المركز العربي للبحوث والدراسات : التوجه شرقاً: قراءة في رحلة الملك سلمان الآسيوية (طباعة)
التوجه شرقاً: قراءة في رحلة الملك سلمان الآسيوية
آخر تحديث: الأحد 12/03/2017 01:55 م إبراهيم نوار
التوجه شرقاً: قراءة

تحمل رحلة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز التي بدأت في 26 فبراير2017 إلى ماليزيا وإندونيسيا وسلطنة بروناي والصين واليابان، ثم وهو في طريق عودته، إلى جزر المالديف ثم إلى الأردن للمشاركة في اجتماعات القمة العربية، دلالات بالغة الأهمية في الظروف الحالية التي تشهدها المنطقة والعالم. فهي رحلة فريدة في نوعها، سوف تستغرق شهرا تقريبا، بين مباحثات وعمل على مستوى العلاقات الرسمية بين السعودية وبين تلك الدول، إلى سياحة وراحة في بعض البقاع المعروفة بخلابة طبيعتها وقوة جاذبيتها السياحية، على وجه التحديد جزيرة بالي في إندونيسيا وبلاد المالديف. وقد حمل الملك معه في رحلته هذه أسطولا من السيارات الفارهة وما يقرب من 500 طن من الحقائب، بعضها على طائرته الحديثة من طراز بوينج، وبعضها في بطن طائرة نقل عملاقة من طراز هيركليوز- سي 130. وقد كان منظر هذه الحقائب وسيارتي مرسيدس ليموزين فاخرتين، والوفد الضخم المصاحب للملك مثيرا للدهشة خصوصا في إندونيسيا أكبر بلد إسلامي في العالم من حيث تعداد السكان، الذي لم يشهد أهله لمدة جيلين تقريبا زيارة لملك سعودي إلى بلدهم، مع أن الإندونيسيين هم من كبريات الجاليات العاملة في السعودية.

وقد ذهب كثير من المحللين إلى اعتبار الزيارة جزءا من حملة سعودية لإقامة معسكر سياسي من الدول الإسلامية السنية ضد إيران الشيعية وفرض حصار عليها،  خصوصا بعد ان فتح الإتفاق النووي مع القوى الكبرى الطريق أمامها لإعادة بناء جسور الإتصال بينها وبين بلاد العالم، بعد أن كانت العلاقات بين إيران والعالم قد تأثرت إلى حد كبير بإجراءات المقاطعة والعقوبات التي فرضتها عليها الأمم المتحدة والولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي. وربما كان مجرد ظهور خادم الحرمين الشريفين في جاكرتا وكوالالمبور مبررا لاستدعاء إيران إلى المشهد، لكن ذلك مجرد عرض جانبي من أعراض المشهد. إن الأغلبية الساحقة من السكان المسلمين في هذه البلاد التي يزورها الملك سلمان هم من المسلمين السنة وليس الشيعة، سواء في الدول الإسلامية التي يشكل المسلمين أغلبية سكانها مثل إندونيسيا، أو في البلاد غير الإسلامية التي يشكل المسلمون أقلية من أقلياتها السكانية مثل الصين. لكن حضور إيران إلى المشهد قد يكون أحد النتائج الإفرازات الجانبية للزيارة، وليس الهدف الرئيسي من رحلة الملك سلمان الآسيوية.

 

الأرجح أن زيارة الملك سلمان إلى الشرق البعيد تهدف أساسا إلى تأكيد مصالح المملكة السعودية مع الدول التي تمثل العمود الفقري لزبائن النفط مثل الصين واليابان، والشركاء الذين تطمح أرامكو السعودية إلى توسيع نطاق مصالحها لديهم مثل إندونيسيا وماليزيا. لكن ذلك ليس كل شيء بالتأكيد؛ فهناك رغبة السعودية في أن تعيد تقديم نفسها للعالم كقوة إسلامية معتدلة معادية للتطرف والإرهاب، وقد تحدث الملك سلمان في ذلك صراحة في كل من إندونيسيا وماليزيا. وهناك أيضا رغبة قوية في مد أيدي الصداقة إلى دول إسلامية بعيدة عن بلاد العرب، بعدت بها المسافة عن السعودية، ولم ترق أواصر الصداقة معها خلال العقود الأخيرة إلى القدر المطلوب؛ فحمل الملك معه مشاريعا لإنشاء مدارس لتدريس اللغة العربية وثقافتها، وإنشاء معاهد أو مؤسسات مشتركة للدرسات السياسية والدفاعية، وزيادة أعداد الطلاب المبعوثين من تلك الدول للدراسة في الجامعات السعودية. هذه هي الأهداف المباشرة لرحلة سلمان الآسيوية، وليس التوسع في إقامة حلف سني معادي لإيران.

ويمكن كذلك القول بقدر كبير من الإطمئنان أن رحلة الملك سلمان تكتسب أهمية استراتيجية في إنها تمثل بداية لإعادة تسويق المملكة العربية السعودية في الخارج، إنها زيارة تسويق سياسي واقتصادي قبل أي شيء، كما إنها ربما بالقدر نفسه من الأهمية بالنسبة للملك سلمان شخصيا، فرصة للراحة والإستجمام، بعد عامين من العناء بسبب التطورات في سورية واليمن.

إن السعودية وهي على مشارف طرح نسبة من أسهم أرامكو في الأسواق المالية العالمية، تريد أن يكتسب هذا الطرح الجاذبية الكافية، ليس للخوف من عدم الإقبال عليه، فهذا الإقبال مضمون تماما، ولكن لزيادة جاذبيته بحيث يصبح حديث العالم في حينه. ونظرا لأن السعودية في طموحها الجديد تريد الإنفتاح أكثر على العالم، فإن شرق آسيا هو المنطقة النموذجية لإعلان هذا الإنفتاح، فهي كما ذكرت الزبون الأول للنفط السعودي، وهي صاحبة الفوائض المالية الضخمة، وهي الأقدر على أن تصبح شريكا اقتصاديا وتجاريا رئيسيا على المدى البعيد، خصوصا بعد أن برهنت الصين فعلا على ذلك.

لكن إعادة تسويق المملكة كقوة نفطية، وقوة إسلامية معتدلة يحوي في طياته الكثير عن الأسئلة بشأن العلاقات العسكرية مع تلك الدول، خصوصا الإسلامية منها المنضمة إلى التحالف الذي أنشأته السعودية للحرب على الإرهاب والذي يضم نحو 40 دولة من بينها إندونيسيا وماليزيا، وإن كانت مساهمة كل منهما رمزية وفي إطار المجهود اللوجيستي داخل السعودية نفسها وليس العملياتي. وليس من المتوقع أن يكون لموضوع التحالف الإسلامي ضد الإرهاب حظ كبير من النقاش خلال تلك الزيارة، لأن السعودية نفسها أصبحت في وضع يصعب عليها فيه وضع تقديرات واضحة للمستقبل في ظل التطورات الجارية حاليا في سورية وفي اليمن. لكن سيتم في المقابل التأكيد على معاداة السعودية للتطرف وللإرهاب.

 

وعلى الرغم من أنه من المبكر جدا تقييم نتائج الرحلة الآسيوية للملك سلمان والتي من المقرر أن تنتهي في أواخر الشهر الحالي، إلا أنه من المفيد أن ننظر إلى ما تحقق حتى الآن، حيث أن ما تم الإتفاق عليه بين السعودية وبين كل من إندونيسيا وماليزيا يعتبر مؤشرا على الأهداف المبتغاة من هذه الرحلة.

في إندونيسيا، قدمت السعودية نفسها كبلد داعم للإقتصاد الإندونيسي الذي يعاني الكثير من نقص الإستثمارات، كما قدمت نفسها على إنها واجهة للإسلام المعتدل الذي يحترم التنوع والتسامح. وخلال الأيام الثلاثة للزيارة الرسمية، التي سبقت سفر الملك والوفد المرافق له للإستجمام في جزيرة بالي (12 يوما تقريبا) وقعت السعودية مع إندونيسيا 11 اتفاقا قي مجالات شتى، نفطية وتجارية وتعليمية وثقافية، كان أهمها الإتفاق بأن تتولى أرامكو السعودية أعمال تطويرمصافي النفط المملوكة لشركة "برتامينا" الإندونيسية. ومن المتوقع أن تضخ أرامكو في هذا المشروع إستثمارات بقيمة 6 بلايين دولار. وفي حال تنفيذ هذا الإتفاق فإن ذلك سيفتح أمام السعودية فرصا كبيرة للإستثمار في قطاع النفط والغاز الإندونيسي الذي يعاني من نقص الإستثمارات وتردي كفاءة الأداء.

وكان الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو (جوكووي) قد سعى منذ عدة أشهر (ديسمبر 2016) إلى استطلاع إمكان أن تساهم إيران في تطوير مصافي النفط ومشاريع الغاز في بلاده، بما في ذلك مدى إمكان أن تستورد بلاده مليون برميل من النفط الإيراني لتكريرها في المصافي الإندونيسية. وتأتي أهمية الإتفاق مع السعودية بأن تقوم أرامكو بتطوير القطاع في أن الإتفاق يفتح الباب أمام أرامكو لتأكيد هويتها كشركة نفطية عالمية ممتدة المصالح ومتشعبة الوظائف، خصوصا في مكنطقة هي الآن من أهم مناطق العالم نموا. ومع ذلك فإن أي اتفاق إندونيسي مع إيران لن يحمل معه أي دلالات أيديولوجية حيث إن نسبة المسليمن الشيعة في إندونيسيا لا تزيد عن 1.5% من مجموع المسلمين هناك.

أما في ماليزيا فقد وقعت الشركات الماليزية والسعودية 7 مذكرات تفاهم في مجالات عدة بقيمة 2.2 مليار دولار تقريبا، شملت استثمارات ماليزية في السعودية في مجالات تطوير اللقاحات، والنقل العام، والأغذية، وصيانة الطائرات، وبرمجيات وحلولا إلكترونية، والأجهزة الكهربائية، إضافة إلى تنفيذ مشروعات مشتركة في الطاقة. كذلك تم الإتفاق على زيادة التجارة المتبادلة (3.3 مليار دولار في العام 2016) وتعزيز العلاقات التعليمية والثقافية.

وإذا كانت دول مثل إندونيسيا وماليزيا تتطلع إلى زيادة الإستثمارات السعودية الوافدة إليها، وزيادة صادرات صناعاتها إلى المملكة، فإن السعودية في ناحية أخرى تتطلع إلى حث الصين واليابان على زيادة استثماراتها الوافدة، خصوصا وإنها تسعى إلى تنويع اقتصادها وتقليل اعتمادها على صادرات النفط الخام وعلى الصناات النفطية عموما. بالقطع سوف يسعى الملك سلمان إلى ضمان استمرار الإمدادت النفطية السعودية إلى كل من اليابان والصين، ولكنه في الوقت نفسه سوف يسعى إلى إقناع هاتين الدولتين بزيادة استثماراتهما في السعودية، واستخدام المملكة كنقطة ارتكاز في الشرق الأوسط. لكن هذا السعي من جانب المملكة ربما لا يجد الكثير من الإستجابة بالقدر نفسه خصوصا في الصين، نظرا لأن الصين على وجه الخصوص تنظر إلى إيران على إنها اقرب استراتيجيا وجيوبوليتيكا لأنها تأتي في موقع رئيسي على خريطة إحياء طريق الحرير الذي تريد منه الصين أن تصبح مركز التجارة العالمية.

وهنا فإن الملك سلمان بن عبد العزيز ربما يحمل معه إلى بكين عرضا بمليارات الدولارات لشراء أسلحة صينية للقوات المسلحة السعودية. وكانت السعودية في العام 1985 قد اشترت من الصين صفقة صواريخ متوسطة المدى من طراز إيست ويند بقيمة 3.5 بليون دولار، ومن المرجح في ظل الضغوط الحالية التي تتعرض لها السعودية في بعض البلدان الغربية أن تلجأ مرة ثانية إلى الصين لاستيراد أسلحة متنوعة، في بادرة لإقناع بكين بالقيام بدور أكثر إيجابية تجاه السياسة السعودية في الشرق الأوسط.

وربما يستطيع الملك سلمان تحقيق نتائج اقتصادية وتقنية مهمة في زيارته لليابان، فنظرة اليابان الإستراتيجية إلى منطقة الشرق الأوسط تختلف كثيرا عن الصين، إلى جانب أن اليابان ما تزال في عداد الدول الساعية للقيام بدور أكبر في إطار التحالف الغربي، وربما تكون أمثر استعدادا لمساعدة السعودية في مجالات نقل التكنولوجيا والتعليم والتطوير الصناعي. وبالطبع ستكون زيارة الملك سلمان ذات طبيعة خاصة بعد أن كان قدر زارها في مايو 2014 عندما كان وليا للعهد وزيرا للدفاع ونائبا لرئيس الوزراء السعودي. وكانت أخر زيارة قام بها ملك سعودي لليابان هي الزيارة التي قام بها الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز عام 1971.

إن زيارة الملك سلمان لكل من الصين واليابان ستكونا المؤشر الحقيقي على مدى نجاح رحلته الآسيوية. فهو يطمح في الحصول على ضمانات تجارية، وتدفقات استثمارية، ودعم سياسي من هاتين الدولتين، في ظل الوضع المضطرب الذي تعاني منه الإدارة الأمريكية حاليا. وتطمح السعودية في أن تكون الصين واليابان من الدول الرئيسية التي ستشارك في عملية إعادة بناء الإقتصاد السعودي، من خلال خطة تنويع مصادر الدخل التي ستكون بدايتها الإستراتيجية هي عملية بيع جزء من أسهم شركة أرامكو أكبر شركة نفطية في العالم. أما في الصين، فإن السعودية لن تتمكن من تغيير استراتيجية بكين في الشرق الأوسط، لكنها تستطيع من خلال خلق مصالح صينية لدى السعودية أن تجعل السياسة الصينية تجاه السعودية مرونة، وأكثر إيجابية.

 

وبينما كان يستجم الملك سلمان بن عبد العزيز في جزيرة بالي، فإن السياسيين في طهران يعيدون دراسة الموقف ويتأملون المشهد بعناية، رغبة منهم في المحافظة على مصالحهم في شرق آسيا، وعدم تمكين السعوديين من قطع الطريق عليهم في الإستفادة من ثمار الإتفاق النووي مع القوى الكبرى والتوسع شرقا أيضا. إن ظاهرة انتقال محور النمو العالمي من الغرب إلى الشرق جعلت لشرق آسيا جاذبية خاصة للعالم كله، وليست رحلة الملك سلمان الآسيوية إلا نموذجا من نماذج الإستجابة لهذه الظاهرة. لكن رحلة الملك سلمان الآسيوية تظل في نهاية المطاف رحلة للتسويق السياسي والإقتصادي، لتأكيد الطابع المعتدل للسياسة السعودية، ولجذب المزيد من الإستثمارات وتنويع الإقتصاد، ولتوسيع نطاق شبكة العلاقات الإقتصادية المتبادلة مع المنطقة التي أصبحت محور النمو في العالم.