سادساً- سيناريوهات ومستقبل الاحتجاجات الفئوية والتعبئة الاجتماعية في
إيران
في خاتمة الكتاب، رسم الباحث
-بناء على تلك المقدمات- عدة سيناريوهات لمستقبل تلك الاحتجاجات وهذه التعبئة، وهي
تعد بمثابة استخلاصات هامة يضع فيها الباحث عصارة ما توصل إليه من تحليل في بنية
النظام، والتفاعلات القائمة بين الفرد والدولة والمجتمع، وكافة المتغيرات
والمؤثرات المحيطة بها.
السيناريو الأول- تراجع نطاق الاحتجاجات
يستند حدوث هذا السيناريو إلى غياب مؤشرات قوية على اجتماع الرغبة الشعبية على عملية تغيير جذري وشامل، لهذا قد تظل الاحتجاجات فئوية محصورة بين فئات محدّدة، إذ رغم الشعور الموحد من جانب المحتجين بوجود مظالم حقيقية لكنهم لا يمتلكون أدوات الاحتجاج الفعال، لا سيّما أن المحتجّين ليسوا منظمين بدرجة كافية ويفتقرون إلى القيادة والموارد اللازمة للحفاظ على الاحتجاجات إلى أجل طويل لأنهم فقراء، كما أنهم لا يملكون تحالفات فعالة وقوية، خصوصًا أن استمرار احتجاج البازار كممثل مهمّ للطبقة الوسطى العليا في ظل عدم اتضاح موقفه من استمرار حكم رجال الدين ما زال محل شك، مما قد يضعف الحراك ويقلل من تأثيره مع الوقت، وكذلك لم تتشكل بعد الهياكل التنظيمية والتعاونيات بالصورة التي يمكن أن تطوّر معها حالة التعبئة لتصبح أشد قوة وأكثر تأثيرًا. في المقابل لا تزال كتلة شعبية آيديولوجية صلبة على موقفها المؤيد للنظام، فضلًا عن القطاعات الشعبية الخائفة من المجهول، والذين يرون تداعيات الثورات والسعي لتغيير نظم الحكم في دول الجوار وما أعقبها من فوضى وربما حرب أهلية. وقد تتراجع الاحتجاجات مع تمكن النظام من المزج بين القمع، في ظل القبضة القوية لمؤسساته الأمنية والعقائدية، وترشيد استخدام القوة مع بعض التنازلات المحدودة لتهدئة الاحتجاجات والسيطرة عليها.
السيناريو الثاني- استمرار الاحتجاجات بذات الوتيرة
في ظل استمرار الأوضاع المعيشية المتردية وعدم الاستجابة الفعلية لمطالب المحتجّين من جانب النظام تحت وطأة الأزمة الداخلية والخارجية الراهنة، فإنّ الاحتجاجات مرشحة للاستمرار، لكنها قد تظل في حدودها الفئوية ما دام النظام قادرًا على وقف تمدّدها لتطال شرائح أخرى، وما دامت البلاد لم تدخل في مرحلة انهيار اقتصادي وكساد، وما دام النظام قادرًا على التغلب على العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال التعاون مع القوى الدولية المصرّة على الالتزام بخطة العمل المشتركة، إذ في ظل تلك الظروف سيكون تأثير العقوبات الأمريكية جزئيًّا، فهو سيضعف الاقتصاد لكنه لن يحاصره، وسيخفف من صادرات البترول لكنه لن يصل بها إلى المعدل صفر، ومِن ثَمّ سيكون لدى النظام قدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية لقطاعات شعبية عريضة، بل قد يستخدم النظام من العقوبات الأمريكية والترويج لنظرية المؤامرة ذريعة للقمع أو لإعادة إنتاج شرعيته. كما قد يقلل النظام من إنفاقه العسكري من خلال اعتماد قوّاته والميليشيات التابعة له على موارد البلدان التي توجد بها، وقد تسربت أخبار على سبيل المثال عن تخفيض الدعم المادي لحزب الله اللبناني على خلفية الأزمة الاقتصادية الراهنة التي يمر بها النظام.
السيناريو الثالث- سحق الحركة الاحتجاجية
رغم أن مواجهة مظاهرات ديسمبر 201 7 / 18 لم تكن بذات القوة التي تم التعامل بها مع الثورة الخضراء في عام 2009، لكن هذا لا يعدّ مؤشرًا على تراجع في العقيدة الأمنية لدى قوّات النظام، بل ربما هو تكتيك متاح كلما كان امتصاص الموجة الثورية ممكنًا بجهود قمعية وأدوات سلطوية أقل، لكن إذا ما استشعر النظام خطرًا حقيقيًّا وتحولت الحركة الاحتجاجية إلى فعل ثوري جماعي، فإنّ النظام سيستحضر الأسانيد الشرعية التي تمكنه من سحق أي عمل جماعي يشكل تهديدًا، لا سيّما أن نظريات الحكم عند الشيعة لا تعترف فعليًّا وعمليًّا بحق للشعب في المشاركة السياسية وحرية الاختيار في ظل المشروعية الإلهية للولي الفقيه، ولا تُعَدّ الانتخابات أو حق التمثيل السياسي داخل النظام إلا على سبيل المشاركة الشكلية، التي يحسّن بها النظام السياسي صورته ويمتصّ من خلالها غضب المواطنين، فوفقًا لتفسير فقه «حماية القيم الإسلامية » لن يتوانى النظام في استخدام القوة لسحق الاحتجاجات، ولن يخفي النظام تأييده العلني لتلك الإجراءات، مهما كلف ذلك من ضحايا، فالنظام الإيراني جعل الفرد يتماهى مع آيديولوجيا ولاية الفقيه على غرار العمال في الأنظمة الشيوعية، فلا مجال للفرد للتعبير عن حقوقه الاجتماعية والسياسية، بل هناك مسؤولية وتكليف داخل النظام، وأي خروج عن مسار الدولة يستحق عليه الفرد السحق، ورجل الدين مصباح يزدي يعبر عن ذلك بقوله: «إذا أردت العيش في هذا البلد فعليك القبول بالدولة الإيرانية، حتى لو استخدمت معك أساليب القوة، فكل من يعارض إيران هو مُدان وينبغي محاربته، حتى لو بقي شخص واحد في هذا البلد.
السيناريو الرابع- الانتقال من التعبئة إلى الثورة
وفق هذا السيناريو قد تتحول عملية التعبئة الراهنة إلى عملية ثورية حقيقية على غرار الثورات التي شهدتها إيران خلال القرن العشرين، يدعم ذلك تراجع مستوى النمو الاقتصادي، والعجز الضخم في الموازنة العامة، وارتفاع معدلات التضخم، وزيادة الأسعار، والفساد والمحسوبية والتفاوت الطبقي، إضافة إلى التكاليف الضخمة التي يتكبدها النظام للإنفاق على مشروعه الخارجي، ناهيك بالعقوبات الأمريكية على إيران ومردودها
السلبي على قيمة العملة وسعر صرف الدولار، وهروب الاستثمارات من السوق الإيراني، إذ في ظل تلك التحديات قد تتفاقم الأزمة، وقد لا يكون بمقدور النظام أن يعالج المشكلات الاقتصادية من خلال ما يسميه «اقتصاد المقاومة »، مما يزيد من الإحباط والغضب الشعبي، ومِن ثَمّ قد تتحول عملية التعبئة إلى حراك جماعي شعبي يجعل
التغيير السياسي ضمن أولوياته.
في ظل هذه الظروف قد يفقد النظام السيطرة على هذه الاحتجاجات، وقد تنضم إليها شرائح اجتماعية أكبر تأثيرًا، بحيث تدخل إيران في حالة ثورية على غرار تلك التي مهدت لثورة عام 1979، لا سيّما بعد أن بدأ التململ يتسرب إلى البازار، ودخوله مؤخرًا على خط الاحتجاجات، وأصبح تحالفه مع رجال الدين على المحك، فضلً عن تراجع شرعية النظام وتآكل أطروحته الآيديولوجية، ووجود خلافات عميقة بين حلفائه الدينيين والسياسيين.
إذن، الاحتجاجات الدورية التي مرت بها إيران في العصر الحديث تشهد بنهايتها دون أن تتحول إلى عمل ثوري إلا في مرات محدودة، ولم يُحدِث أيٌّ منها تغييرًا جذريًّا حقيقيًّا إلا ثورة عام 1979 ) 1(، وهذا قد يجعل هذا السيناريو محل شك، إضافة إلى أن إيران دولة ريعية غنية بالموارد، ورغم
أزمتها الاقتصادية الهيكلية لكن يمكن من خلال موارد الطاقة أن توفر عوائد يمكن من خلالها امتصاص الغضب والتوتر الراهن، فضلً عن أن احتمال الدخول في صفقة نووية جديدة قد يخفف من حدة الضغوط الخارجية، أو الدخول في مفاوضات ماراثونية لكسب الوقت لحين حدوث تغيير في الإدارة الأمريكية بعد الانتخابات القادمة؛ بما يسمح بسياسات أقل تشددًا تجاه إيران. علاوة على أن وتيرة الاحتجاجات تتصاعد ثم ما تلبث أن تعود لتهدأ بما لا يؤشر لوجود أجواء ثورية فعلية. لكن على أي حال يبقى التساؤل عن المسار السياسي الأفضل لهؤلاء المهمشين والمنهكين بسياسات النظام الإيراني الحالي، لا شك أن عملية إصلاحية شاملة تستهدف وضع حدّ لطغيان الديني على السياسي، ووضع حد لطغيان الآيديولوجي على الواقع، مع إعادة هيكلة للسلطات وفق قواعد معتبرة للمسؤولية والمحاسبة، وضمان الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية في إطار ديمقراطي حقيقي بعيدًا عن وصاية رجال الدين، ناهيك بسياسة خارجية تعتمد على تبادل المصالح بعيدًا عن التدخّل، وبعيدًا عن طموح الغزو ومدّ النفوذ خارج سياق التنافس المشروع.. هي مطلب شعبي يحظى بتأييد واسع، وهي في الوقت نفسه المسار الآمن لاستقرار إيران، وهذا نموذج مثالي للخروج من الأزمة، وعلى قادة إيران أن يعيدوا تقييم تجربتهم بعد أربعين عامًا ويجيبوا عن تساؤل المحتجّين: «كان لدينا ثورة.. ما الخطأ الذي كان؟ .
لكن أيمكن أن يحدث هذا التحوّل في ظل النظام القائم وفي ظل المصالح المتشابكة بين مكوناته؟ يبدو ذلك صعبًا، ومع هذا فإنّ بقاء
عملية التعبئة واستمرارها لفترة طويلة حتمًا سيقودنا
إلى السيناريو الأشد خطورة، وهو ثورة من أجل إحداث تغيير جذري واسع. لكن ما الذي يمكن أن تقوده الثورة لهؤلاء المهمشين والفقراء؟ لا شك أن الشعوب والطبقات الفقيرة تتحمل أعباء ضخمة في مراحل الاضطراب والانتقال، ولا يعني قيام ثورة أن الأوضاع ستستقر، أو أن ثمارها الاقتصادية ستكون في متناول الشعب، بل ستكون مراحل انتقالية مجهولة، قد يكون البديل ديمقراطيًّا حقيقيًّا، وهذا سيحدّ من آثار المشكلات في مراحل الانتقال، وقد يكون البديل أكثر راديكالية من سلفه، لكن معاناة مع ديمقراطية تعطي بصيصًا من الأمل لا شك أفضل من سلطوية أو حكم عسكري بلا أمل، وهي ممكنة فعليًّا عبر إصلاح يتبناه النظام من داخله، أو ثورة حقيقية تنجح في تحقيق مشروعها بالانتقال إلى الديمقراطية، لكن بأي تكلفة يمكن أن يحدث ذلك؟
حتى يتغير الوضع بالإصلاح أو الثورة، فالمرجح أن الوضع في إيران على المدى القصير
والمتوسط سيبقى على ما هو عليه:
أوضاع داخلية صعبة، ومدّ وجزر لعملية تعبئة متواصلة تظهر في صورة احتجاجات اعتاد عليها الإيرانيون في ظل النظام القائم، مع استجابات مؤقتة تجمع بين القمع والتهدئة، وربما لو خرجت الاحتجاجات عن السيطرة يكون العنف هو الأولوية التي سيلجأ إليها النظام، لأنه لا يبدي مؤشرات على إمكانية الإقدام على عملية دمج حقيقي للحركة الاجتماعية الراهنة. أما على المدى الطويل فإنّ التعبئة قد تفرض شكلً ما من أشكال التغيير، لأن التغيير أصبح مطلبًا يحظى بتأييد شعبيّ يتسع مع الوقت.
إجمالاً، يمكن القول أن هذا الكتاب أحد أهم ما أنجز
فيما يتعلق بموضوع الاحتجاجات الفئوية والتعبئة الاجتماعية بشكل عام، وبخاصة في
تعاطيه مع النموذج والحالة الإيرانية بما لها من خصوصية، وما يكتنفها من تعقيدات
وتشابك، وغموض نسبي متمثل في عدم الإتاحة وغلق المجال العام وصعوبة الوصول
لمعلومات، وهو ما يعد إنجاز كبير للباحث، وبخاصة استخدامه لمراجع متنوعة من
الأدبيات الأجنبية والفارسية والعربية المتنوعة، والتي غطت مساحات زمنية كبيرة، كل
ذلك يضفي قوة للباحث، فضلاً عن أسلوبه السهل الممتنع كما ذكرنا، وهو في النهاية
إضافة للمكتبة العربية في مجال الدراسات الإيرانية.