المركز العربي للبحوث والدراسات : قوة مصر وتأثيراتها الخارجية (طباعة)
قوة مصر وتأثيراتها الخارجية
آخر تحديث: السبت 16/09/2017 04:33 ص
د. نيفين مسعد د. نيفين مسعد

خصصت مكتبة الإسكندرية صالونها الثقافى الأول يوم 13 سبتمبر الحالى لمناقشة «مستقبل القوة الناعمة فى مصر»، وهو موضوع حظى باهتمام مصرى متزايد فى الفترة الأخيرة . شارك فى النقاش العديد من ضيوف الصالون، وهم على درجة عالية من التنوع الفكرى والسياسى ما سمح بتعدد كبير فى الرؤى والاجتهادات، وتلك ميزة تُحسب للمكتبة. ولما كان من الصعب استعراض كل القضايا التى تناولتها المناقشات فسوف أتخير قضيتين محددتين قلّما يتم تناولهما عند الحديث عن القوة الناعمة ، القضية الأولى عن العلاقة بين الحرية ــ ومن ثم الديمقراطية ــ وبين القوة الناعمة، والقضية الثانية عن أثر الانبهار بماضى الدولة على مستقبل قوتها الناعمة .

أثارت المناضلة الكبيرة أمينة شفيق قضية العلاقة بين الحرية، وبين القوة الناعمة عندما قالت إنه لا إبداع دون حرية ، فحرية الإبداع تعطى الحق للكاتب والممثل والرسام فى أن يبدعوا دون خوف ، ومع أن مصر لم تعرف حرية الإبداع المطلقة على مدى تاريخها إلا أنه حيثما زادت مساحة الحرية ازدهر الإبداع والعكس صحيح ، وأضافت أن هناك ثلاثة مصادر للتهديد تواجهها هى التهديد بالتخوين والتهديد بالتكفير . وذهبت المداخلات التى توالت تباعا فى نفس الاتجاه .

فى التعليق على مناقشة القضية السابقة يمكن القول إنه فى المطلق صحيح أن الإبداع لا يتحقق فى مناخ الكبت والتضييق لأن الإبداع والحرية صنوان ، لكن هذا لا يعنى أن النظم غير الديمقراطية لم تكن قادرة على إنتاج بعض الموارد الثقافية شديدة التميز ، فالسمعة العالمية الرفيعة لفرقة باليه البولشوى تكونت فى العهد السوفيتي، والصين تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة فى مجال الألعاب الأوليمبية، ولئن كان مفهوما أن هذا النوع من الإبداع «الحركى» لا يتأثر بالقيود السياسية فماذا عن السينما الإيرانية التى تنافس بقوة فى المهرجانات الدولية، أوالدراما التركية التى غزت الأسواق العربية فى السنوات الأخيرة من حكم أردوغان ، بل ماذا عن قناة الجزيرة القطرية ؟

تلفت نظرنا الأمثلة السابقة إلى نقطة تتعلق بأهمية توافر الإرادة السياسية لتحويل القوة الناعمة من مجرد مورد من موارد الدولة إلى أداة لتحقيق أهدافها الخارجية . وكمثال على توافر هذه الإرادة السياسية عادة ما يشار إلى توظيف مصر الناصرية ريادتها الإعلامية فى دعم حركات التحرر الوطنى ، واستضافتها عددا من المواهب العربية تأكيد ارتباط النجومية بالانطلاق من القاهرة ، وتعزيز دور معهد الدراسات الإفريقية ، وتخريج بعض أبرز عناصر النخب العربية من الجامعات المصرية ... إلخ.

 وهكذا يتضح أن العلاقة ليست ميكانيكية بين ديمقراطية النظام السياسى وبين جودة المنتج الثقافى ونفاذيته للخارج ، هذا على رغم أن من صك مصطلح القوة الناعمة ( وهو عالم السياسة الأمريكى جوزيف ناي) جعل الحكم الرشيد مكونا أساسيا من مكوناتها ، لكن ها هى إيران ترفع شعار «تصدير الثورة» وتحقق بعض الاختراقات فى هذا الخصوص ، وها هى تركيا تروج لشعار «العثمانية الجديدة » وتجد وسط شعوبنا من يتبناه.

 ويقودنا الحديث عن توظيف القوة الناعمة لخدمة التوسعات الإقليمية إلى مناقشة تعميم آخر يتعلق بإضفاء صورة إيجابية بالضرورة على القوة الناعمة باعتبارها بديلا للقوة الخشنة وهذا تعميم غير دقيق ، فالدعاية النازية كانت واحدة من أهم الأسلحة الألمانية فى الحرب العالمية الثانية .
وفيما يخص أثر النوستالجيا على مستقبل القوة الناعمة المصرية نبّه الناقد الفنى الكبير طارق الشناوى إلى أن استمرار الحنين للعصر الذهبى للثقافة المصرية قد يمثل معوقا لتطويرها، ويقصد بذلك أن تحديد سقف الغناء بصوت أم كلثوم، والشعر بكلمات أحمد شوقى والأدب والكاريكاتير والموسيقى بأعمال ثروت عكاشة وصلاح جاهين ومحمد عبد الوهاب ـ هذا التحديد يحبس المبدعين داخل قوالب معينة ويحول دون انطلاقهم . شخصيا لا أتصور أن أيا ممن استحضروا هذه الأسماء اللامعة كان فى ذهنه استنساخ أصحابها فالمواهب لا تُستنسخ ، لكن أتصور أن المقصود هو تأمل أسباب قوة التأثير الخارجى للأعمال الفنية التى ارتبطت بتلك المرحلة ، فجزء من هذا التأثير مبعثه ضعف المنافسة الثقافية العربية والإقليمية للدور المصرى وهذا انتهى أمره، لكن جزءا آخر يرتبط بمستوى الوعى العام بأهمية الأدوات الثقافية فى تحقيق أهداف الدولة وهذا يحتاج تنشيطا.

 كيف يمكن تفعيل قوة مصر الناعمة ؟ حتى إثارة هذا السؤال كان الحديث يدور فى فلك الثقافة والفنون لأنها تمثل المعنى المباشر لمفهوم القوة الناعمة ، لكن المناقشات فتحت مجالات عديدة تتفق مع التوسع المستمر لنطاق المفهوم . هنا أشار السفير خالد البقلى إلى جملة من الاقتراحات منها : تفعيل الميزة النسبية لمصر فى مجال قوات حفظ السلام على المستوى الإفريقى ، والتجهيز للمشاركة الفعالة فى الأطر الاقتصادية الدولية كتجمع دول البريكس، وإطلاق مبادرة لحوار القاهرة على شاكلة حوارات المنامة وميونخ ، وإنشاء نادٍ أو منبر ثقافى لدول الجنوب ، والاهتمام بمهاجرى دول الربيع العربى ، وتشجيع الأفكار المبتكرة باستخدام تكنولوچيا المعلومات . وكما هو واضح فإن هذه الحزمة من عناصر القوة الناعمة تجمع بين الدبلوماسية والاقتصاد وتكنولوجيا المعلومات .

تستمد مناقشة القضايا الكبرى قيمتها من عدة مصادر منها مصداقية المنبر الذى انطلقت منه ، وحين تثار قضية «مستقبل القوة الناعمة فى مصر» فى رحاب مكتبة الإسكندرية وهى من أهم أدوات قوة مصر الناعمة فإن هذا يؤّمن للنقاش درجة عالية من المصداقية ، وفِى صالون الأربعاء الماضى طُرِحت أفكار بعضها يحتاج للتطوير والآخر يحتاج للمتابعة، وأظن أن مكتبة الإسكندرية لها .

أتمنى مواصلة الاهتمام بالموضوع وأدعو للاستفادة من رسالة الدكتوراه القيّمة التى أعدها د. على عبد الله معوض فى جامعة القاهرة عن القوة الناعمة كأداة للسياسة الخارجية بالتطبيق على تركيا.