المركز العربي للبحوث والدراسات : بين المنفعة وإثارة غضب الحلفاء: الإصرار الألماني على مشروع "نورد ستريم 2" مع روسيا (طباعة)
بين المنفعة وإثارة غضب الحلفاء: الإصرار الألماني على مشروع "نورد ستريم 2" مع روسيا
آخر تحديث: الخميس 30/08/2018 02:16 م محمد عمر
بين المنفعة وإثارة

جددت الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض حلفائها الأوربيين انتقاد مشروع "نورد ستريم 2" (مشروع خط أنابيب السيل الشمالي الثاني) لنقل الغاز بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق دون المرور بأوكرانيا، بسبب النزاع القائم بين البلدين منذ عام 2014، فقد اعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون يوم 24 أغسطس 2018، أن هذا المشروع يعتبر "ارتهان أوروبي للغاز الروسي"، إلا أن برلين ما زالت مصرة على استكمال المشروع رغم العقوبات الأمريكية الأوروبية المفروضة على روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية والتدخل في الشأن الأوربي، فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل رفضت وقف المشروع، مفضلة تحقيق مصلحة بلادها على اتباع الموقف الأوربي الصارم ضد موسكو، وهو ما يهدد بتحولات أمنية واستراتيجية مستقبلا.

أسباب التمسك الألماني بـ"نورد ستريم 2"

تعتبر ألمانيا من أكثر الدول استيرادا للغاز الطبيعي وتعتمد بشكل أساسي، على تلبية احتياجاتها من روسيا، ففي تقرير لمكتب احصاءات التجارة الألماني "بافا"، كشف عن ارتفاع حجم واردات ألمانيا من الغاز الطبيعي في الأشهر الأربعة الأولى لعام 2018 بنسبة 12.8% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، وبلغت قيمة فاتورة الاستيراد في هذه الأشهر الأربعة فقط 9.5 مليارات يورو، بينما بلغت في الفترة ذاتها من العام الماضي 7.8 مليارات يورو قبل عام(1).

ورغم الخلافات الحادة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة أخرى، إلا أن القارة الأوروبية لم تستطع وقف استيرادها للغاز الروسي، فقد كشف أليكسي ميلر رئيس شركة "غازبروم" الروسية عن ارتفاع صادرات روسيا من الغاز إلى أوروبا بنسبة 8.1% محققة 193.9 مليار متر مكعب في 2017، وزادت حصة ألمانيا من الغاز الروسي خلال الفترة ذاتها بنسبة  7.1% محققة 53.4 مليار متر مكعب(2).

تعتبر أنجيلا ميركل أن مشروع "نورد ستريم 2" مع روسيا، هو مجرد شراكة اقتصادية ولا يحمل أية أبعاد سياسية، وذلك للتخفيف من حد الرفض الأمريكي الأوروبي للمشروع، بخلاف إثارة غضب بعض التيارات السياسية بالداخل، فالأمر لن يقف عند هذا الحد.

وتقوم فكرة المشروع على مد أنبوب لنقل الغاز بشكل مباشر من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق، بجانب خط "نورد ستريم 1" الذي تستفاد منه أوكرانيا بالحصول على حوالي ملياري دولار نظير عبور الغاز الروسي من أراضيها إلى أوروبا، لكن عقب الخلاف الذي وقع مع موسكو بعد أزمة جزيرة القرم ودعم فلاديمير بوتين للإنفصاليين في أوكرانيا، لجأت موسكو إلى بديل حتى لا تكون رهينة لضغط من كبيف وحلفائها.

                ومن المقرر أن يشارك في هذا المشروع مجموعة شركات عالمية على رأسهم "غازبروم" الروسية التي تمتلك 50% من المشروع، و"كونسورتيوم" مكوّن من 5 شركات طاقة أوروبية تحتفظ بالــ50% المتبقية منه بواقع 10% لكل منها، حيث يمتد خط الأنابيب  من روسيا إلى ألمانيا بطول يصل إلى 1200 كم عبر بحر البلطيق بتكلفة إجمالية 9.5 مليار يورو، ومن المقرر الانتهاء منه أواخر عام 2019،  لأن عقد نقل الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي عبر أوكرانيا ينتهي في  2019، ولهذا تتخوف موسكو من لجوء كييف للضغط عليها واستغلال الأمر سياسيا وأمنيا في خلافهما.

وبخلاف اعتبار ألمانيا أن هذا المشروع سيحقق مكاسب اقتصادية لها، تخطط لأن تكون معبر لتصدير الغاز الروسي لأوروبا،  معولة على ارتفاع الطلب المستقبلي، فتكلفة الاستيراد سواء من دول الشرق الأوسط أو الولايات المتحدة مرتفعة مقارنة بالغاز الروسي، ولهذا التقت ميركل ببوتين أكثر من مرة وفي فترات متقاربة لإتمام المشروع الذي بدأ العمل فيه بالفعل في يناير 2018، ففي مايو الماضي التقى الطرفان في منتجع سوتشي بروسيا من أجل الإصرار على تنفيذه، وعقب العقوبات الأخيرة التي أقرها ترامب واستهدفت الشركات الروسية المشاركة بالمشروع التقا الطرفان مجددا أغسطس 218 في برلين، ليجددا تمسكهما بالمشروع، رغم الانتقادات المتصاعدة(3).

وسبق أن أدان وزير الخارجية الألماني السابق زيغمار غابريل والمستشار النمساوي كريستيان كيرن تبني مجلس الشيوخ الأمريكي في يونيو 2017 مشروع قانون بتوسيع العقوبات الأمريكية ضد روسيا، وشمل القانون الشركات الأوروبية التي تشارك في مشروعات الغاز الطبيعي مع روسيا، ومنها "نورد ستريم 2"، واعتبر الطرفان أن  الولايات المتحدة تريد تحقيق "مصالحها الاقتصادية من خلال الضغط المتعمد على الشركات الأوروبية وتهديدها"، وهو ما يمثل نقلة جديد في العلاقات بين أوروبا وواشنطن(4).

دوافع الغضب الأمريكي من التعاون الألماني الروسي في مجال الطاقة

لا يقف الغضب الأمريكي المتزايد على علاقة ألمانيا بروسيا في مجال الطاقة على الأبعاد السياسية فقط وإنما يقف ورائه مصالح اقتصادية يقودها ترامب، فالولايات المتحدة تريد تصدير غازها الصخري إلى أوروبا، وليس روسيا، التي تعتبرها خطر على الأمن الأمريكي والأوروبي،  وقد  انتقد  ترامب  حلفائه الأوربيين المشاركين في المشروع علانية، ورأى أن هذا يمنح موسكو الفرصة للسيطرة  على أوروبا بشكل عام وبرلين بشكل خاص(5).

ومنذ أن جاء ترامب إلى البيت الأبيض تبنى مبدأ  "أمريكا أولا"، ويهدف فقط لتحقيق المصالح الأمريكية، وجزء منها قطاع  الطاقة حيث يستهدف تطوير الطاقة المحلية خاصة الغاز الصخري بما يسمح بتوسيع النفوذ الأمريكي في سوق الغاز العالمي، فسبق أن قدرت وكالة الطاقة الدولية أن تصبح الولايات المتحدة ثاني أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال بحلول عام 2022، وتستهدف بالأساس حلفائها الأوروبيين، زبائن روسيا، التي تريد إضعاف نفوذها السياسي والعسكري وليس فقط حرمانها من أهم مواردها الاقتصادية وهي النفط.

فعلى المستوى الاستراتيجي إذا تم مشروع السيل الجنوبي مع ألمانيا ستفقد أوكرانيا ودول البلطيق أهميتها بالنسبة لموسكو ويضعف موقف واشنطن التي كانت تستغل هذه الدول في الضغط على روسيا، وبخلاف ذلك من شأن هذا المشروع  أن يقسم أوروبا  والسيطرة عليها من خلال الطاقة فجزء مؤيد للمشروع وآخر معارض له، وهو ما سوف تستغله موسكو لإثارة الشقاق بين أبناء القارة، بجانب انتهاز فرصة الرسوم الجمركية التي أقرها ترامب على الصادرات الأوروبية، وهو ما يجعلها تبحث عن مصالحها الاقتصادية كما يفعل رجل البيت الأبيض.

وبخلاف استهدف ترامب لعلاقات الطاقة بين أوروبا وروسيا، حركها من النفط الإيراني، عبر العقوبات الأخيرة التي أقرها على طهران عقب انسحابه من الاتفاق النووي، مهددا أي شركات أجنبية تعمل في إيران من فرض العقوبات عليها، وهو ما دفع بالفعل العديد من الشركات الأوروبية إلى الانسحاب سريعا، من بينها شركة توتال الفرنسية وشركات بريطانية وأخرى ألمانية، خوفا من ترامب، رغم إقرار الاتحاد الأوروبي قرارات تحصن هذه الشركات، إلا أنها لم تغامر بخسارة مصالحها واستثماراتها  في الولايات المتحدة من أجل السوق الإيراني(6).

أيضا رأت إدارة ترامب أنه في الوقت الذي تقوم فيه واشنطن بحماية أوروبا من روسيا وتحمل أعباء الدفاع في حلف شمال الأطلنطي "ناتو"، تهرول لموسكو وتدعمها بالأموال التي يجب أن تذهب إلى من يحميها، وفي محاولة من إدارة ترامب لنفي تهمة أنها تستهدف روسيا من أجل مصالحها الاقتصادية فقط، دعا جون بولتون مستشار ترامب أوروبا إلى اللجوء لمصادر بديلة لللغاز الطبيعي من بينها حقول الغاز الموجودة في منطقة شرق المتوسط، في مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي.

تداعيات التعاون الألماني الروسي على الأمن الأوروبي

لن يقف خطر التعاون الألماني المتزايد مع روسيا على خسارة بعض الدول مزايا اقتصادية فقط مثل أوكرانيا، وإنما سيمثل إسفينا يسن الدول الأوروبية، فمن ناحية انضمت برلين إلى أوروبا وواشنطن بشأن بعض العقوبات التي استهدفت موسكو سواء نتيجة تدخلها في اوكرانيا  وضم القرم أو التدخل في الشأن الأوروبي، ومن ناحية أخرى تدخل معها ليس في علاقة اقتصادية وإنما شراكة استراتيجية، ستحدد شكل التحالفات داخل القارة، وإعادة تقييم العلاقات مع واشنطن خاصة بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ومن بين الخلافات الأوروبية مع ألمانيا، طرح الحكومة الدنماركية مشروع قانون يعرقل بناء خط أنابيب الغاز "التيار الشمالي 2" من روسيا إلى ألمانيا عبر البلطيق، وينص على رفض مرور الأنبوب عبر المياه الإقليمية للمملكة بزعم تهديد مصالح الدنمارك السياسية وأمنها، بجانب اعتراض أوكرانيا ودول البلطيق التي التقى قادتها بترامب من أجل التعاون سويا في وقف هذا المشروع الذي سيضرهم أمنيا وسياسيا قبل أن يؤثر عليهم اقتصاديا(7).

وبالفعل زادت ألمانيا من حدة الدعاوى التي تطالب بإعادة النظر في التحالف الأوروبي مع واشنطن، فهي الآن من تتزعم عبء الاتحاد الأوروبي بشكل كبير بعد خروج بريطانيا من التكتل، وترى أن ترامب يريد تحقيق مصالحه الاقتصادية والأمنية على حساب القارة، فقد دعا وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إلى تقديم استراتيجية جديدة للعلاقات بين بلاده والولايات المتحدة، بل طالب بإعادة "تقييم الشراكة الأطلسية بتبصر وبصورة انتقادية، وحتى بصورة انتقادية ذاتية".

واعتبر أن الولايات المتحدة وأوروبا تبتعدان عن بعضهما البعض منذ سنوات عديدة، فهناك حالة من اختفاء المصالح والقيم المشتركة للجانبين، وعبرت عن هذا الأمر من قبل المستشارة أنجيلا ميركل، وكذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وغيرهم من قادة الاتحاد الذين طالبوا بتشكب جيش أوروبي موحد سيكون بديلا للناتو، وهو ما يعني عمليا نهاية التحالف الاستراتيجي مع واشنطن وإضعاف دورها في القارة الأوروبية، ويصاحب هذه الدعوات العسكرية والأمنية تحركات وسياسات اقتصادية جديدة من ضمنها توسيع دائرة الشركاء الاقتصاديين حتى وإن كانت هناك خلافات مثل روسيا والصين(8).

الخاتمة

يمكن القول إن ألمانيا، باقترابها من روسيا في مسألة الطاقة بسرعة دون حسم قضايا جوهرية سيعمق من حالة الخلاف الأمريكي الأوروبي، وداخل الاتحاد الأوروبي ذاته، فالتدخلات الروسية في الشأن الأوروبي لم تنته، وكذلك أزمة القرم وأوكرنيا ما زالت قائمة، وهي أزمات تشكل تحديا وجوديا لبعض الدول الأوروبية المجاورة لروسياـ، ويمكن لموسكو من خلال ورقة الغاز إحداث خلخلة في التحالفات الأطلسية.

وسبق أن وضع الاتحاد الأوروبي استراتيجية لتقليل الاعتماد على واردات الطاقة من روسيا، واللجوء لبدائل أخرى سواء من منطقة شرق المتوسط أو واشنطن، بجانب تعزيز التقدم في الطاقة المتجددة، إلا أن هذا يسير بخطى بطيئة وهو ما سوف تستغله موسكو، مقابل تهور إدارة ترامب التي ستعمق من الخلاف الأوروبي، فهل ستضحي برلين بمصالح اقتصادية آنية على حساب الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن والتحالفات الأوروبية.

المصادر

1- فاتورة واردات ألمانيا من الغاز الطبيعي تقفز 22% في أربعة أشهر، قناة CNBC، 22/6/2018، الرابط.

2- صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا تسجل مستوى قياسياً، العربية نت، 4/1/2018، الرابط.

3- انتهاء مباحثات بوتين وميركل في ميزبيرغ بعد 3 ساعات، وكالة سبوتنيك الروسية، 18/8/2018، الرابط.

4- العقوبات الأمريكية... سلاح للمنافسة في سوق الطاقة الأوروبية!، دويتش فيلله، 17/6/2017، الرابط.

5- ترامب: روسيا تتحكم بألمانيا بواسطة إمدادات الغاز، روسيا اليوم، 11/7/2018، الرابط.

6- الاتحاد الأوروبي يفعِّـل قانون "الحجب" لحماية شركاته في إيران من العقوبات الأمريكية، فرانس 24، 17/5/2018، الرابط.

7- الحكومة الدنماركية تبحث عن سبل لعرقلة تنفيذ مشروع "التيار الشمالي 2"، ، وكالة سبوتنيك، 2/9/2017، الرابط.

8- وزير خارجية ألمانيا: لقد حان الوقت لإعادة تقييم الشراكة الأطلسية، روسيا اليوم، 27/8/2018، الرابط.