المركز العربي للبحوث والدراسات : فانتازيا ترامب و «الحقائق البديلة» (طباعة)
فانتازيا ترامب و «الحقائق البديلة»
آخر تحديث: الأحد 19/02/2017 04:02 م
ماجد الشيخ ماجد الشيخ
يبدو أن العهد الأميركي الجديد بتوجهاته الترامبية، سوف يمضي في اتجاهات غامضة كغموض صاحبها، وينحو نحو توجهات غير متوقعة، تحل فيها «الحقائق البديلة» محل الوقائع، والفانتازيا محل الواقع. وتحل فيه الصفقات بديلاً للتسويات، والتجارة والاقتصاد بديلاً للسياسة، والانغلاق والانكماش على الذات، والانتقائية محل العولمة والانفتاح على العالم.
يعود تعبير «الحقائق البديلة» إلى ذلك الترميز الذي أطلق على تلك اللغة التي تمّت صياغتها على يد الكاتب البريطاني المعروف جورج أورويل في روايته (1984)، كلغة استجدت في أجواء الرواية نتيجة استفحال الشمولية والاستبداد السلطوي ومحاولة الحزب الحاكم، ليس الحد من مصادرة الحريات، بل وفرض «حقائق بديلة» محل الواقع، ولغة موازية لذاك الإحلال، ما يرسب لغة بديلة هي لغة السلطة الغرائزية الإخضاعية التي ترفض وتكابر بعناد أن تتعايش مع لغة سابقة، بل هي تسعى إلى تكييف العالم وفق ما تريد وتشتهي وترغب؛ وذلك هو منطق الاستحواذ الطفولي لسلطة الفرد أو الطغمة لا فرق، طالما أن هناك شبه إجماع على تحويل السلطة وانفكاكها من أسر السياسة، إلى سلطة ذاتية لا تعبر سوى عن مصالح الذات الفردية، حتى ولو تمّ الانقلاب على السياسة والاقتصاد والاجتماع في العالم كله.
«الحقائق البديلة» ليست حقائق بقدر ما هي وقائع، ومعطيات يجرى الاشتغال على استبدالها حتى ولو بما يناقضها تماماً، طالما أن المصالح قابلة للتعديل والتبديل في كل وقت، وطالما أن العلاقات يمكن تكييفها بما يستجيب لتلك المصالح؛ فالانكفاء الأميركي الذي أتاح لروسيا إعادة تجميع قواها في المنطقة والعالم، للعودة إلى ماضي قوتها السوفياتية، وإطلاقها في الفضاء الدولي عبر المنصة السورية، أدى إلى خلق «حقائق بديلة» فعلياً وعملياً، ليس عبر دور موسكو المشهود له بمحاولة خلق «حقائق بديلة» للعمليات العسكرية، بل وعبر دورها الذي يتكثف اشتغالاً الآن على تهيئة ظروف حل سياسي في سورية، وبالاشتراك مع الطغم ذات الأدوار الإقليمية، التي رأت في تحالفها مع موسكو راهناً (تركيا وإيران وميليشياتها الطائفية وفي الغد مع الأميركيين) رافعة للعمل على الفوز في الحرب ضد الإرهاب، أي ضد «داعش» وجبهة فتح الشام (النصرة القاعدية وأضرابهم المبايعين)، لما تشكلانه من أخطار كبرى على الأمن الإقليمي والدولي، وهي المعركة الأساس في مجرى العمل على تصنيع «الحقائق البديلة» إلى جانب الاحتفاظ بالهيمنة الروسية على منطقة الشرق الأوسط، وإعادة تنظيم القوى المؤيدة لموسكو، ولعب دور في اقتسام المصالح والمغانم بينها وبين تركيا وإيران، مع عدم نسيان الحصة الأميركية، في نوع من مقايضة سياسية واقتصادية وتجارية مع الترامبيين (القوميين الشوفينيين الجدد) في البيت الأبيض.
هكذا سعت روسيا عملياً إلى وضع ما يريده أصحاب «الحقائق البديلة»، على سكة التنفيذ بخلقها وقائع جديدة، في سورية وفي المنطقة عموماً، ومن أبرزها وقائع التحول التركي في اتجاه القبول باستمرار نظام الأسد وعدم اشتراط إزاحته، وتكييف النظام الإيراني مع شروط وعوامل التدخل الروسي إلى جانب النظام، وذلك نتيجة التحالف الجديد القائم اليوم بين أطراف الضمانات التفاوضية (روسيا وإيران وتركيا) بين النظام والمعارضة، تلك التي رعت جولة المفاوضات الأخيرة في العاصمة الطاجيكية آستانة، وستتابعها في ما بعد في جنيف.
يبقى أن الانشغالات الأميركية بنسختها الترامبية، مستفيدة من الإنجازات الروسية في ضبط وضعية التحالف الروسي – الإيراني – التركي في المنطقة، سوف تركز على وضعية الحرب ضد الإرهاب، وتعضيد التحالف الأميركي مع روسيا، وخلق «حقائق بديلة» على صعيد الصراع مع إسرائيل، لا بدائل أو وقائع حقيقية لما هو سائد فعلياً على الأرض، حيث يراهن اليمين الإسرائيلي المتطرف على تحويل التطرف الدولي الشعبوي في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا لمصلحته، وبما يتيح لإسرائيل بناء المزيد من المستوطنات، وإدامة واستمرار الاحتلال، وفي توجه ينهي عملياً وواقعياً أسطورة «حل الدولتين»، في وقت يجرى فيه تركيز مخططات الاستيطان الجديدة في مدينة القدس، بهدف إنجاز عملية تهويدها، والعمل على نقل السفارة الأميركية إليها ولو بعد حين، وبما يكرس في «تعايش قسري» يتواصل خلاله صراع الإرادات، باستمرار الاحتلال لكامل أرض فلسطين التاريخية، واحتدام الصراع في كامل أرض الدولة الناشئة منذ العام 1948، وهي الأقرب إلى «دولة ثنائية القومية»، فيها من الأبارتايد والتمييز العنصري الكثير، وفيها من محاولات الوصول إلى «صفقات ناجحة» أيضاً، الكثير من ترذيل التسويات التفاوضية، طالما أن الإدارة الترامبية تنحاز انحيازاً أعمى لواقع ووقائع الاحتلال كـ «حقائق بديلة»، يجرى استبدالها بضرورات السياسة وسياسة الضرورات الأمنية، البادية اليوم وكأنها الهدف الأول والأخير، لعالم بات عرضة للعيش في ظل أوهام من «حقائق بديلة»، تجعله ينقلب على نفسه، فلا يجد إلا الفانتازيا يحلها محل الواقع.
هكذا هي الترامبية اليوم؛ كل ما يهمها هو «استراتيجية الأرباح»، ولو على حساب السياسة، بعيداً عن فلسفة علم الاجتماع السياسي واستراتيجيات الهيمنة والنفوذ عبر العالم، طالما أن عالم الاقتصاد والتجارة والاستثمار، هو «العالم البديل» الذي يحقق لترامبيي الحقبة الأميركية الراهنة نوعاً من الانكفاء على الداخل، وانغلاقهم على استراتيجية ربح كونية، ترضي الذات قبل أي أحد آخر في الكون. وتلك هي السياسة التجريبية التي تعبر عن جوهر ومضمون «الحقائق البديلة»، لما تعتقده الترامبية «مصالح أميركا أولاً» حتى ولو كانت هي الفانتازيا مجسدة، ولو قسراً، كي تحل محل الواقع.

 
* كاتب فلسطيني
نقلا عن الحياة