (طباعة)
تحـرك اسـتباقى عربـى
آخر تحديث: الثلاثاء 06/12/2016 03:33 م
د‏.‏ محمد السعيد إدريس د‏.‏ محمد السعيد إدريس
تصريحات الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب الانتخابية، أى تلك التصريحات التى أطلقها أثناء حملته الانتخابية وكان هدفها الحصول على أكبر عدد من المؤيدين له فى أوساط الناخبين، والبعيدة كل البُعد عن ضوابط الفكر الإستراتيجي، لا تكفى لنا نحن العرب لصياغة وبلورة رؤية عربية أو تقدير موقف عربى يحدد لنا كيف يجب أن نتعامل مع هذا الرئيس، وكيف لنا أن نحمى مصالحنا. فهذه التصريحات، وفق تسميتها، تصريحات انتخابية، أى مؤقتة ولها ظروفها، والأرجح أن يراجع الرئيس المنتخب معظمها عندما يجلس على كرسى الحكم ويلتزم بضوابطه وقواعده الراسخة.

كذلك لا يكفى أن نقول إن ضوابط الحكم ستفرض نفسها على الرئيس وإنها ستفرض عليه أن يتراجع عن مضامين تصريحاته الانتخابية، لأن هذا القول خاطئ فى تعميمه، ويتجاهل تماماً «البُعد الشخصي» فى تشكيل إدراكات الرئيس ومفاهيمه للحكم، خاصة مع رجل من نوع ترامب «الشخصانى» جداً والذى تحكمه أهواؤه وعواطفه. فالحكم فى النهاية هو محصلة تفاعل المصالح وأدوار المؤسسات وتقاليد راسخة للسلطة وشخص الرئيس بدليل التباين الذى يكون شديداً أحياناً بين حكم رئيس أمريكى وآخر حتى ولو كان كل منهما من نفس الحزب. فالعامل الشخصى يبقى أساسياً وفعالاً ويصعب تجاهله.

لذلك فإننا، وإذا كنا قد انقسمنا بين أنفسنا كعرب، بين من هم سعداء بفوز ترامب انطلاقاً من إدراك لتوقعات بأدوار يريدونها من جانب هذا الرئيس أو من هم تعساء بفوزه لإدراكهم أنه سيقوم بأدوار ويتبنى قضايا تتعارض مع ما يأملون، وغابت تماماً المصالح العربية العليا، كما غابت أولويات الأمن القومى العربي، وفى مقدمتها مخاطر التقارب المبالغ فيه بين الرئيس ترامب وتيار اليمين المتطرف داخل الكيان الصهيوني، فإن الوقت مازال ممكناً لتحرك استباقى وللتدبر، فأمامنا ما يزيد على الشهر قبل أن يتولى ترامب مهام الرئاسة شرط أن نسرع فى عمل ورش بحثية متخصصة تجمع كل الكفاءات العربية لعمل قراءات وتقديرات ووضع تصورات تحدد لنا كيف يمكن أن نحصل على أفضل المكاسب من الرئيس الأمريكى القادم وإدارته، وكيف يمكن أن نتجنب القدر الأكبر من الخسائر والأضرار، شرط أن نأخذ فى اعتبارنا الأولويات التالية: أن نتجرد، ولو جزئياً، من حالة الصدام السياسى الراهن بين الدول العربية الكبرى والفاعلة فى النظام العربي، ونضع حداً لحالة الانقسام الخطيرة الحالية التى لن تفيد أحداً إلا أعداء هذه الأمة وكل المتربصين بها، وأن نجعل المصالح والأهداف العربية العليا فى مقدمة أولوياتنا ونحن نفكر فى أفضل السبل والسياسات العربية للتعامل مع الرئيس الأمريكى الجديد. أن نضع فى اعتبارنا الاهتمام بأربع دوائر للبحث والدراسة أولها مجمل التصريحات التى صدرت أثناء الحملة الانتخابية من الرئيس ترامب، والتصريحات الأخرى التى صدرت عقب فوزه، ومعظم اتصالاته مع الشخصيات ذات الوزن والأهمية داخل الولايات المتحدة وخارجها. فهذه التصريحات تشكل الإطار العام للحكم المتوقع من إدارة دونالد ترامب. وثانيها دراسة البُعد الشخصى للرئيس ونائبه، وهنا يأتى دور علماء النفس السياسى من الأساتذة المتخصصين فى دراسة العوامل المكونة للإدراك السياسى للشخص القيادي، ودور هذه العوامل فى تشكيل منظومته الفكرية وأولوياته وتفضيلاته السياسية، وهذه كلها تعطينا القدرة على بناء نماذج من التنبؤات بالسياسات المتوقعة من الرئيس ونائبه. وثالثاً، الإلمام بالفريق المرشح للحكم فى جميع المواقع القيادية المهمة خاصة كبير موظفى البيت الأبيض وكبير المستشارين، ورئيس مجلس الأمن القومي، ورئيس المخابرات المركزية، ووزراء الخارجية والدفاع والعدل والمالية، معرفة هؤلاء والتواصل معهم من الآن يمكن أن يفيد كثيراً فى بناء نماذج من تقديرات الموقف لأفضل تعامل مع الرئيس الأمريكى الجديد. ورابعاً، التعرف على مراكز البحث المتخصصة وجماعات الضغط «اللوبيات» القريبة من الرئيس وفريقه الرئاسى لعمل تواصل معها ومع أفكارها، فهى التى سوف تشكل مستقبلاً قاعدة أولويات وسياسات الرئيس الجديد. تجميع كل مصادر القوة العربية، وبالذات القوى الناعمة الكفيلة بتأسيس موقف تفاوضى عربى قوى مع الإدارة الأمريكية الجديدة، والتعامل معها انطلاقاً من موقف القوة وليس موقف الضعف، القوة المنطلقة من الوعى بالمصالح المشتركة العربية والأمريكية، وليس التعامل من منطق الضعف والاستجداء، على أن نأخذ فى اعتبارنا مصادر القوة العربية ليس فقط داخل الدول العربية، بل وداخل الولايات المتحدة وخارجها، ومع أطراف أمريكية ودولية كثيرة لها وزنها القوي، كانت ومازالت لها تواصل بدرجة أو بأخرى مع العالم العربي.

التحرك العربى هذا ليس مسئولية دولة عربية وحدها، أو مركز عربى للدراسات وحده، أو منظمة إقليمية عربية متخصصة واحدة، بل هو مسئولية عربية جماعية ومشتركة، مسئولية الدول والحكومات ومسئولية جامعة الدول العربية فهى التى يمكن أن تبادر بتفعيل دورها المتراخى من خلال الإشراف على هذه المهمة بالتنسيق مع الحكومات العربية وجميع مراكز البحوث والدراسات العربية المتخصصة.

ضمن هذا الدور من الضرورى أن نثمن المبادرات الرائدة التى تقوم بها دولة الإمارات العربية المتحدة التى كان لها السبق فى القيام بمثل هذا النوع من القراءات والتدبر بشأن الإدارة الأمريكية الجديدة، المبادرة الأولى كانت تحت إشراف سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية من خلال «منتدى صير بنى ياس» الذى استضاف عدداً من وزراء الخارجية وخبراء السياسة العرب والأجانب للبحث فى تداعيات انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، والمبادرة الثانية نظمها «مركز الإمارات لدراسة السياسات» برئاسة الصديقة العزيزة الدكتورة ابتسام سهيل الكتبى ضمن ملتقاه السنوى الثالث الذى عقد فى أبو ظبى لدراسة موقع الخليج وسط التحولات الدولية الهائلة والمتسارعة ومن بينها انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وكيف يمكن للخليج أن يتجنب التداعيات السلبية لكل هذه التحولات فى عالم بات يُعرف بأن يعيش «عصر الاضطرابات وعدم اليقين». مثل هذا النوع من الملتقيات والندوات وإن كانت قد اهتمت بالإمارات أو بدول مجلس التعاون الخليجى تعتبر شديدة الأهمية والمطلوب الآن هو القيام بتحركات استباقية جادة وتوسيع دائرة الاهتمام لتصبح عربية وشاملة، لأن بقاء الارتباك العربى الراهن على ما هو عليه يهدد الجميع بالضياع.