المركز العربي للبحوث والدراسات : سياسة الهوية: هل يمكن أن تنهار الديمقراطية الغربية؟ (2-2) (طباعة)
سياسة الهوية: هل يمكن أن تنهار الديمقراطية الغربية؟ (2-2)
آخر تحديث: الثلاثاء 02/10/2018 06:16 م فرانسيس فوكوياما – ترجمة: وفاء الريحان
سياسة الهوية: هل

انتهينا في الجزء الأول من عرض مقال بعنوان "ضد سياسات الهوية: القبلية الجديدة وأزمة الديمقراطية" للكاتب فرانسيس فوكوياما في مجلة الفورين أفيرز شهر سبتمبر 2018،  بما ذكره عن مصطلح "تعدد الثقافات" الذي تحول إلى برنامج سياسي على أساسه يتم تمييز الثقافات بشكل منفصل.

                ونستكمل في الجزء الثاني بقية الحديث عن التعددية الثقافية، وكيف تم تبنيها من قبل اليسار واليمين، وصولاً إلى ضرورة تجاوز سياسيات الهوية وبناء هوية وطنية واحدة، وسيتم في التالي تناول تلك النقاط.

من اليسار إلى اليمين

يرى الكاتب أن اليسار بدأ في اعتناق التعددية الثقافية في أعقاب تحول المجتمعات الشيوعية في الصين والاتحاد السوفيتي إلى ديكتاتوريات قمعية، إلى جانب تجاه الطبقة العاملة في معظم الديمقراطيات الصناعية لتصبح أكثر ثراءاً وقيامها بالاندماج مع الطبقة الوسطى.

                وبدت أحلام اليسار في الوصول إلى دولة الرفاهية في التراجع نتيجة الأزمات المالية والتضخم خلال فترة السبعينيات، ومع تحول الصين نحو اقتصاد السوق بعد عام 1978، وانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، انحسر الماركسيين إلى حد كبير، لذا تقلصت طموحات اليسار في الإصلاح الاجتماعي- الاقتصادي مع احتضانه لسياسات الهوية في العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث تحول جدول أعماله من التركيز على الطبقة العاملة إلى مطالب دائرة متزايدة الاتساع من الأقليات المهمشة.

                وتُشكل سياسة الهوية في اليسار تهديداً لحرية التعبير ونوع الخطاب العقلاني اللازم للحفاظ على الديمقراطية، ويُعد أسوء ما أنتجته سياسة الهوية التي يُمارسها اليسار حالياً هي أنها حفزت صعود سياسة الهوية لليمين، ويرجع هذا في جزء كبير منه إلى احتضان اليسار للصواب السياسي political correctness وهو مصطلح يُهدف إلى تجنب اللغة أو السلوك الذي يمكن اعتباره استبعاد أو تهميش لمجموعات من الأشخاص الذين يُعتبروا محرومين أو مُميز ضدهم، خاصة المجموعات المحددة حسب الجنس أو العرق.

                على صعيد أخر، جاء وصول ترامب ليعكس احتضان اليمين لسياسات الهوية، فيشعُر العديد من أنصاره من الطبقة العاملة البيضاء أن النخب أهملتهم لسنوات، كما يرى الذين يعيشون في المناطق الريفية، الذين هم العمود الفقري للحركات الشعبوية، أن قيمتهم أصبحت مهددة، رغم كونهم ينتموا لجماعة عرقية مهيمنة، وقد مهدت هذه المشاعر الطريق لظهور سياسة الهوية اليمينة، التي تأخذ شكل القومية البيضاء العنصرية الصريحة، وساهم ترامب بشكل مباشر في هذه العملية.

                ويوضح فوكوياما أنه بفضل ترامب انتقلت القومية البيضاء من الأطراف إلى شيء يشبه التيار السائد، ويشتكي أنصاره أنه برغم كون من المقبول سياسياً الحديث عن حقوق السود أو حقوق المرأة أو حقوق المثليين، فإنه من غير الممكن الدفاع عن حقوق الأمريكيين البيض دون أن يكونوا عنصريين. ويجادل ممارسو سياسة الهوية من اليسار بأن تأكيدات البيض للحق في الهوية غير شرعية ولا يمكن وضعها على نفس المستوى الخاص بالأقليات والنساء والجماعات المهمشة الأخرى، لأنها تعكس وجهة نظر مجتمع متميز تاريخياً.

الحاجة إلى التوافق

                 تحتاج المجتمعات إلى حماية الفئات المهمشة والمستبعدة، ولكنها تحتاج أيضاً إلى تحقيق أهداف مشتركة من خلال المداولات والتوافق، والتحول في جداول أعمال كل من اليسار واليمين نحو حماية هويات المجموعات الضيقة يُهدد في نهاية الأمر تلك العملية، مع الأخذ في الاعتبار أن الحل لا يتمثل في التخلي عن فكرة الهوية، التي تعتبر مركزية للطريقة التي يفكر بها الناس في أنفسهم ومجتمعاتهم المحيطة.

                 وطبيعة الهوية الحديثة هي أن تكون قابلة للتغيير، ومواطنوا المجتمعات الحديثة لديهم هويات متعددة، تتشكل من خلال التفاعلات الاجتماعية، فتتنوع حسب العرق والجنس ومكان العمل والتعليم وغيرهم، ورغم أن منطق سياسات الهوية يكمن في تقسيم المجتمعات إلى مجموعات صغيرة تتعلق بذاتها، فمن الممكن أيضاً خلق هويات أوسع وأكثر تكاملاً.

وفي هذا الإطار، تحتاج الديمقراطيات إلى تعزيز ما يطلق عليه علماء السياسة "الهويات القومية العقائدية" "creedal national identities" التي لا يمكن بناؤها حول الخصائص الشخصية أو الخبرات المشتركة أو العلاقات التاريخية أو المعتقدات الدينية، بل حول القيم والمعتقدات الأساسية. والفكرة هي تشجيع المواطنين على التعرّف على المُثُل الأساسية في بلدانهم واستخدام السياسات العامة من أجل استيعاب الوافدين الجدد بشكل متعمد.

                إن مكافحة التأثير الضار لسياسات الهوية سيكون أمراً صعباً في أوروبا، ففي العقود الأخيرة، دعم اليسار الأوروبي شكلاً من أشكال التعددية الثقافية يُقلل من أهمية دمج القادمين الجدد في الثقافات القومية. وهو ما يستدعي أن تبدأ المعركة ضد سياسة الهوية في أوروبا بالتغييرات في قوانين الجنسية، ومثل هذه الأجندة تتجاوز قدرة الاتحاد الأوروبي، الذي تدافع دوله الأعضاء بحماس عن امتيازاتها الوطنية، وتقف على أهبة الاستعداد للاعتراض على أي إصلاحات أو تغييرات مهمة، لذا فإن أي إجراء يحدث سيتم على مستوى البلدان الفردية.

                ولمنع حصول بعض الجماعات العرقية على الامتيازات دون غيرها، يجب على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي لديها قوانين الجنسية مستندة إلى الدم، أن تعتمد قوانين جديدة تستند إلى الميلاد. وفي نفس الوقت، عليها أن تفرض شروط صارمة على تجنيس مواطنين جدد، وهو ما فعلته الولايات المتحدة لسنوات عديدة.

                بالمقارنة مع أوروبا، كانت الولايات المتحدة تُرحب بالمهاجرين بشكل كبير، ويرجع ذلك جزئياً لكونها طورت هوية قومية في وقت مبكر من تاريخها. اليوم، يجب إعادة إحياء الهوية القومية الأمريكية، التي ظهرت في أعقاب الحرب الأهلية، والدفاع عنها ضد هجمات اليسار واليمين.

فبالنسبة لليمين، يريد القوميون البيض استبدال الهوية القومية بواحدة قائمة على العرق والدين، وبالنسبة  لليسار، سعى أنصاره للتأكيد على فكرة الإيذاء، موضحين أنه في بعض الحالات توجد العنصرية والتمييز بين الجنسين في تاريخ البلاد.

هوية وطنية واحدة

                 تاريخياً، استفادت الولايات المتحدة من التنوع، ولكنها لم تستطع بناء هويتها على التنوع، فالهوية الوطنية الفعالة تقوم على أفكار جوهرية كالدستور وسيادة القانون والمساواة بين البشر. وبمجرد أن تُحدد البلد هوية قومية مناسبة تكون مفتوحة للتنوع الفعلي للمجتمعات الحديثة، فإن طبيعة الخلافات حول الهجرة سوف تتغير حتماً.

                 هذا النقاش حول الهجرة أدى إلى الاستقطاب في الولايات المتحدة وأوروبا، فيسعى اليمين إلى إنهاء الهجرة كلية ويرغب في إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، ويؤكد اليسار على التزام غير محدود من جانب الديمقراطيات الليبرالية بقبول جميع المهاجرين. لذا، ينبغي أن يكون النقاش الحقيقي حول أفضل الاستراتيجيات لاستيعاب المهاجرين في الهوية القومية للبلاد.

                ويوفر المهاجرون المُستوعبون تنوع صحي لأي مجتمع، فضلاً عن أن المهاجرين الذين لم يستوعبوا جيداً هم عائق على الدولة، ويشكلون في بعض الحالات تهديدات أمنية. في فرنسا، مفهومها حول المواطنة يتشابه مع المفهوم الأمريكي، فهو مبني على المثل الثورية للحرية والمساواة والأخوة، فالقانون الفرنسي لعام 1905 حول العلمانية، يفصل بين الكنيسة والدولة.

                وتبدأ أجندة الاستيعاب في الولايات المتحدة من التعليم العام، وكان لتدهور تعليم التربية المدنية بها لعقود، سواء بالنسبة للمواطنين أو المهاجرين نتائج سلبية، ويرى الكاتب أن تعزيز الهوية الوطنية الأمريكية سيكون من خلال الخدمة الوطنية، حيث يمكن للمواطن أداء مثل هذه الخدمة إما بالتجنيد في الجيش أو من خلال العمل في دور مدني مثل التدريس في المدارس أو العمل في مشاريع للحفاظ على البيئة أو غيره.

                وإذا تم تنظيم الخدمة الوطنية بشكل صحيح، ستجبر الشباب على العمل مع الآخرين من الطبقات الاجتماعية المختلفة والأقاليم والأعراق، وسيؤدي ذلك إلى دمج القادمين الجدد في الثقافة الوطنية، أي ستكون الخدمة الوطنية شكل من أشكال الديمقراطية يُشجع على الفضيلة والحماسة بدلاً من مجرد ترك المواطنين وحدهم لمواصلة حياتهم الخاصة.

Francis Fukuyama, Against Identity Politics: The New Tribalism and the Crisis of Democracy, Foreign Affairs, September/October 2018, at: https://www.foreignaffairs.com/articles/americas/2018-08-14/against-identity-politics