من الطبيعي أن تتمتع مصر بقوة تأثير ناعمة في محيطها
العربي والاقليمي بل والعالمي، لكن هذا التأثير يزيد وينقص بحسب جملة من الظروف السياسية
والاقتصادية والثقافية. وفي هذا المقال نحاول تتبع مسار تدهور القوة الناعمة
المصرية، اعتماداً على مدخل الاقتصاد السياسي، وكيف أثر الصراع بين الهويتين
العربية والاسلامية في هذا التدهور، ومآلات
هذا الصراع، وكيف يمكن لمصر أن تستعيد قوتها الناعمة بعد 2011.
أولاً- القوة الاقتصادية وتسرب القوة الناعمة المصرية
للقوة الناعمة تكاليف اقتصادية، وتحتاج إلى ظروف سياسية
مواتية، وسؤالنا في هذا الجزء من المقال، ما تأثير الأوضاع الاقتصادية- السياسية على
تدهور القوة الناعمة المصرية؟
حين اندلعت الأزمة الاقتصادية في المنظومة الرأسمالية منذ بداية حقبة
السبعينيات من هذا القرن، وأنهت بذلك سنوات الازدهار اللامع لعالم ما بعد الحرب
(1945- 1971) كان من الواضح أن تلك الأزمة تختلف عن الأزمات الدورية العادية، من
حيث أنها ذات طابع هيكلي طويل المدى، فالركود الاقتصادي، كان يقابَل قبل بداية
السبعينيات، بخفض الفائدة، فيزدهر الاقتصاد، بتحول رأس المال إلى النشاط الانتاجي،
ومع الانتعاش ترتفع الفائدة، فينخفض الاستثمار.
هذه الحلول البسيطة نسبياً لم تعد مجدية في التخفيف من أزمة الاقتصاد
الرأسمالي، لأن رفع الفائدة، يؤدي تلقائياً إلى هروب رأس المال، ما يجعل الركود مصحوباً
بارتفاع أسعار الفائدة مما يعني مزيداً من الركود، ومزيد من التحول تجاه الاقتصاد
الرمزي، على حساب الاقتصاد الانتاجي.
وخلال الفترة
(1973- 1982) حاولت المنظومة الرأسمالية حل هذه المشكلة عن طريق تطبيق نوع من الكينزية
العالمية الجديدة، فراحت تضخ كميات هائلة من القروض إلى بلاد العالم الثالث،
عن طريق تدوير فوائض النفط الدولارية والسيولة المتراكمة في السوق الأوروبية
للدولار، واستثمارها في
معالجة مشكلة نقص رأس المال، وتمويل عجز موازين مدفوعات تلك البلدان،
وتمكينها من تمويل وارداتها من الدول الرأسمالية الصناعية.
صحيح أن هذه الكينزية العالمية قد خففت، إلى حد ما، من
حدة الكساد التضخمي في المراكز الرأسمالية، لكنها ورطت البلدان النامية في أزمة
مديونية عالمية. لأن هذا التوجه الاقتصادي الجديد،
قد بني على مزاعم وافتراضات واستراتيجيات تتأسس على الواقع والشواهد الامبيريقية
في المجتمعات الغربية الصناعية، فهي تدعي: أن السوق حرة، وأن الأموال سوف تستثمر
في أغراض تنموية، ولم تستطع غالبية الدول العربية وعلى رأسها مصر من التوافق مع
الليبرالية الجديدة، فلا السوق حرة ومستقلة عن العلاقات الاجتماعية
والسياسية، كالقرابة والولاء السياسي، والانتماءات العرقية والطائفية، ولا
الأموال التي ضُخت في صورة ديون أو مساعدات، صٌرفت في مجالات انتاجية، وخلال
بضع سنوات، تحولت هذه الديون إلى ورطة معوقة للتنمية.
خلال هذه الفترة (1973-1982) شهدت مصر مرحلة احتضار مشروع التنمية، القائم
على سياسة تدخل الدولة في الاقتصاد، وبغض النظر عن العوامل الخارجية، فقد جاء
الاخفاق كما هو مشهود في عديد من البلدان العربية غير النفطية، نتيجة علاقات
اندماج استغلالية بين القوى الثورية والقوى التقليدية العائدة بقوة بعد الانفتاح
الاقتصادي. لتصبح علاقات الاستغلال التي تمارسها الطبقة المركزية المتحكمة،
ذات قوة مضاعفة، بعد أن هيمنت على كلا الفضاءين السياسي والاجتماعي. وليس من مصلحة
هذه الطبقة بطبيعة الحال، الاشتغال على تعزيز القوة الناعمة المصرية، بل على العكس
تركز انشغالها على إضعاف هذه القوة، عبر وسائل عديدة من التشبيك الثقافي مع
الرأسمالية العالمية.
وفي المقابل، وخلال نفس الفترة تقريباً، تهيئ الظرف الاقتصادي المناسب
للدول العربية النفطية، ما مكنها من التفكير والتخطيط من أجل استثمار جزء من
عوائدها النفطية في تعزيز قوتها الناعمة. فقد تسببت حرب 1973 في إحداث تغيير جوهري
في اقتصاديات الدول العربية النفطية، حيث ارتفعت أسعار النفط، وتضاعفت الصادرات
البترولية ثلاثة مرات خلال الفترة (1974-1980) وهي الفترة التي تعرف في الأدبيات
الاقتصادية بالطفرة النفطية الأولى (التقرير العربي الاستراتيجي.2000: 95 وما
بعدها)
إذن، في مطلع الثمانينيات، أصبحت مصر غارقة في أزمة الديون، أي أنها لم تعد
قادرة على تحمل التكاليف الاقتصادية لتعزيز قوتها الناعمة. في مقابل الدول العربية
النفطية التي أصبح لديها الامكانيات الاقتصادية والطموحات السياسية الكافية لتعزيز
قوتها الناعمة عبر العديد من الآليات. غير أن تدهوراً اقتصادياً لاحقاً أحدث مزيداً
من الخلل والضعف في القوة الناعمة المصرية، كيف ذلك؟
ثانياً-
العصبية الحديثة وأثرها في تهميش قوة مصر الناعمة
في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، نجحت القوى الرأسمالية العالمية في خلق
آليات جديدة للسيطرة على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في بلدان العالم الثالث،
فطورت ما يسمى اصطلاحياً المشروطية Conditionality التي تنطوي
عليها برامج التثبيت والتكيف الهيكلي، التي تروجه المنظمات الدولية (صندوق النقد
الدولي والبنك الدولي) والشركات دولية النشاط، والمستثمرين الأجانب.
ترتكز المشروطية، كما هو معروف للقاريء، على إضعاف قوة الدولة وإبعادها
عن التدخل في النشاط الاقتصادي، والاعتماد على آليات السوق، والمراهنة
على الدور (القائد) الذي سيلعبه القطاع الخاص (مع تصفية القطاع العام)
والانفتاح بقوة على الاقتصاد الرأسمالي العالمي (زكي.2007: 185-186). وبعد انتهاج
هذه السياسيات، فإن التقارير الدولية، تشير إلى أن معدلات المرض والفقر والجهل زادت ولم تنخفض.
في هذا الوقت، كانت مصر تعاني مشكلات في التمويل بمختلف
أنواعه، جعل من الإذعان للمشروطية، طريقاً لا مفر منه، ووقعت نتيجة
مشاكلها الاقتصادية المزمنة في فخ العولمة بنسختها الليبرالية المتوحشة. ومنذ ذلك
الحين، لم تعد مصر قادرة اقتصادياً على
تعزيز قوتها الناعمة، بل لا نبالغ القول بأن اندماج عصبيات حديثة وخاصة النخبتين
السياسية والاقتصادية في عصر مبارك، أدى إلى تهميش القوة الناعمة المصرية، هذا
الانكماش المصري قابله بطبيعة الحال تمدد القوة الناعمة العربية النفطية، وتمدد
أيضاً في القوة الناعمة الرأسمالية العالمية. فماذا نعني بالعصبيات الحديثة؟
العصبيات الحديثة هي جماعات مصلحة يرتبط أعضاءها بعلاقات
قرابية أو علاقات اثنية (دينية، مذهبية، عرقية، لغوية) أو علاقات تحالف (سياسي أو
اقتصادي)، أو علاقات بيروقراطية فاسدة، وتقوم الجماعة العصبية أياً كان نوع هذا
الارتباط بغرس استعدادات مخصوصة في أعضاءها لتحقيق أهداف الجماعة الذاتية على حساب
المصلحة العامة، مستغلة مؤسسات الدولة بكافة مستوياتها، مشكِّلة كياناً عميقاً
داخل هذه المؤسسات يصعب ملاحقته والتحكم فيه إلا بالمواجهة الحاسمة، لأنها تعمل من
خلف الستار أو في المياه العميقة بعيداً عن سيطرة القانون. وكلما أوغل الفساد في
دروب النظام البيروقراطي للدولة كلما ظهرت عصبيات حداثية جديدة وقويت شوكتها، وفي
مرحلة متطورة من مراحل الضعف، يمكن أن نسميها بمرحلة ما بعد الفساد، تنشأ بين
العصبيات الحديثة قوانين شفاهية عرفية موازية، مهمتها تنظيم عملية الاستغلال
وتوزيع الثروة والنفوذ فيما بينها بعيداً عن الصالح العام. ومن المؤكد أن هذه
العصبيات لا يعنيها تعزيز قوة مصر الناعمة، بل على العكس تعمل جاهدة على إضعاف
الدولة المصرية وإضعاف تأثيرها. (بدوي، أكتوبر2017)
ونتيجة توغل العصبيات الحديثة وهيمنتها على مفاصل
الدولة، تحولت وسائل الاعلام من الترويج لمصر الدولة ذات التأثير الإقليمي، إلى
الترويج لرجل الأعمال، البطل الفرد القادر على تحدي الصعاب. ودارت رحى المناقشات
في الندوات والمؤتمرات ومراكز البحث، توصي بسرعة التخلص من الرجل المريض- القطاع
العام، وتعد المواطن المصري، بأن الليبرالية الجديدة، سوف تؤدي مع الوقت، وبفعل
الأيدي الخفية للسوق، على تحقيق المساواة والعدل الاجتماعي. ومن أسف لم يتحقق
الوعد بل على العكس حدث تراجع تدريجي عن توفير الخدمات الاجتماعية، اعتباراً من
بداية التسعينيات، لا سيما من خلال خصخصة المؤسسات المملوكة للدولة، وتخفيض الإعانات،
والانخفاض المتزامن والمزمن في فرص العمل، وازدادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء،
وزادت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر. فهل كانت مصر مجبرة أم مخيرة في
الاندماج التام في الاقتصاد الرأسمالي العالمي؟
هي بالفعل كانت مجبرة على الاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، لكن النخبة الحاكمة في تلك الفترة، تجاهلت
الشروط السياسية والاجتماعية والثقافية الضرورية لنجاح هذا التحول، ولم تلتفت إلى
"أن الدور الفاعل والكفء للاقتصاد الرأسمالي الحر، إنما يعتمد في الواقع على
منظومات قوية من القيم والمعايير" (أمارتيا سن. 2004: 307).
المحصلة إذن أن مصر جنت من التوجه الليبرالي، أسوأ ما فيه، وهو زيادة الفجوة
بين الفقراء والأغنياء، وزيادة التشويه في الاقتصاديات العربية. ولكي تحافظ الطبقة
المركزية المتحكمة على بقاءها، بعد تخليها عن الفقراء، اتخذت الطريق السهل
لاستمرارها في الحكم بعد أن بدأت شرعيتها الاجتماعية تتآكل، ونعني بهذا الطريق، العبث
وتزييف ارادة المواطن، عبر نسق ديمقراطي شكلي خالي المضمون منزوع الدسم، وتشغيل
الآلة الأمنية والعسكرية، لحماية الطبقة المركزية المتحكمة. ننتقل الآن إلى الصراع
بين الهويتين العربية والاسلامية، وكيف أدى هذا الصراع إلى المزيد من تدهور قوة
مصر الناعمة، كما أدى إلى حلول مخاطر تهدد الأمن القومي العربي بصفة عامة.