المركز العربي للبحوث والدراسات : استراتيجية أمريكية جديدة للصراع مع إيران في العراق (طباعة)
استراتيجية أمريكية جديدة للصراع مع إيران في العراق
آخر تحديث: الأربعاء 15/03/2017 02:13 م د. محمد السعيد إدريس
استراتيجية أمريكية

لم يكن مفاجئاً للحضور في مؤتمر ميونيخ السنوي للأمن أن يحدث كل ذلك التطابق في الرؤى بين وزير الأمن "الإسرائيلي" أفيجدور ليبرمان ووزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس إزاء ما تمثله إيران من خطر وتهديد للمصالح والأمن في إقليم الشرق الأوسط كله وليس فقط لأمن ومصالح "إسرائيل" والولايات المتحدة.

فما ورد على لسان الوزيرين لم يختلف كثيراً عن مضامين ما صدر عن لقاء بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة "الإسرائيلية" مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في واشنطن حيث نجح نتنياهو في أن يحقق مع ترامب ما عجز عن فرضه طيلة ثماني سنوات من إدارة الرئيس السابق باراك أوباما بتجهيل الملف الفلسطيني وإبراز الملف الإيراني باعتبار أن الخطر الإيراني هو المصدر الأساسي لتهديد الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط وليس النزاع "الإسرائيلي"- الفلسطيني. فقد فرض نتنياهو ما أراد، ولذلك كان أفيجدور ليبرمان واعياً بما يقول عندما تعمد أن يعلن عقب لقاء له في ميونيخ مع وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس بأن "المشاكل الثلاث الأساسية التي ستواجه "إسرائيل" والولايات المتحدة هي: إيران ثم إيران ثم إيران"، ولم يكن خارجاً عن السياق أيضاً تشديده على ضرورة "بناء تحالف حقيقي وناجح لمواجهة الإرهاب الذي تنشره (إيران) في العالم وانشغالها في تطوير الصواريخ والتسلح النووي".

كلام مهم لكن يبقى السؤال: كيف ستتم مواجهة إيران؟

وفق مكتب ليبرمان، فقد اتفق مع نظيره الأمريكي على "إدارة حوار مفتوح وتعاون مشترك من أجل تعزيز أمن "إسرائيل" والحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة". أما السيناتور ليندسي جراهام عضو لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي، الذي شارك أيضاً في أعمال مؤتمر ميونيخ للأمن فقد صرح بأنه يعتقد أن الوقت قد حان "كي يواجه الكونجرس الأمريكي إيران فيما يتعلق بما فعلته خارج البرنامج النووي"، وأنه وأعضاء جمهوريين آخرين "سيطرحون إجراءات لتحميل إيران مسؤولية أفعالها". أما السيناتور كريستوفر ميرفي عضو لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ فقد طالب في ذات الجلسة التي تحدث فيها زميله ليندسي جراهام أمام مؤتمر ميونيخ بفرض عقوبات جديدة على إيران تتجاوز تلك العقوبات التي رفعت عنها نتيجة للاتفاق النووي، لكنه لفت الأنظار إلى السؤال الأهم وهو: "هل الولايات المتحدة تريد القيام بدور أوسع في الصراع الإقليمي؟". وأضاف "يتعين أن نتخذ قراراً بشأن ما إذا كنا سننخرط، بدرجة أكبر مما نحن عليه الآن أم لا؟".

الواضح حتى الآن أن الإدارة الأمريكية مازالت مترددة ولا تملك إستراتيجية واضحة ومحددة المعالم إزاء أبرز أولويات ما أعلن من سياسة خارجية أمريكية تتعلق بإقليم الشرق الأوسط: "الحرب على الإرهاب (الإسلامي) ومواجهة إيران".

لم تتحدد بعد معالم الحرب التي ستخوضها إدارة الرئيس ترامب ضد ما تسميه بـ "الإرهاب الإسلامي"، وما إذا كانت هناك استراتيجية جديدة تختلف عن استراتيجية إدارة أوباما، أي الدور الأمريكي الراهن في الحرب ضد "داعش" في العراق وسوريا، وما إذا كانت هناك نوايا جادة للتنسيق مع روسا في هذه الحرب أم لا، والغموض نفسه يحكم الموقف الأمريكي من إيران، كما لم تتكشف أية معالم تقول إلى أي مدى يمكن أن يصل الرئيس دونالد ترامب في استراتيجيته المتشددة ضد إيران: هل سيلغي الاتفاق النووي، أم سيضاعف العقوبات، أم الخيار العسكري المباشر هو الخيار الأنسب، أم سيلجأ إلى خيار محاصرة إيران والتضييق عليها في مناطق نفوذها مع شركاء إقليميين في مقدمتهم "إسرائيل" وتركيا ودول ما يسمى بـ "الاعتدال العربي" الذين يرون أن إيران باتت هي المصدر الأساسي للتهديد؟

هناك من يرجحون هذا الخيار الأخير، ويرون أن العراق الذي هو أهم مناطق النفوذ الإيراني ربما يكون ساحة المواجهة مع إيران، وهناك من يعطون الأولوية للساحة السورية وفي مقدمتهم "إسرائيل" التي تضع خطوطاً حمراء أمام أي وجود عسكري إيراني مباشر أو لحزب الله اللبناني على الأراضي السورية.

العراق في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة

على الرغم من الضغوط "الإسرائيلية" لتصعيد المواجهة مع إيران في سوريا، إلا أن العراق قد يكون جاذباً للعمل الأمريكي لأسباب كثيرة أولها أنه، وإن كان مركز تفوق النفوذ الإيراني، إلا أنه نقطة ضعف إيران، وإذا فقدت إيران العراق فسوف تخسر كثيراً في سوريا ولبنان وربما أيضاً في اليمن، كما أن العراق هو ساحة تفرد للعمل العسكري الأمريكي دون أي وجود للشريك الروسي، لكن الأهم أن سوريا ليست دولة مصالح استراتيجية واقتصادية للولايات المتحدة على حسب ما أكد نائب الرئيس الأمريكي السابق، فالعراق هو بلد الثروة الحقيقية حسب ما لفت الأنظار إلى ذلك الرئيس دونالد ترامب، والذي انتقد بشدة أثناء حملته الانتخابية الانسحاب الأمريكي من العراق دون جني ثمار الأثمان الهائلة التي دفعت هناك، لكنه وبعد أن أصبح رئيساً عاد ليتحدث عن تلك الأثمان وعن الخطر الإيراني في العراق، عندما حذر من خطورة تنامي النفوذ الإيراني في العراق على المصالح الأمريكية، وغرّد منذ أسابيع مهاجماً السياسة الإيرانية من بوابة العراق لا من غيرها معتبراً أن إيران "تستحوذ بسرعة على المزيد والمزيد من العراق، حتى بعد أن أهدرت الولايات المتحدة هناك 3 تريليونات دولار".

إذا كان هذا هو إدراك الرئيس الأمريكي فإن هناك من يدعمون خيار التصعيد ضد إيران انطلاقاً من العراق على نحو ما ورد في دراسة نشرها دينيس روس المساعد الخاص للرئيس السابق باراك أوباما في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، وهو في ذات الوقت أحد مؤسسي لوبي "متحدون ضد إيران نووية" يطالب روس الإدارة الأمريكية في هذه الدراسة بعزل إيران فوراً ويقول "سيكون لزاماً على الإدارة الجديدة الحفاظ على إجماع الحزبين في الكونجرس بأن الوضع في دمشق وبغداد، والدور الذي تلعبه إيران هناك غير مقبول"، ويرى أن أفضل سبل مواجهة إيران هو "رفع تكاليف استمرار التعنت الإيراني، وبالتحديد من خلال معالجة القضايا الحيوية (خارج إطار الاتفاق النووي) وبشكل خاص تدخل إيران المزمن في المنطقة".

لم يحدد روس كيف يمكن أن تكون المواجهة الأمريكية مع إيران في تلك القضايا وفي مقدمتها العراق. خصوصاً في ظل ردود الفعل السلبية التي أثارتها تغريدة الرئيس ترامب بخصوص "نفط العراق" و"الثلاثة تريليونات دولار" التي أنفقتها الولايات المتحدة في العراق، لكن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس حسم هذا كله في تصريحات صريحة وواضحة في أول زيارة له للعراق الاثنين الماضي (20 فبراير/ شباط 2017) فقد استغل جيمس ماتيس زيارته الأولى لبغداد لطمأنة العراقيين إلى أن الأمريكيين لا يسعون إلى نهب احتياطي نفطهم، إلا أنه لمحَّ إلى أن الخروج الأمريكي من العراق ليس قريباً، وذلك بناء على فكرة أن الحرب مع "داعش" طويلة، تلميح يقول أن واشنطن تخطط لإعادة ترتيب دور جديد لها في العراق بعد انتهاء حرب الموصل سيكون حتماً على حساب إيران، لكن يبقى السؤال الأهم هو ما هي حدود هذا الدور، وهل العراق مهيأ للتفاعل بإيجابية مع الدور الأمريكي الذي لم تتحدد معالمه بعد، أم العراق الذي أشرفت واشنطن على إعادة تأسيس نظامه الجديد بحلفاء محليين جدد، قد لا يكون هو العراق الحالي، في ظل متغيرات أخرى جديدة وشديدة الأهمية سواء داخل العراق، وبالذات خرائط التحالفات الجديدة بين الفرقاء السياسيين بعد الانتهاء من تحرير الموصل، وخطوط التواصل بين الأزمتين في العراق وسوريا، وبالذات عدم اكتمال الحرب ضد الإرهاب ليس فقط في العراق بل وأيضاً في سوريا.

فالتأكيدات التي وردت على لسان وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس في زيارته الأولى للعراق (20/2/2017) والتي نفى فيها أية نوايا أمريكية للاستيلاء على نفط العراق، وقدم للعراقيين طمأنة صريحة بهذا الخصوص، فإن هذه التأكيدات جاءت رداً على مقاربة واحدة من مقاربتين مهمتين وردتا على لسان رئيسه دونالد ترامب بخصوص العراق، الأولى تلك التي نفاها ماتيس والتي تتعلق بنفط العراق وحديث ترامب على الثلاثة تريليونات التي أنفقتها الولايات المتحدة في حربها بالعراق  (الغزو والاحتلال الأمريكي وإسقاط الدولة وتدمير كل قدراتها الاستراتيجية)، لكن المقاربة الثانية التي لم يتحدث عنها ماتيس هي تلك التي تتعلق بالموقف الأمريكي الجديد الرافض للنفوذ الإيراني في العراق. فقد حذر الرئيس دونالد ترامب، في معرض رده على التجربة الصاروخية الإيرانية الأخيرة، من تزايد النفوذ الإيراني في العراق، وقال أن "التوسع الإيراني في العراق كان جلياً للعيان منذ وقت طويل"، وزاد عبر موقع "تويتر" أن "إيران تبتلع المزيد من العراق"، وأعاد الحديث عن الأموال الهائلة التي أنفقتها الولايات المتحدة بالعراق دون أن تجني ثمارها، عندما نبه إلى أن "إيران تمد نفوذها إلى البلد الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أنفقت عليه 3 تريليونات دولار"، وطالب بإلقاء نظرة جديدة على السياسة الخارجية، ما يعني المطالبة بمراجعة السياسة الأمريكية نحو العراق ونحو إيران معاً.

طبعاً لم يرد على خاطر هذا الرئيس أن بلاده هي من عذب وهي من احتلت العراق دون أي مسوغ قانوني، وأنها هي من هندست السياسة والحكم الطائفي في العراق وهي من جلبت الطبقة السياسية الموالية لإيران كي تحكم العراق وكي تجتث "البعث" وكان المقصود أن تجتث عروبة ووحدة العراق ومكانة العراق المركزية في النظام العربي والتصدي للكيان الصهيوني، ولعل ها ما يبرر تعمد إيهود أولمرت رئيس حكومة الكيان الصهيوني الأسبق للذهاب إلى واشنطن كي يقدم الشكر والتقدير للرئيس الأمريكي جورج بوش الذي حقق "لإسرائيل" هدفاً كانت تحلم به وهو إخراج العراق نهائياً من معادلة الصراع العربي مع الكيان الصهيوني.

لم يرد هذا كله في خاطر الرئيس ترامب، لكن لغة المقاولات التي يجيدها ومعادلة "التكلفة/ العائد" التي تحكم قراراته وسياساته هي التي تدفعه الآن للبحث عن كيفية العودة إلى إعادة تعظيم المكاسب الأمريكية في العراق، والجديد بهذا الشأن أن يحدث ذلك على العكس من السياسة السابقة أي المواجهة مع إيران في العراق وليس التحالف أو على الأقل التنسيق معها، وهنا يجدر التساؤل: هل الولايات المتحدة تنوي العودة إلى العراق؟ وهل هذه العودة تعني، بالضرورة، الصدام مع إيران؟ وإذا كانت تنوي العودة إلى العراق والصدام مع إيران فمع من سوف تتحالف هل فقط مع قوى داخلية عراقية؟ أم ستكون في حاجة إلى تحالف أو تنسيق وتعاون مع أطراف عربية، السعودية والأردن مثلاً، وأخرى إقليمية تركيا بالضرورة، وربما "إسرائيل"، وكيف سيكون الحال مع روسيا حليف إيران في سوريا، بمعنى كيف ستؤثر السياسة الأمريكية الجديدة في العراق: "سياسة توسيع النفوذ الأمريكي والمواجهة مع إيران" على معادلة تفاعلات تسوية الأزمة السورية، والدور الإيراني المستقبلي في سوريا؟ وكيف سيسير خط التفاعل التبادلي بين تسويات العراق ما بعد تحرير الموصل وتسويات سوريا ما بعد حلب؟

أسئلة كثيرة مهمة في حاجة إلى البحث والتدقيق لأن إجابات هذه الأسئلة لن تؤثر فقط على مستقبل العراق، بل وأيضاً على مستقبل سوريا، وعلى النظام العربي ومن بعده النظام الإقليمي الشرق أوسطي، وخرائط التحالفات والصراعات داخل هذا النظام وانعكاسات هذا كله على الأمن القومي العربي وعلى الأمن الخليجي بالتبعية.

على المستوى العراقي مازالت التساؤلات الخاصة بالتسوية السياسية تشغل القوى السياسية العراقية وفي القلب منها الانتخابات البرلمانية المقبلة، وارتباك خرائط التحالفات سواء داخل التحالف الشيعي، أو التحالفات السنية ناهيك عن الانقسامات الكردية ونوازع الكرد للدفع بخيار الاستفتاء على حق تقرير المصير والاستقلال، هذه التساؤلات تزداد ضغوطها مع ارتباك الجميع بخصوص الإجابة الغامضة حول مستقبل العراق بعد تحرير الموصل الذي بات أقرب ما يكون عن أي وقت مضى مع اكتمال السيطرة على مطار الموصل، وهروب قيادات "داعش" واستسلام أعداد كبيرة من المنتسبين لهذا التنظيم.

وسط هذه الارتباكات كانت هناك ميول لإتباع سياسة "النأي بالنفس" عن أي مواجهة أمريكية- إيرانية محتملة في العراق، خوفاً على العراق من مثل هذه المواجهة من ناحية، وحرصاً من جانب قوى سياسية عراقية فاعلة على إتباع سياسة "التوفيق بين الحليفين" الأمريكي- والإيراني بدلاً من المواجهة، في ظل مصالح قوية تربط هؤلاء مع إيران، وعدم استعداد للتضحية بالعلاقة مع إيران لصالح علاقة مع الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل قناعة مفادها أن السياسة الأمريكية الخارجية عموماً وخاصة نحو الشرق الأوسط والعراق، في قلبه، مازالت غامضة وملتبسة ويصعب المراهنة عليها.

فالرئيس العراقي فؤاد معصوم كان حريصاً على تأكيد أهمية علاقات بلاده مع إيران، وشدد على أنها لا تستهدف العلاقات مع أي بلد آخر، وقال في مقابلة مع وكالة "تسنيم للأنباء" الإيرانية (12/2/2017) أن علاقات الجانبين هدفها "تلبية مصالح الشعبين العراقي والإيراني"، ودافع عن دور الجنرال قاسم سليماني رئيس "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني في العراق، وقال أن "تواجده هو ضمن برنامج أيفاد المستشارين الإيرانيين والأجانب لتقديم الدعم الاستشاري اللازم في محاربة الإرهاب، ولا يمكن لأحد ادعاء أن تواجد المستشارين العسكريين الإيرانيين في العراق غير قانوني، وليس لأحد الحق في الاعتراض على ذلك". أما رئيس الحكومة حيدر العبادي فكان أكثر حرصاً على إتباع "سياسة النأي بالنفس" عن أي صدام أمريكي- إيراني، ونزع فتيل أي مواجهة محتملة بين البلدين على أرض العراق.

فعندما تحدث الرئيس الأمريكي ترامب عن ما يمكن تسميته بـ "أطماع أمريكية في نفط العراق" كان العبادي حريصاً على الرد بقوة (24/1/2017) بالتأكيد على أن "النفط العراقي ملك العراقيين"، وتعمد تجاهل ما تحدث به الرئيس ترامب معه في مكالمته الهاتفية حول الموقف من إيران، وهو الأمر الذي كان البيت الأبيض حريصاً على البوح به رغم تكتم العبادي. فقد اضطر العبادي (11/2/2017) على الرد على البيت الأبيض الأمريكي بعد أن أفشى الأخير أحد أسرار تلك المكالمة التي جرت يوم الخميس (9/2/2017) وبالتحديد أن الزعيمين بحثا خلال المكالمة الهاتفية "الخطر الذي تشكله إيران على المنطقة برمتها". وعندما قرر الرد كان حريصاً على أن يرد باقتضاب وقال أن العراق "حريص على مصالحه الوطنية ومصالح شعبه، ولا يريد أن يكون طرفاً في صراع إقليمي أو دولي، يؤدي إلى كوارث في المنطقة والعراق".

واضح أن العبادي حريص في هذا الوقت بالذات الذي لم تحسم فيه بالكامل معارك تحرير الموصل التي يتزايد الدور الأمريكي فيها بشكل واضح أكثر من ذي قبل، على أن يحافظ على التوازن الذي نجح في تحقيقه في العلاقة مع كل من طهران وواشنطن، وكان تصريحه الأخير بنأي بلاده عن الصراعات الخارجية، إقليمية أو دولية، أثار حفيظة إيران التي لم تعتبره يوماً "وفياً" ومطواعاً كما كان سلفه نوري المالكي، خصوصاً أنه نجح في إعادة ترميم المؤسسة العسكرية بمساعدة الولايات المتحدة بكل ما يعنيه ذلك من استعادة للدولة العراقية الوطنية كما نجح في استكمال المواقع الشاغرة في حكومته، الدفاع والداخلية والمالية التي كان البرلمان قد صوت على سحب الثقة من وزرائها، وفي ذات الوقت يسعى بدأب للاستعداد لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة بتحالف جديد مع تيار مقتدى الصدر على حساب تحالف "دولة القانون" الذي يقوده المالكي، وهي كلها أمور تثير حفيظة إيران.

مؤتمر جنيف بداية لـ "هندسة سياسية" جديدة

واضح أن واشنطن لا تنوي الدخول في صدام عسكري مع إيران في العراق، لكنها حريصة على تقليص النفوذ الإيراني عبر مسارات سياسية جديدة تعيد لواشنطن القدرة على إدارة العملية السياسية، بعد انتهاء معارك الموصل وفق "هندسة سياسية جديدة" في العراق مغايرة لما سبق أن قامت به قبيل وبعد غزوها للعراق واحتلاله.

فقد أشرفت الولايات المتحدة بالتنسيق مع "المعهد الأوروبي للسلام" على تنظيم مؤتمر في جنيف للبحث في ترتيبات ما بعد تنظيم "داعش" في العراق، بمشاركة الجنرال ديفيد بترايوس رئيس المخابرات الأمريكية السابق، وأكثر الجنرالات الأمريكيين إحاطة بالشأن السُني والعراقي، وبمشاركة رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومنيك دوفيلبان، وشخصيات دولية أخرى. الهدف المعلن للمؤتمر الذي عقد يوم الأربعاء (20/2/2017) في العاصمة السويسرية هو دراسة تطورات الأوضاع السياسة في العراق ما بعد تنظيم "داعش"، لكن يبدو أن هذا المؤتمر سيكون بداية لتنظيم قوة سياسية جديدة متماسكة لقيادة العراق بديلة عن القوى الراهنة التي تدين بالولاء لإيران، والتي كانت واشنطن هي من دبر لتمكينها من السلطة في العراق لضمان اجتثاث نفوذ عراق صدام حسين وتأمين سلطة أخرى موالية للنفوذ الأمريكي في البلاد.

هذا يعني أن القوى السُنية، وربما تيار البعث سيكون له دور محوري في هذه "الهندسة السياسية الجديدة" في العراق، من منظور إحياء تيار عروبي لمواجهة إيران وحرصاً على دمج الشيعة في هذه المعادلة تفادياً للصراع الطائفي الشيعي- السُني الذي وظفته طهران لمصلحة فرض نفوذها على العراق.

الحرص الأمريكي على تأمين حضور سُني وشيعي في هذا المؤتمر يعكس ويعبر عن الأفكار الجديدة التي يراد من خلالها إعادة تنظيم الحكم في العراق بعد "داعش"، أو بوضوح أكثر، إعادة تمكين الأمريكيين من العراق، أو على الأقل احتواء النفوذ الإيراني، وفي ذات الوقت ضمان قدر أكبر من الوفاق السياسي يحقق الاستقرار المأمول لمنع تكرار الظروف والمبررات التي أوجدت البيئة لنشوء تنظيمات متطرفة مثل "القاعدة" و"داعش".

ما يؤكد هذه المعاني أن ترتيبات عقد مؤتمر جنيف المذكور تزامنت مع اتصالات جرت في العاصمة الأردنية عمان بين أطراف أمريكية وكذلك أطراف من بعثة الأمم المتحدة في العراق مع قيادات أمريكية وكذلك أطراف من بعثية بالعاصمة الأردنية، ودخول إياد علاوي نائب الرئيس العراقي والقيادي البعثي السابق في هذه الاتصالات التي ترمي في مجملها الإعداد لتشكيل حكومة وحدة وطنية يكون حزب البعث شريكاً فيها، وتعكس توازناً جديداً للقوة بين السنة والشيعة في دولة عراقية مركزية ، وربما تأمين إعلان قيام الدولة الكردية.

إن نجح هذا المسعى فإنه يعني حدوث تغيير جوهري في السياسة الأمريكية نحو العراق، لكن يبقى نجاح هذا المسعى مرهوناً بمتغيرين؛ أولهما خصوصية التوازن السياسي – العسكري الذي سيفرض نفسه بعد الانتهاء من معارك تحرير الموصل، وثانيها الترتيبات الإيرانية المعاكسة لهذا المسعى الأمريكي، وعندها سوف تتكشف معالم العراق الجديد ومستقبل السياسة الأمريكية في هذا العراق، وهو أمر شديد الأهمية يحمل مؤشرات لها دلالات قوية على الدور الأمريكي الجديد المحتمل في الشرق الأوسط.