المركز العربي للبحوث والدراسات : أيام طهران الصعبة .. تأثير الأزمات على الدور الإقليمي لإيران (طباعة)
أيام طهران الصعبة .. تأثير الأزمات على الدور الإقليمي لإيران
آخر تحديث: الإثنين 29/04/2019 07:27 م
هاني سليمان هاني سليمان
أيام طهران الصعبة

مرت إيران منذ ثورة الجمهورية الإسلامية وحتى الوقت الراهن بالعديد من الأزمات؛ سواء تلك التحديات الداخلية التي أحاطت الثورة في بدايتها وهددت استمرارها -مثل التمرد الكردي الذي بدأ مع الثورة عام 1979، والمظاهرات في تبريز عاصمة إقليم أذربيجان، وهجمات جماعة الفرقان الراديكالية، صدامات رجال الدين وجماعة مجاهدي خلق، ومواجهة بعض الكيانات المعادية للثورة مثل حزب توده الشيوعي الموالي لموسكو وجماعة "فدائيي خلق" الماركسيون المتشددون وتنظيم بايكار الشيوعي ومجموعة كوماله الماركسية الكردية، ....إلخ)- أو تلك المتعلقة باختبار قدرة إيران العسكرية في الحرب مع العراق والتي رضخت في نهايتها وأعلنت وقف القتال. وكذلك التحديات الأمنية المتعلقة بمواجهة الانتفاضات والتظاهرات عبر تاريخها، وآخرها في 2009. أو الأزمات المتعلقة بالعقوبات المتكررة المفروضة عليها لمدة عقود.

                غير أن تلك التحديات التي مرت بها إيران، استطاعت بشكل أو بآخر الخروج منها عبر استراتيجيات قائمة على التكيف أو الخروج بأقل الخسائر، وإعادة البحث عن بدائل، والتحايل عليها للوصول لأهدافها رافضة التخلي عن عقيدتها القائمة على المشروع الفارسي، وتصدير الثورة بما يكتنفهما من إصرار على التدخل في الشئون الداخلية لدول الإقليم -وهو ما لا يتوافق مع قواعد المنظمة الدولية ولا الأعراف الدبلوماسية والسلمية- وتشكيل كيانات وميليشيات موازية تستخدمها لتحقيق أهدافها والضغط لتشكيل دور فاعل وضاغط لها.

                وبرغم تلك الخبرة التاريخية في التعاطي مع الأزمات من جانب إيران، غير أن حجم التحديات التي تواجهها طهران اليوم بات أكثر تهديداً وضغطاً وخاصة منذ وصول الرئيس ترامب للحكم وإدارته المتمثلة في مايك بومبيو وزير الخارجية، وجون بولتون مستشار الأمن القومي، والمعروف عنهما عداءهما لسياسات طهران، كما أن الأزمات اتخذت بعداً أكثر كثافة ومن جوانب عدة شملت الداخل والخارج، وهو ما يمثل تحدياً نوعياً غير مسبوق لإيران، ويشكل اختباراً شديد الصعوبة للثورة الإسلامية نفسها وقدرة النظام على الاستمرار، وعلى السياسة الخارجية الإيرانية وما تحمله من مقدرة على الصمود وإتباع نفس النهج.

احتجاجات متكررة وحزمة عقوبات غير مسبوقة في تاريخ إيران

                شكل خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما مع إيران في 2015 ضربة موجعة لطهران ليس فقط على اعتبار فقدان الرئيس روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف للورقة الأهم التي كانت تعتبر النجاح الأكبر لهما، لكن لما نتج عنها من وجود خط جديد من العقوبات المفروضة. وعلى الرغم من تعرض طهران لعقوبات في السابق، غير أن حزم العقوبات الأخيرة تعتبر الأقوى في تاريخ إيران خاصة أنها امتدت لقطاعات استراتيجية مثل البنوك والتشييد والبناء وصادرات النفط، والمعاملات مع البنوك المركزية ..إلخ، الأمر الذي أحدث شللاً تاماً في الاقتصاد الإيراني بخروج عشرات الشركات العالمية التي كانت قد بدأت تستعد للاستثمار في إيران، مع آمال النظام بالقضاء على مشكلات الفقر والبطالة التي طالت فئات كبيرة من الشعب، حيث بلغت البطالة أكثر من 20%، وعمق من أثرها إجراءات الحكومة برفع الدعم عن بعض السلع والخدمات، الأمر الذي أصبح معها حوالي أكثر من 40% من الشعب الإيراني تحت خط الفقر.

أيام طهران الصعبة

وبرغم من محاولة بعض الدول الأوروبية مساعدة طهران للحفاظ على فرصها الاقتصادية معها، وقيامها بإنشاء آلية مالية لتقليص أثر تلك العقوبات، غير أن تلك الإجراءات لم تنجح في تجاوز تلك الأزمة، الأمر الذي انعكس على بروز حركة احتجاجات في الداخل الإيراني بنهاية ديسمبر 2018 والتي امتدت لبدايات 2019، وطالت العديد من المحافظات والأقاليم الإيرانية، وفشل النظام في احتواءها إلا بالقبضة الأمنية والاعتقالات.

تصفير الصادرات .. إنهاء إعفاءات النفط الإيراني

                لعدد من الاعتبارات، كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أعطت بعض الاستثناء لثماني دول في استيراد النفط الإيراني؛ وهي إيطاليا، الصين، الهند، اليابان، كوريا الجنوبية، تركيا، اليونان، تايوان. غير أنه مؤخراً أنهى الرئيس الأمريكي ترامب تلك الإعفاءات من مطلع مايو 2019، محذراً من مغبة استيراد النفط الإيراني، بهدف تعظيم الخسائر وتصفير صادرات طهران من النفط باعتبار أنها تعتمد عليه بنسبة 40% -50% على الأقل من إيرادات الدولة، حيث تحقق سنوياً حوالي 50 مليار دولار ، وقد نجحت العقوبات الأمريكية الأخيرة في حرمان النظام الإيراني من حوالي 10-15 مليار دولار من هذا المبلغ، وهو ما يؤثر على دعم مليشيات إيران مثل حزب الله في لبنان، جماعة أنصار الله "الحوثيين" في اليمن، وقوات فيلق القدس الجناح العسكري الخارجي للحرس الثوري الإيراني والذي يقوم بعمليات في سوريا واليمن، وبعض التنسيق مع الحشد الشعبي في العراق.

أيام طهران الصعبة

ومثل هذا الإجراء بإنهاء إعفاءات النفط من شأنه أن يعظم من الأزمة في طهران ليس فقط بقدرتها على دعم عملياتها في الخارج، ولكن أيضاً في الداخل، وهو ما ينذر باتساع التظاهرات وتهديدها للنظام. حيث في الوقت الحالي وصلت نسبة الانكماش في الاقتصاد الإيراني حوالي 6%، كما بلغ معدل التضخم نسبة هائلة بلغت 51.4%، كما تراجعت إيران من المركز الثالث إلى المركز الرابع في ترتيب الدول الأكبر في إنتاج النفط في "أوبك" بعد السعودية، العراق، الإمارات. وتلك الأرقام مرشحة للاستفحال حال نجاح الولايات المتحدة بفرض وقف الإعفاءات، على الرغم من تحفظ الصين -التي تعتبر أكبر مستورد للنفط في العالم والتي تربطها ملفات اقتصادية متأزمة مع الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً- وتركيا التي تعتمد في احتياجاتها على 40% من النفط الإيراني، وهو ما سيشكل أزمة لها خاصة في ضوء عدم قدرتها في التعامل مع البدائل التي طرحتها الولايات المتحدة نظراً لاعتبارات الثقة والتبعية وخاصة أن علاقات تركيا وأمريكا ليست جيدة الفترة الأخيرة مع وجود ملفات مثل دعم الولايات المتحدة للأكراد وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، أزمة القس الأمريكي، قبل حلها، دعم الولايات المتحدة لفتح الله جولن ضد أردوغان، اتهامات بضلوع أمريكا في أزمة الليرة التركية، وقبلها محاولة الانقلاب على أردوغان.

                وقد أغلقت الولايات المتحدة الطريق أمام إيران بعد الزيارة الأولى لروحاني للعراق في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على اعتبار وجود بعض النفوذ لطهران في الداخل العراقي يمكن استثماره في تخفيف وطأة العقوبات وقيام بغداد بدور وسيط، غير أن الولايات المتحدة الأمريكية أعقبت ذلك بالتأكيد على التزام العراق بالعقوبات على طهران.

تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية

                كانت هناك العديد من الدعوات السابقة لتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، غير أنه لم تتخذ خطوات جدية في ذلك الأمر  نظراً للعديد من الاعتبارات؛ حيث أنه لعقود طويلة كان هناك قواعد أمريكية شبه ثابتة في إدارة الصراع مع طهران، ولم يكن هناك قدرة أمريكية على اتخاذ خطوة مثل تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، وحتى عندما أرادت فعل ذلك في السابق، قامت وزارة الخزانة الأمريكية بتصنيف فيلق القدس فقط في 2007، وهو الذراع العسكري للحرس الثوري والذي يقوم بتصدير الثورة وقيادة العمليات الخارجية، ولم يكن لديها القدرة على إدراج الحرس الثوري بشكل كامل.

                كما أنه كانت أحد أهم أسباب التخوف من اتخاذ ذلك الإجراء هو وجود مخاوف من وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون، ووكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) من استفزاز قوات الحرس الثوري ما يدفعها بالقيام بعمليات عدائية ضد المصالح الأمريكية أو التحرش بقواتها الموجودة في عدد من الدول في المنطقة، وهو ما جعل إستراتيجية العقوبات الاقتصادية فقط  هي الخيار الأول                للولايات المتحدة الأمريكية تجاه طهران.

                غير أن ذلك التحول واتخاذ قرار بتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية نابع من عدة تحولات وله دلالات مختلفة، أبرزها؛ أولاً، أن القرار هو انعكاس لطبيعة تكوين صانع القرار الأمريكي، فذلك القرار يؤكد أن هناك مسار مختلف ومستمر وهناك معدل آخذ في الارتفاع في التصعيد ضد إيران، وأنه لا أفق لتهدئة أو تفاوض في المستقبل القريب، وبخاصة في ظل وجود إدارة أمريكية تتبنى مواقف صارمة وراغبة في تقويض وتطويق قدرات الدولة رغبة في تغيير النظام سواء من الداخل أو الخارج. من ناحية ثانية، فإن هذا القرار يشكل رغبة أكيدة من الولايات المتحدة الأمريكية لتصعيد المواجهة مع إيران، والدخول في مرحلة جديدة تتجاوز حتى مرحلة العقوبات الاقتصادية النوعية الأخيرة، رغبة في خلق حالة شلل تام لإيران داخلياً وخارجياً.

أيام طهران الصعبة

ثالثاً، تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية وجعلها في خندق واحد مع القاعدة وداعش، يفرض نمط مغاير من الإدارة الأمريكية في التعاطي معه، وهو أشبه ما يكون بفخ أمريكي لاستفزاز إيران وجر الحرس لممارسات غير مسئولة تورطه، وهو ما جعل المحلل السياسي والدبلوماسي الإيراني السابق، فريدون مجلسي، يطالب قادة الحرس الثوري بعدم القيام بأي خطوة استباقية في الهجوم ضد القوات الأميركية. كما أنه رابعاً، يعكس تصنيف الحرس حالة  الإدراك الأمريكي بتأثير ذلك القرار ليس فقط على المستوى السياسي ولكن أيضاً على المستوى الاقتصادي من حيث سيطرة الحرس الثوري الإيراني على ثلث الاقتصاد الإيراني على أقل تقدير -هناك دراسات تشير إلى أن حجم سيطرة الحرس الثوري عبر شركات مثل خاتم الأنبياء وغيرها، يبلغ حوالي من 35-40% من الاقتصاد الإيراني- وهو ما شأنه أن يقتل الاقتصاد الإيراني بشكل مضاعف.

                وكان الرد الإيراني على هذا القرار يحمل لهجة عنيفة موازية خاصة من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الذي صرح أن طهران ستعتبر القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) وجميع القوات المتعلقة بها جهات إرهابية. وعلى الرغم من أن ذلك التصريح يحمل نوعاً من "الكوميديا السياسية"، غير أنه ليس مستبعداً القيام بإجراءات عنيفة على الأرض، لكنها ستكون حذرة للغاية خاصة مع اللهجة الأمريكية الصارمة.

                وعلى مدار عقود، استطاع الحرس الثوري أن يستمر كجيش موازي له صلاحيات أكبر حتى من الجيش النظامي للدولة، وأوجد صلاحيات تجاوزت العسكري إلى السياسي والاقتصادي، واستطاع أن يتكيف بمرونة مع المعطيات والتحديات المختلفة القادمة من الداخل والخارج، غير أن القرار الأخير يشكل تطويق كبير لقدرته وتحدياً كبيراً له في الإقليم.

خلافات وتصدعات النخبة السياسية في إيران

                تبدت خلال الفترة السابقة عدد من المؤشرات التي توحي بعدم وجود توافق بين عناصر النخبة السياسية في إيران، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال عدة ملاحظات:

صراع الأجنحة: أوجد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي فرصة كبيرة للمتشددين في إيران وبخاصة الحرس الثوري للهجوم على الرئيس حسن روحاني، وهو ما جعل الخلاف يتسع، وخاصة بتحميله مسئولية تردي الأوضاع الاقتصادية وزيادة الاحتجاجات في الداخل. وقد ظهرت وطأة تلك الخلافات مع ردة الفعل الخاصة بوزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي أعلن استقالته عبر انستجرام نتاج عدم توافق داخل النخبة الحاكمة وبما يحمله من ضغوط ومسئولية شديدة، قبل أن يتراجع عن استقالته، لكنها تظل تحمل دلالة كبيرة.

تغيير قيادة الحرس الثوري: كما أنه وبتطور مفاجىء، وبعد نحو عامين من تمديد مهمة قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، وقبل عام من انتهاء فترته الممددة، جاء قرار المرشد الإيراني علي خامنئي، تغيير قائد الحرس الثوري بعد ما يقرب من 12 عاماً قضاها في هذا المنصب الذي تولاه منذ 2007. وقد تزامن ذلك التغيير بعد إدراج على قائمة الإرهاب الدولي، وهو ما يعطي دلالة على الارتباك السياسي الواضح.

                كما أن تغيير قيادة الحرس الثوري يطرح أسئلة قديمة تتعلق بعدم الرضاء من قرارات المرشد الأعلى في الفترة الأخيرة والتي شملت فصل قيادة فيلق القدس بقيادة قاسم سليماني عن قيادة الحرس الثوري، وأيضاً فصل قيادة استخبارات الحرس عن قيادة الحرس، والقرار الأخير يعد تهميشاً للجنرال جعفري الذي يجلس على رأس الحرس بدون صلاحيات حقيقية أو على أقل تقدير تجعل آخرين من المفترض أنهم تحت قيادته لكن الحقيقة أنهم في رتبة مساوية له، إن لم يكونوا أعلى منه.

أيام طهران الصعبة

روحاني والحرس الثوري: يرى البعض أن الرئيس حسن روحاني ينظر للحرس الثوري باعتباره هو السبب الرئيسي في الأزمات التي تعاني منها طهران، غير أن ذلك التصور عاد ليطرح بقوة ويثير موجة خلافات مع تصريحات عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، جواد كريمي قدوسي، وهو من أشد المنتمين لجناح المحافظين، واتهامه لروحاني بالسعي نحو حلّ الحرس الثوري، وأنه وصف تدخلات الحرس الثوري في المنطقة بالـ "مـُخرّبة".  ولا ينفصل ذلك عن سياق الرسالة التي وجهها رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، اللواء محمد باقري، لرئيس الجمهورية حسن روحاني قبل شهرين، ليطلب منه مناقشة ميزانية الحرس الثوري، والتي وصفها أنها مبالغ فيها و"مبذرة".

أزمة السيول ومزيد من تعرية النظام

        تعرضت إيران في الأسابيع الماضية لموجات كبيرة من السيول والفيضانات طالت حوالي 1900 مدينة وقرية إيرانية، وراح ضحيتها 62 شخصاً، ونزح حوالي 86 ألف شخص إلى أماكن إيواء، علاوة على الخسائر التي ألحقتها بالقطاع الزراعي تصل قيمتها إلى 47 تريليون ريال (حوالي 350 مليون دولار) على الأقل.

          وقد ضاعف من تأثير تلك السيول ما أقدمت عليه الحكومة الإيرانية من تحويل مجارى الأنهار ونقل مياه الأنهار إلى داخل المدن الرئيسية الإيرانية الواقعة ضمن المحافظات الفارسية، ما يشكل امتداد لسياسات فاسدة للنظام في إدارته لملف الموارد المائية، وملف إنشاء السدود -وصلت إلي ما يقرب من 1330 سد بين مُشيد بالفعل و ما هو تحت الإنشاء- بخاصة في المناطق التي يقطنها الأقليات، على سبيل المثال حرمان الأراضي الزراعية في الأحواز من المياه من خلال بناء عدد من السدود الضخمة على الأنهار  ما أدى لتجمع المياه وفيضانها مع السيول.
أيام طهران الصعبة

كما أن تعاطي الحكومة مع الأزمة -رغم مشاركة عناصر الحرس الثوري الإيراني الأكثر قدرة واستعداد- يشكل انتكاسة كبيرة تضاف إلى سجل القصور في معالجة هموم وقضايا الشعب الإيراني، الذي بات لا يستطيع تحمل الضغوط في كافة النواحي الاقتصادية والحياتية الرئيسية، في بلد يعد من أعلى الدول فساداً في العلم حسب التقديرات والمؤشرات الرسمية العالمية.

هامش المناورة الإيرانية ومستقبل الدور الإقليمي

                وفقاً للمعطيات السابقة، يظل الدور الاقليمي لإيران ومساحة النفوذ الاقليمي، وقدرتها على الصمود إزاء التهديدات الداخلية ومحاولات الولايات المتحدة الأمريكية توليد الانفجار من الداخل، تظل مرهونة بعدد من الاعتبارات:

أولاً- خريطة وأدوات الضغط الإيرانية: تمتلك إيران العديد من الأدوات المتمثلة في حلفاءها من الدول مثل الصين التي تعتمد مبدأ المصلحة في علاقتها ووارداتها من النفط الإيراني، والتي ستقاوم القرار الأمريكي غير أنها لن تستطيع الذهاب بعيداً لمرحلة الصدام إذا ما أصرت الولايات المتحدة الأمريكية وصعدت في هذا الأمر. كما أن تركيا بدأت في استثمار الأزمة عبر تبادل الغزل السياسي مع طهران في لقاء شاويش أوغلو وزير الخارجية التركي مع نظيره جواد ظريف، في ظل تصريحات برفض تركيا تصنيف الحرس كتنظيم إرهابي كونه سيحدث فوضى كبيرة. وعبر الوصول لمقدمات تفاهمات فيما يتعلق بالشأن السوري، على اعتبار رغبة تركيا في تواجد قواتها لتأمين مصالحها في ظل محاولة طهران تقريب وجهات النظر وإعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة، وتأكيدات ظريف أن نشر قوات الجيش السوري سيكون خير ضمانة لأمن تركيا. غير أن الدور التركي رغم أهميته لكنه لن يشكل تأثيراً مصيرياً في وضع إيران الاقليمي ولن يصمد طويلاً إزاء الرغبة الأمريكية التي ربما تدخل في تفاهمات مع أنقرة بشأن سوريا. وعلى اعتبار أن الصين وتركيا سيدعم طهران، فأعتقد أن هامش ما سيقدمونه لن يستطيع إنقاذ طهران من ورطتها الحقيقية.

أيام طهران الصعبة

كما أن الدور الروسي لا يتجاوز اعتبارات الملف السوري من التنسيق وحفظ التوازن واستخدام طهران لتحقيق أهداف نوعية في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن موسكو لا ترضى بشكل تام عم أهداف إيران في سوريا وهو ما ظهر في خلافات مستترة في غير موقف. وبالنسبة للدول الأوروبية، فإن الأمر قد تجاوزها تماماً، ولا تستطيع تقديم موقف مواجه وحاد إزاء الرغبة الأمريكية.

                وربما يأتي تصريحات رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية الجنرال محمد باقري بأن "إيران يمكنها الصمود دون الاعتماد على النفط"، هو اعتراف واستسلام بحقيقة الوضع وأن طهران لا تملك ما تفعله.

                غير أن أغلب الظن أن طهران لن تقف مكتوفة الأيدي، وستعمل على تجاوز خطاب التهديدات الحنجورية إلى مرحلة الفعل، لكنها تنتظر في ترقب المبادرة الأمريكية بالفعل، حتى تتمكن من تحريك ميليشياتها متمثلة في حزب الله في لبنان باتجاه إسرائيل وكذلك قوات فيلق القدس من سوريا، أو تعظيم تهديداتها في الاقليم باستفزاز الخليج وإطلاق الصواريخ مجدداً على السعودية عبر الحوثيين في اليمن.

لأن سمعة النظام في إيران ستكون على المحك بشكل متكرر وخاصة مع تهديدات جواد ظريف الذي قال أن على الولايات المتحدة أن تتحمل عواقب ذلك، وهو ما جاء تأكيداً على حديث الرشد الأعلى علي خامنئي الذي توعد بالرد، وكذلك حسين سلامي قائد الحرس الثوري الجديد.

                لكن الإشكالية تتمثل في أن تأثيرات العقوبات الأمريكية بات ظاهراً بشدة ووصل أثره إلى تلك الميليشيات؛ حيث اضطر النظام الإيراني لتقليص الميزانية العسكرية وحجم المخصصات للحرس الثوري، كما أعلن حزب الله مؤخراً أنه يمر بضائقة مالية، وأعلن عن تلقي التبرعات. ويعكس ذلك خط الخطاب المهادن الموازي الذي يحاول روحاني فتحه مع أمريكا من خلال الحديث عن "مفاوضات مشروطة"، وتلميحات ظريف لإمكانية القيام بعملية تبادل سجناء مع الولايات المتحدة الأمريكية لتهدئة الأجواء، وأيضاً التعاون ومساعدة أمريكا في بعض الملفات المشتركة مثل أفغانستان والعراق.

أيام طهران الصعبة

ثانياً- تهديدات غلق مضيق هرمز: التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز رداً على الإجراءات الأمريكية لم يكن هو الأول من نوعه، لكنها تهديدات تكررت غير مرة وفي سياقات متعددة، لكن الأمر ينطوي على مخاطرة كبيرة تتمثل في أن مياه مضيق هرمز في الخليج العربي هي مياه دولية بامتياز وأن أي تهديد بغلقه سيؤثر على الملاحة الدولية، وسيكون على طهران مواجهة المجتمع الدولي الذي يمر من خلال المضيق حوالي 40% من تجارة النفط في العالم. وربما تصريحات العقيد إيرل براون المتحدث باسم القيادة الوسطى الأمريكية قد حسمت هذا الأمر  حيث أكد على أنه لدى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الجهوزية المطلوبة للرد.

                غير أن الإقدام على مواجهة مباشرة وحرب بالمعنى التقليدي يظل خياراً مستبعداً رغم توتر العلاقات واستفحال الأزمة المستمرة، ذلك لأن إيران لا تتحمل حرب من هذا النوع في ظل الظروف القائمة، وبالتالي فإن لديها سقف للتصعيد، كما أن أمريكا لا حاجة لها بتلك الحرب، بخاصة أن ترامب بدأ بالفعل الاستعداد بحملة انتخابية للانتخابات الرئاسية القادمة 2020 وهو ما يجعله حذر فيما يتعلق بقضية فتح ساحات جديدة، في ضوء الخبرة التاريخية السيئة في فيتنام، وأيضاً العراق وأفغانستان، وهو ما يلاقي معارضة كبيرة من الداخل، وهو لا يريد التفريط في دعم ناخبيه.

ثالثاً- إشكالية الدولة والثورة، هل تستطيع طهران حل المعادلة؟: مستقبل النظام السياسي في إيران، بل والثورة الإيرانية، مرتبط بحل المعادلة الصعبة المتمثلة في إشكالية الدولة والثورة، فهل ستتخلى إيران بسهولة عن حلم الدولة الفارسية، وهل ستقبل خلع الخطاب الأيديولوجي والعباءة الدينية؟. أعتقد أن طهران تعي جيداً أن تخليها عن طموحاتها التدخلية وتصدير الثورة سيجردها من أدواتها ودورها المميِّز، وإلا ستتحول إلى دولة عادية لا وزن إقليمي لها. إشكالية إيران تتمثل في المشروع الأيديولوجي القائم على أطماع تاريخية مثلها مثل حلم الدولة الصهيونية، وأحلام استعادة الامبراطورية العثمانية لدى تركيا.

                ولقد أطلق هذا السؤال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عندما قال: "نحن نريد فقط أن تكون إيران دولة طبيعية". وفي هذا التساؤل تسير كافة الإجراءات الأمريكية في سياق إرغام إيران إلى العودة من منطقة الثورة إلى منطقة الدولة.

رابعاً- سياسة النفس الطويل واستثمار المعضلة الترامبية: "ترامب سيرحل .. وستبقى إيران" يمثل هذا التصريح للرئيس حسن روحاني اختصار للسياسة الإيرانية في التعاطي مع الإجراءات الأخيرة وفق سياسة النفس الطويل ومحاولة الصمود حتى الانتخابات الأمريكية القادمة 2020 على أمل وجود رئيس من الديمقراطيين يمكن البدء معه من جديد في تفاهمات أقل حدة ومواجهة.

                وتعتمد طهران في ذلك على نفس الأدوات؛ الخطاب الثوري للداخل ووصف أمريكا بعدو الشعب الإيراني والشيطان الأكبر، رغم تراجع جدوى ذلك الخطاب في الإقناع، وأيضاً رفع رايات العاطفة من العداء لإسرائيل واستثمار إجراءات ترامب من نقل العاصمة الأمريكية للقدس والإعتراف بالحقوق الإسرائيلية في الجولان.

أيام طهران الصعبة

علاوة على استثمار السلوك الترامبي في إظهار إيران بشكل المقاوم للهيمنة الأمريكية  وبخاصة تراجع مكانة الولايات المتحدة الأمريكية نسبياً جراء الانسحاب من عديد المعاهدات الدولية وآخرها الانسحاب من المعاهدة الدولية للأسلحة التقليدية التي وقعها سلفه باراك أوباما عام 2013، وهو ما يجعل سمعة الولايات المتحدة الأمريكية على المحك فيما يتعلق بالوفاء بالتزاماتها ومسئولياتها، وهي الدولة العظمى ف العالم، وبما يؤثر على استقرار العلاقات والاتفاقات الدولية، وهو ما ينعكس على التفاعلات الدولية ومصداقية واشنطن، في ظل الخروج من خمسة اتفاقيات سابقة؛ تمثلت في اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ والتي خرج منها في يناير 2017، ثم اتفاقية باريس للمناخ والتي أعلن خروجه منها في يونيو 2017. علاوة على الخروج من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، في أكتوبر 2017. وأيضاً الخروج الأهم من الاتفاق النووي مع إيران في مايو 2018، ثم الخروج من معاهدة الصواريخ النووية مع روسيا في 1 فبراير 2019؛ وهي المعاهدة التي تم توقيعها منذ أكثر من 30 عامًا. وهو ما يجعل الحقبة الحالية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية مليئة بالتناقضات والخروج عن العرف الدبلوماسي الأمريكي، وأن النمط الترامبي في الحكم والتفرد بالرأي والقرارات العشوائية ستشكل عائقاً أمام تسوية العديد من القضايا على المستوى العالمي والإقليمي.

                ختاماً؛ يمكن القول أن العقوبات الأمريكية والإجراءات المتتالية تجاه إيران ستنجح في تقويض الدور الاقليمي لإيران ومحاصرته بشكل كبير، وسيؤثر على أدواتها ودرجة تأثيرها في الملفات المختلفة الفترة القادمة، غير أن عملية هدم النظام من الداخل أو القضاء على مرحلة الثورة الإيرانية سيحتاج مزيد من الضغط والاستمرار لفترة أطول، وسيتحدد مستقبل ذلك في ضوء الانتخابات الأمريكية القادمة، التي ستشكل ضربة قاصمة لطهران حال بقاء ترامب أو وصول مرشح يحمل نفس النهج السياسي.