ومن خلال حجم الرسوم المفروضة يتضح حجم الأزمة، خاصة أن تحرير
التجارة وخفض التعريفات الجمركية والحواجز التجارية عموماً بين الدول، كانت على
مدى العقود الماضية، هي السبب المباشر لزيادة كبيرة في حجم التجارة العالمية، ودعم
سلاسل التوريد العالمية، ففي السابق، انخفض متوسط معدل التعريفات الجمركية على
الواردات من قبل أعضاء منظمة التجارة العالمية من نحو 12.74٪ في عام 1996 إلى 8.8٪
في عام 2016، وارتفع حجم التجارة العالمية من 5 تريليونات دولار في عام 1996 إلى
19 تريليون دولار في عام 2013. غير أنه بالعودة لزيادة الرسوم وتعقيد التجارة، فإن التجارة
العالمية تُدفع خطوات إلى الوراء. (7)
وكان صندوق النقد
الدولي قد حذر مبكراً من خطورة الآثار الناجمة عن التصعيد في الحرب التجارية بين
الولايات المتحدة والصين، على الصناعات التحويلية في أكبر اقتصادين بالعالم، مع
تحول الطاقة الإنتاجية صوب المكسيك وكندا وشرق آسيا، علاوة على التأثيرات الناتجة
عن خسائر الوظائف نحو واحد في المائة من قوة العمل بقطاعي الزراعة ومعدات النقل في
الولايات المتحدة، وخمسة بالمائة في صناعات تحويلية الصينية غير الإلكترونيات، مثل
الأثاث والحلي. وأيضاً احتمالات خسائر القطاع الزراعي الأميركي نتاج الانكماش
الكبير المتوقع. (8)
وفيما يتعلق
بالجانب السياسي، فإن العلاقات الأمريكية الصينية التي احتفظت بقدر من الثبات والتوافق مؤخراً، تواجه الآن مرحلة فارقة وفي
حالة اختبار حقيقي؛ فمن الحرب التجارية ومحادثات السلام في واشنطن، إلى التوترات
في بحر الصين، فقد دخلنا في فترة من التنافس القوي والطويل الأمد بين الصين
والولايات المتحدة، يعكس التحول في السياسة الأمريكية الذي ستكون له انعكاسات
كبيرة على العلاقات الثنائية، ليس ذلك فقط، ولكن تأثيرات أبعد على الأمن العالمي.
ولقد ساعدت الإدارات
الأمريكية المتعاقبة، بدءً من ريتشارد نيكسون وحتى باراك أوباما، في ظهور الصين
كقوة اقتصادية وفقاً لسياسة "التوفيق"، أو سياسة "التعامل
البنَّاء" مثلما أطلق على سياسة الرئيس كلينتون، لكن من الواضح أن هناك
استراتيجية جديدة يحاول ترامب فرضها قائمة على سياسة "المواجهة"، خاصة
مع تزايد نفوذ الصين القوي. وهذا يتسق مع شخصية ترامب الذي ينقلب على كافة الثوابت
والاتفاقات منذ مجيئه للسلطة، فقد خرج من خمسة اتفاقيات دولية أهمها الاتفاق
النووي، واتفاق المناخ، واتفاق الأسلحة التقليدية، وغيرها.
هذا التغيير
الأمريكي يبدو أنه عميق وسيستمر إلى ما بعد" رئاسة دونالد ترامب لأن هناك
إجماعاً في واشنطن على أن السياسة السابقة مع الصين فشلت ويجب استبدالها عبر
اعتماد نهج أكثر تشدداً، خاصة مع تأكيد ترامب بأن انضمام الصين إلى منظمة التجارة
العالمية في عام 2001 كان "خطأ مميتاً".
لكن هذا التحول الجذري
في السياسة الأمريكية إزاء الصين يجعلنا أمام إشكالية كبيرة، فالصين ليست كوريا
الشمالية أو إيران، وسيكون هناك تبعات كبيرة لتلك المواجهة سواء على الطرفين أو
الاقتصاد العالمي.(9) خاصة في ظل سعي الصين لتشكيل تحالفات قوية ضمن مبادرة "الحزام والطريق"،
ومنها جولة الصين في أوروبا في محاولة لضم إيطاليا للمبادرة، والتقارب مع فرنسا
لتشكيل تنسيق أوروبي.(10)
وبصرف النظر عن الإطار القانوني،
وباعتبار أن قرار أمريكا برفع الرسوم الجمركية ، يعد خرقاً لقواعد منظمة التجارة
العالمية، إلا أن الحرب ما زالت مفتوحة، وسيتمسك ترامب بفرض مزيد من الرسوم دون
اكتراث حتى ترضخ الصين. (11)
ثانياً- لمن الغلبة؟ .. حسابات الربح والخسارة في النزاع التجاري الأمريكي
الصيني
ليس من السهل التنبؤ بمن سينتصر في الحرب التجارية بين
الصين وأمريكا، غير أنه يمكن القول أن كل طرف يمتلك عدد من الأدوات التي يستطيع
استخدامها في مواجهة الآخر، والتي تعزز موقفه وفق مجموعة من الاعتبارات:
1- مدى قدرة الصين على التضييق على الشركات
الأمريكية: تمتلك الصين تاريخ في تبني تشديد إجراءات الجمارك وفرض تدابير صارمة ورفع كلفة
عمل الشركات الدولية على أراضيها، وهو ما يمثل مصدر قلق واضح للأمريكيين. لكن تظل هذه
الاستراتيجية لها كلفتها الباهضة على البلدين، إذ ستحد من إمكانية استثمار
المصدرين في السوقين الأمريكية والصينية. كما ستحد من المنافسة وسترفع الأسعار
وتقلل الخيارات أمام المستهلكين". (12)
2- ميزان الضغوط .. فرص عزل الولايات المتحدة الأمريكية: خلافاً لما هو بالولايات
المتحدة، حيث يُقيد منصب الرئيس دستوريا بفترتين رئاسيتين فقط، ألغت الصين مؤخراً
هذه القيود. وهذا يعني أن الرئيس الصيني، تشي جين بينغ، لن يواجه أي ضغوط لتحقيق
أي نتائج سريعة. ويشمل ذلك سعي إدارة الرئيس الصيني ببطء لتشكيل
تحالفات تجارية مع دول أخرى وهو ما قد يؤدي إلى عزل واشنطن. ويرى محللون أن
هذا يحدث بالفعل ضمن تحركات بكين الأخيرة إلى دول أخرى في أوروبا وآسيا وأمريكا
اللاتينية. (13)
3- إجراء خفض قيمة اليوان الصيني: إذا قررت الصين شن هجوم مباشر،
يمكنها حينئذ خفض قيمة عملتها، اليوان. وسيكون لخفض العملة الصينية تأثير مضاعف،
فضعف العملة يعني صادرات صينية أرخص وأكثر تنافسية، وفي الوقت ذاته سيجعل المنتجات
الأمريكية أعلى ثمنا، ولا سيما تلك المعرضة لتعريفات جمركية أعلى. لكن مع ذلك، فإن التلاعب بورقة العملة سيكون قرارا من الصعب
اتخاذه. (14)
4- الحد من أرصدة الديون الأمريكية: تحتفظ الصين بديون للحكومة
الأمريكية بقيمة 1.17 تريليون دولار، ويتكهن بعض الاقتصاديين بأن الصين قد تحد من
أرصدتها من تلك الديون للانتقام إذا ما شُنّ عليها هجوم آخر. فعلى مدار العقدين
الأخيرين، اشترت بكين عشرات من سندات الخزانة الأمريكية كوسيلة للاستثمار الآمن،
وجمعت الصين المليارات من فوائد تلك السندات.
غير أنه إذا قررت الصين تصفية كمية كبيرة من هذه
السندات، فستتلقى الأسواق العالمية هزة كبيرة، إذ سيضعف الارتفاع الكبير في معروض
سندات الخزانة إلى حد كبير قيمتها، وسيجعل اقتراض المال باهظا للشركات الأمريكية
والمستهلكين. ونتيجة لذلك، سيشهد الاقتصاد الأمريكي تباطؤاً شديدًا. لكن الأمر محاط بالمخاطرة
الكبيرة؛ حيث أن انخفاض الأسعار سيوجه كذلك ضربة إلى الصين، ولن تجد بكين في السوق
بديلاً استثمارياً بنفس ضمانات السندات الأمريكية. (15)
5- اعتبارات الإنتاج واليد العاملة: لا تستطيع الشركات الأمريكية
إيجاد يد عاملة رخيصة تغنيها عن واردات الصين؛ وحتى الشركات الأمريكية القليلة
التي تحظى بامتيازات ضريبية لبيع وارداتها من الصين بأقل الأسعار، ستحتاج إلى
الرفع من الأجور وبناء شركات أخرى، بالإضافة إلى الضغط المتزايد على التضخم
ومعدلات الفائدة. ونظرا للقدرة الإضافية الصغيرة المتوفرة، سيكون الاستثمار
والتشغيل اللذان تحتاجهما الولايات المتحدة الأمريكية لتعويض السلع الصينية على
حساب قرارات الشركات الأخرى التي كانت تحقق أرباحاً أكثر قبل الحرب الضريبية مع
الصين. إذاً، فالولايات المتحدة الأمريكية لن تستثمر ولن تُشَغِّل عمالاً جدداً
لمنافسة الصين، ما لم تكن متأكدة من استمرار الضرائب لعدة سنوات.
6- النفس الطويل واعتبارات الوقت: يعتبر الاقتصاد الصيني أكثر
تنظيماً من نظيره الأمريكي، كما أن الأسواق الصينية أكثر تماسكاً من نظيرتها
الأمريكية، ففي الوقت الذي يمارس فيه الرئيس الأمريكي سياسات حمائية تقوم على
العشوائية والارتجال، تنتهج الصين سياسة حكيمة فيما يتعلق بردود الأفعال، إذ يحكم
ذلك خطط واستراتيجيات طويلة الأمد تأخذ بعين الاعتبار معدل النمو وحجم التضخم ونسب
البطالة في البلاد.
7- الاصطفاف والدعم: تشير مقدمات النزاع ومخرجاته إلى
تخبط أمريكي، وعدم رضاء كامل عن سياسات ترامب، في مقابل اتزان صيني يقوم على دراية
مسبقة بطبيعة الاقتصاد الأمريكي، ومدى قدرته على الصمود في ظل معطيات جديدة أفرزها
فريق اقتصادي ليس الأفضل بين الإدارات الأمريكية التي تعاقبت على حكم البيت
الأبيض. وتلك حقيقة يؤكدها عزوف غالبية الأمريكيين عن الاصطفاف خلف رئيسهم في حربه
التجارية، على عكس القيادة الصينية التي تحظى قراراتها ذات الصلة بالتفاف شعبي،
ودعم غير محدود.
8- طبيعة النظام العالمي، ومبادرة الحزام والطريق: شهدت الصين خلال السنوات
الأخيرة إصلاحات داخلية في قطاعات كبيرة ومتنوعة، شملت إعادة هيكلة الاقتصاد
والصناعة وفق استراتيجية جديدة تقوم على الطلب المحلي والحد من الاستثمار في
الخارج، وهي خطة قد تجعل البلاد أقل اعتماداً في المنظور القريب على التجارة
الخارجية.
كما أن مبادرة الحزام والطريق الصينية تحظى بدعم اقليمي
ودولي من عديد من دول العالم التي تجد فيها تعظيم للمنافع التجارية المشتركة،
بعيداً عن القواعد التجارية الأمريكية الصارمة.
إجمالاً، يمكن القول أن لدى الطرفين تفاهمات مشتركة حول العديد من
القضايا، لكن هناك خلافات قوية، غير أن المشكلة تكمن في أن تلك الخلافات تتعلق بشكل
أساسي بقضايا أساسية مهمة لكل طرف، ولا يمكن تقديم تنازلات فيها، وهذا هو عنق
الزجاجة.
غير أن الصين لديها العديد من الأدوات التي تستطيع
الاستثمار فيها وتوظيفها خاصة بما لها من قبول على المستوى الاقتصادي، باعتبار
أنها تنطلق من أرضية اقتصادية بحتة، بعيداً عن التدخلات السياسية والضغوط الخاصة
بملفات معينة والتي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية. علاوة على الإجراءات
الاقتصادية المماثلة التي يمكن أن تتخذها، وهو ما يجعلها في موقف أكثر قوة نسبياً
ويعطيها القدرة على تجاوز تلك الحرب بنسبة خسائر أقل، فليس هناك منتصر في تلك
الحرب التجارية.
كما أنه، وبصرف النظر عن نتائج النزاع الأمريكي الصيني،
فإن النمو الاقتصادي في العالم يعتبر أصلاً "أقل توازناً وأقل تناغماً" في
تلك الفترة، وسيزيد من معاناته تلك الحرب التجارية التي يمكن أن تفضي في نهاية
المطاف لأزمة مالية عالمية جديدة، خاصة مع التوسع الاقتصادي ودخول ترامب في نزاع
تجاري مع كل الشركاء الرئيسيين للولايات المتحدة، بخلاف الصين، حيث برغم توصله لهدنة
هشة مع الاتحاد الأوروبي والمكسيك، لكن تظل إدارته تجري مفاوضات صعبة مع كندا. كما
أن اليابان، التي تسجل الولايات المتحدة تجاهها عجزاً تجارياً بقيمة 56,6 مليار
دولار، باتت هدفاً لترامب عقب فروغه من الصين. (16)
وفي
الأخير، فإن تلك الحرب الاقتصادية هي اختبار حقيقي للأطر النظرية التي تتحدث عن
المدخل الاقتصادي في الهيمنة، وأيضاً فرضيات موازين القوى العالمية ومعطيات العالم
متعدد الأقطاب، بحيث سيفند تلك الحجج، بما يؤهلنا لرسم صورة شبه واضحة لطبيعة
التفاعلات الدولية وموقع الصين منها، ومدى وجود تحول في النظام العالمي القائم على
التفوق الأمريكي.