المركز العربي للبحوث والدراسات : الأمن الخليجى والخيارات الاضطرارية (طباعة)
الأمن الخليجى والخيارات الاضطرارية
آخر تحديث: الثلاثاء 27/12/2016 12:16 م
د‏.‏ محمد السعيد إدريس د‏.‏ محمد السعيد إدريس
فرض الهاجس الأمنى نفسه على دول مجلس التعاون الخليجى مبكراً وحتى قبل نحو عشر سنوات من تأسيس هذا المجلس عام 1981، الذى كان هذا الأمن هو الدافع الرئيسى لتأسيسه. فمنذ تنفيذ بريطانيا لقرارها بالانسحاب الرسمى من الخليج فى ديسمبر عام 1971، وهو الانسحاب الذى اقترن وتزامن بظهور كيانات خليجية جديدة، كانت من أهم معالم هذا الانسحاب ومن أبرز نتائجه، كان «الأمن» هو الشاغل الأهم للجميع. فقد ترتب على هذا الانسحاب إعلان إمارتين استقلالهما (البحرين وقطر) وإمارات أخرى انخرطت فى صيغة اتحادية وشكلت دولة الإمارات العربية المتحدة، وأخرى فضلت أن تبقى خارج أية صيغة اتحادية (سلطنة عمان).

فقد وضع هذا الانسحاب البريطانى تلك الدول أمام تحديات أمنية صعبة. وإذا كانت سبع إمارات قد أعلنت اتحادها معاً فى أول وأهم إجراء عملى لحماية الأمن، فإن حال الأمن فى إقليم الخليج واجه فراغاً هائلاً بعد الانسحاب البريطانى لسببين؛ أولهما خروج الحليف الدولى التاريخى من المنطقة، وأعنى بريطانيا، وثانيهما الاختلال الشديد فى توازن القوى بين ثمانى دول خليجية وهي: إيران والعراق والسعودية والكويت وسلطنة عمان والإمارات والبحرين وقطر. كانت هناك ثلاث قوى كبرى هى إيران والعراق والسعودية، وكانت هناك أيضاً الدول الخمس الأصغر، وكان السؤال الطاغى فى ذلك الوقت هو: كيف يمكن إيجاد صيغة تحقق «الأمن المتوازن» بين هذه الدول الثمانى غير متوازنة القوة والمساحة والسكان؟

فى ذلك الوقت لم يكن التحدى فقط هو اختلال توازن القوى الشديد بين ما سميته فى كتابى الذى صدر بعنوان «النظام الإقليمى للخليج العربي» بـ«ثلاثة أفيال وخمسة سنجاب»، لكن كانت هناك أيضاً تحديات أخرى تفاقم من صعوبة القبول بصيغة مقبولة لـ «الأمن الجماعي». من بين هذه التحديات المشاكل الحدودية البرية والبحرية التى خلّفها الاستعمار البريطانى متعمداً لهذه الدول، كى تبقى علاقاتها مفعمة بمشاعر الشك والريبة. من بينها أيضاً كان حداثة نشوء الدولة الخليجية، وحداثة مفهوم «السيادة الوطنية»، وأولويات تحقيق مهمة التكامل الوطنى الداخلى والانتقال من «حال القبيلة إلى حال الدولة». لذلك ظل لهاجس الأمن الوطنى الأولوية القصوى على حساب «الأمن الجماعي» خاصة بالنسبة للدول الصغيرة خصوصاً بعد «الوفرة النفطية» عقب حرب أكتوبر 1973، حيث هذه الدول التى قد تكون صغيرة المساحة وقليلة عدد السكان، إلا أن ثروتها النفطية والمالية (البترو دولار) أكسبتها مكانة كبيرة وقدرة على المخاطبة الندية مع الدول الكبرى الخليجية الثلاث: إيران والعراق والسعودية ونسج علاقات مباشرة ومميزة مع القوى الدولية.

كان مؤتمر وزراء خارجية هذه الدول الخليجية الثمانى الذى استضافته العاصمة العمانية مسقط (سبتمبر 1976) هو أول وربما آخر مؤتمر على هذا المستوى لوزراء خارجية هذه الدول. وكان السؤال المحورى للمؤتمر هو: ما هى الصيغة المثلى لتحقيق الأمن؟ وعرضت أربع رؤى مختلفة الأولى إيرانية (إيران الشاه)- عمانية تدعو إلى تشكيل حلف استراتيجى عسكرى بين الدول الثماني، والثانية سعودية تدعو إلى التوقيع على اتفاقيات أمنية بين السعودية وكل من الدول الخمس الخليجية (سلطنة عمان، الإمارات، الكويت، قطر، والبحرين) على حدة، والثالثة عراقية تدعو إلى ربط الأمن الخليجى بالأمن القومى العربي، واستبعاد إيران نهائياً من هذا الأمن باعتبارها دولة غير عربية أما الرؤية الرابعة فكانت كويتية وتطالب بالتركيز على صيغة التعاون السياسى والاقتصادى بين الدول الخليجية.

انتهى مؤتمر مسقط بالفشل، ودخلت إيران موجة الاضطرابات وسقط نظام الشاه فى فبراير 1979، وتفجرت الحرب العراقية- الإيرانية فى سبتمبر 1980 التى استمرت ثمانى سنوات حتى أغسطس 1988. وبسبب ظهور إيران الإسلامية التى تبنت خطاباً سياسياً دينياً ثورياً يدعو إلى تصدير الثورة الإيرانية إلى الدول المجاورة (العربية خاصة) الأمر الذى اعتبر تهديداً لأمن واستقرار هذه الدول، وبسبب التداعيات والمخاطر الأمنية المتلاحقة للحرب العراقية- الإيرانية اضطرت الدول الست (السعودية وسلطنة عمان والإمارات والكويت وقطر والبحرين) إلى تأسيس مجلس التعاون الخليجي، كإطار تشاوري- تعاونى هدفه النهائى تحقيق وحدة دول وشعوب الخليج العربية، لكن هدفه المباشر كان التحسب للتداعيات الخطيرة لهذين الحدثين: الثورة الإيرانية والحرب بين العراق وإيران.

كان تأسيس مجلس التعاون الخليجى علامة فارقة فى تاريخ الأمن الخليجى الذى ظل مراوغاً، وظل أسيراً للأزمات الخليجية المتفجرة الواحدة تلو الأخرى كما ظل أسيراً أيضاً للعلاقات التنافسية بين الدول أعضاء المجلس، لكن الأهم هو أن هذا الأمن، بسبب هذا كله، وبسبب اختلال توازن القوى بين المجلس وكل من إيران والعراق ظل معتمداً على «الموازن الخارجي» الدولى والأمريكى بصفة خاصة والإقليمى أحياناً (التركى والباكستاني)، لكنه ظل بعيداً عن أى صيغة ارتباط بالأمن القومى العربى باستثناء المشاركة المصرية والسورية فى حرب تحرير الكويت عام 1991، التى كادت تحدث استثناء فى هذه العلاقة من خلال ما عُرف بـ «إعلان دمشق»، لكن سرعان ما تم الانقلاب على هذا الاستثناء العربي، لمصلحة الارتباط باتفاقيات دفاعية وأمنية ثنائية بين كل دولة خليجية على حدة مع الولايات المتحدة الأمريكية.

لم يستطع الحليف الأمريكى تحقيق الأمن للخليج، ولم تستطع الدول الست أعضاء المجلس خلال هذه المسيرة الطويلة، وعلى مدى خمسة وثلاثين عاماً تحقيق الأمن، لسبب أساسى هو أنها لم تكن تملك القرار لتحمل تبعاته. ظلت تراهن على «الموازن الخارجي»، وظلت أسيرة لصيغة «الأمن الاستراتيجى العسكري» رغم كلفته الهائلة، والآن تجدد الرهان على الموازن الخارجي، عبر «الحليف البريطاني» الذى كان الكثيرون من أبناء الخليجيين يعتقدون أنه »خرج ولن يعود«. لكنه عاد. لذلك بات مشروعاً السؤال عن: أى أمن ستحققه بريطانيا فى الخليج؟ إذا أخذنا فى اعتبارنا كل ما يحدث الآن من أحداث ساخنة تحمل مؤشرات مفادها أن المنطقة كلها، وفى القلب منها الخليج أمام خرائط جديدة للتحالفات والصراعات.