المركز العربي للبحوث والدراسات : التكوينات الفكرية وعصمة العقل وانزياحاته (طباعة)
التكوينات الفكرية وعصمة العقل وانزياحاته
آخر تحديث: الخميس 05/09/2019 12:23 ص
أ.د. علي أسعد وطفة أ.د. علي أسعد وطفة
التكوينات الفكرية

    توجد احتمالات التوهم في كل معرفة إنسانية، وتتغلغل إمكانية الخطأ في كل عمل ذهني، وتسجل المغالطات والأوهام حضورها في مختلف التكوينات الفكرية الواعية عند الإنسان. وغالبا ما يكوِّن البشر تصورات خاطئة عن أنفسهم وأفعالهم وعما يجب أن يفعلوه في العالم الذي يعيشون فيه. وتأسيسا على هذه الحقيقية يمكن القول بأنه لا توجد معرفة تمتنع على الخطأ وتتجاوز حدود التوهم. وهذا ما تؤكده نظرية المعلوماتية إذ تعلن بأن الخطأ حالة ممكنة وهو خطر دائم في مختلف عمليات تحويل المعرفة وفي مختلف دوائر الاتصال. فالمعرفة الإنسانية ليست مرآة دقيقة للأشياء أو للعالم الخارجي بل هي نتاج عملية ترجمة للواقع ولعملية بناء ذهني معقدة إلى حد كبير. فالخطأ الإدراكي ينال من حواسنا المختلفة ولا يستثنى من ذلك حاسة البصر وهي أكثر حواسنا ثقة ومصداقية. وبالمقارنة مع الحواس فإن الخطأ الذي ينجم عن العقل عينه أكثر خطورة. فالمعلومات التي تقوم على أساس المفاهيم والأفكار والنظريات تتكون بفعل عملية ترجمة معقدة للواقع عبر أدوات اللغة والتفكير. وهذا يعني أنها معرضة بدرجة أكبر لإمكانيات الخطأ ومجانبة الحقيقية. ويضاف إلى ذلك أن هذه المعلومات التي تتكون بفعل الترجمة الحية للواقع تخضع أيضا لعملية تفسير وتحليل تحمل بدورها إمكانية تنامي الخطأ وتشكل التوهم. ومن هنا أيضا تصدر إمكانية الخطأ الذي يجد طريقه إلى المعرفة الإنسانية رغم عملية الضبط العقلي المستمرة. ويضاف إلى ذلك كله التشويش الذهني الذي ينجم عن الإسقاطات السيكولوجية التي تتوزع في منظومات المشاعر والانطباعات والميول التي تفرض نفسها في كل فعل معرفي دافعة إياه إلى مواقع الخطأ والتوهم.

ومع هذا كله يجري الاعتقاد بأنه يمكننا استبعاد احتمالات الخطأ الناجم عن التكوينات الانفعالية عن طريق عملية تحييد الانفعالات والمشاعر وضبطها وتنظيمها. ولكن واقع الأمر يؤكد بأن المشاعر الإنسانية تفرض نفسها بقوة في مختلف أبعاد العمل العقلي وتؤدي به إلى مواقع الخطأ. لكن، وعلى الرغم من التأثير                         السلبي للميول والعواطف الإنسانية في عملية المعرفة، يتوجب علينا بالمقابل أن نعلن بصراحة أن تطور الذكاء الإنساني مرهون بتطور العواطف والميول والجوانب الانفعالية بعامة، وأنه لا يمكن الفصل بين هذين الجانبين في عملية بناء المعرفة وتشكلها. فمشاعر الفضول والاندفاع والحب تشكل النوابض الحقيقية لعملية البحث الفلسفي والعلمي. ومع ذلك يجب أن نعترف أيضا بأن هذه المشاعر قد تعتقل إمكانية المعرفة الموضوعية وتخنقها كما يمكنها في المقابل أن تعززها. وهذا كله يعني وجود علاقة عميقة وجوهرية بين الذكاء والعاطفة. وليس غريبا أن نعرف اليوم بأنه يمكن للصدمات الانفعالية التي تعتري الإنسان أن تؤدي إلى تدمير ملكة المحاكمة لديه وإضعاف مجالات الذكاء وإمكانياته. ومن جهة أخرى يجب أن ندرك في هذا الخصوص بأن العقل لا يمكنه أن يأخذ موقع الهيمنة والسيطرة على الجانب الانفعالي عند الإنسان وذلك لأن إضعاف الإمكانيات الانفعالية عند الإنسان يمكنها أن تشكل مصدرا للسلوك غير العقلاني.

إن تطور المعرفة العلمية من شأنه أن يساعد الإنسان على تجاوز احتمالات الخطأ وعلى إضعاف احتمالات التوهم. ومع أهمية ذلك فإن يتوجب علينا أن نتحسب للمخاطر التي تنجم عن النماذج الفكرية التي تضبط العلم والمعرفة العلمية، والتي يمكنها أن تشكل بذاتها مصدرا للأخطاء والأوهام المعرفية. وهنا يمكن القول بأنه لا يمكن لأية نظرية علمية مهما بلغ شأنها أن تمتلك مناعة دائمة ضد احتمالات الخطأ والأوهام. ولا يمكن للمعرفة العلمية وحدها أن تعالج المشكلات الإبيستيمولوجية والفلسفية والأخلاقية بل يحتاج ذلك إلى جهود تربوية يمكنها أن تسهم وإلى حد كبير في الكشف عن مصادر الخطأ وينابيع الأوهام والانحرافات الفكرية والعلمية التي تواجه مسيرة الحياة الفكرية.

الأخطاء الذهنية

تبين الدراسات العلمية الفيزيولوجية في مجال وظائف الدماغ أن مداخل ومخارج الدماغ التي تضعه في صلة مع العالم الخارجي لا تمثل أكثر من 2% من منظومة العلاقات التي يجريها الدماغ، وبالمقابل فإن 98% من فعاليات الدماغ توجه لعمليات داخلية. وهذه العلاقات الداخلية تشكل عالما نفسيا مستقل نسبيا حيث تتمركز في داخله الأحلام والرغبات والأوهام التي تحدد في نهاية الأمر نظرتنا للعالم والكون. وفي داخل كل تكوين نفسي توجد هناك آليات سيكولوجية موّلدة للوهم وصانعة للخطأ وهي بدورها تشكل أحد أهم مصادر الخطأ في التفكير الإنساني.

فالمركزية الذاتية للحياة السيكولوجية عند الإنسان، ومنطق الحاجة إلى التبريرات الذاتية، وإسقاط المشاعر على العالم الخارجي، هي عوامل تشكل جميعها مصدرا للخطأ والأوهام والأخطاء الفكرية. فنحن ووفقا لهذه العملية نسقط مشاعرنا على الآخرين بوصفهم مصدرا للشر والجهل والأذى وذلك من أجل أن نبرر لأنفسنا موقفا يعلو على احتمالات الخطأ والضلال.

والذاكرة كغيرها من القوى العقلية تكون مصدرا من مصادر الخطأ والوهم. فالذكريات التي لا تجدد عبر عملية التذكر يمكنها أن تتلاشى وتضعف ويمكن لأية معلومة أخرى أن تحرفها وتغير مضامينها وتخضعها لعملية اصطفاء متحيزة. والذاكرة بطبيعتها تميل إلى إحياء الذكريات الجيدة وإسقاط الذكريات المؤلمة والسيئة، وهي تشوه الذكريات عن طريق عمليات الإسقاط أو الخلط اللاشعوري. وهذا يعني إمكانية وجود ذكريات خاطئة أو غير حقيقية في وعاء الذاكرة وصاحب هذه الذكريات الخاطئة يؤمن بها وبمصداقيتها ولا يستطيع إلا نادرا أن يشك بمصداقيتها، كما أنه قد ينكر تماما الذكريات المشؤومة ويعتقد أنها لم تحدث له أبدا. وباختصار يمكن القول هنا بأن الذاكرة تشكل واحدا من أهم مصادر الخطأ الإنساني.

انزياحات العقلانية

إن المزاج كثيرا ما ينتصر ويتمرد على قرارات العقل — فيودور دوستويفسكي

إن أنظمتنا الفكرية ليست معرضة للخطأ فحسب بل تمتلك في ذاتها على ما يبرر الخطأ ويحافظ عليه. فهناك دائما آلية معينة في داخل هذه الأنظمة الفكرية (نظريات - عقائد أيديولوجيات ) تعمل على مقاومة كل المعلومات التي لا تتوافق معها أو هذه التي يصعب التكيف معها. فالنظريات تقاوم النظريات المعادية لها وترفض الحجج المناقضة لها. ولكن النظريات العلمية هي وحدها التي يمكنها أن تقبل النقد الذي يوجه إليها، وهي في سياق ذلك تمل على ضبط هذه المقاومة والسيطرة عليها. وعلى خلاف ذلك تبدي العقائد والأيديولوجيات المغلقة على ذاتها والمتشبعة بحججها الداخلية مقاومة عنيفة لكل الأفكار والمفاهيم الجديدة ولذل فهي غير قادرة على قبول أي نقد يكشف عن أخطائها.

العقل هو أداة الإنسان في محاكمة الوجود وفهمه وتحليله وإدراكه. أنه يمتلك القدرة على التمييز بين الحلم واليقظة، بين المتخيَّل والحقيقي، بين الذات والموضوع. فالعقل هو الذي يسعى على ضبط المحيط والسيطرة على مقتضياته، وهو الذي يستطيع أن يولد طاقة نفسية لمواجهة الوسط والرغبة والمتخيل. وهو الذي يناط به ضبط معادلات الثقافة والوجود ومن ثم عقلنة الظواهر والأشياء التي تحيط بنا. وباختصار فإن العقلانية هي الجدار الذي يمتنع على الوهم ويأنف إمكانية الخطأ.

يعمل العقل على إبداع وإنتاج النظريات المتماسكة وعلى تأصيل السمات المنطقية لبنية هذه النظريات وتحقيق التماسك الداخلي بين جوانبها المختلفة وبين معطياتها النظرية ومعطياتها الخارجية والأمبيريقية. وهذا يتطلب من العقلانية الانفتاح على الاعتراضات التي يمكن أن توجه إليها. وعى خلاف ذلك فإن امتناع العقلانية على تيارات الجدة والانتقادات يقودها إلى مستنقع الجمود والتصلب ويحيلها إلى عقدية جامدة. ويمكن في هذا السياق الحديث عن العقلانية النقدية التي تمارس دورها في رصد الأخطاء والأوهام التي تتموضع في صلب النظريات ولعقائد والأيديولوجيات المختلفة.

ومع أهمية هذه الاحترازات العقلانية ضد التصلب والجمود فإن العقلانية ذاتها ليست في عصمة من الخطأ إذ تحمل في ذاتها إمكانية الخطأ والتوهم. فالعقلانية تأخذ صورتها العقلانية لأنها تمتلك في داخلها نظاما منطقيا متكاملا يقوم على أساس الاستقراء والاستنتاج والتفكيك والتحليل والتركيب، وهذا يعني مجموعة من العمليات الذهنية والعقلية التي يمكنها أيضا أن تتعرض لآليات التوهم والخطأ.

ولكي تكون العقلانية في منأى عن تصورات التوهم والخطأ يترتب عليها أن تكون منفتحة بطبيعتها على الحوار الدائم مع الواقع والحياة والأفكار. وهذا يتضمن أيضا ضرورة التواصل بين اللحظة المنطقية واللحظة الواقعية في حركة دينامية من التبادل الحر الذي يؤدي إلى استبعاد احتمالات الغلط والخطأ وتصويب الروح العقلانية في اتجاهات عقلية آمنة. فالنظرية الحقّة هي هذه التي تأتي نتاجا مستمرا للتواصل الحر والمستمر بين الأفكار والواقع، إنها ثمرة الحوار الدائم الذي يقوم على البرهان بين الأفكار. والعقلانية الحقيقية هي هذه التي تأخذ باعتبارها حدود المنطق وحدود الحتمية وهي هذه التي تؤكد بأن الإنسان لا يمكنه أن يكون علميا على نحو كلي أو مطلق. هذه العقلانية ترى بأن الحقيقية تمتلك أسرار وجودها الخاصة. ومع ذلك كله فإن هذه العقلانية تحاور اللاعقلاني واللامنطقي من منظور روح نقدية عفوية مظفرة.

والعقلانية ليست ملكا لحضارة وحيدة بعينها فهي ليست غربية أو شرقية بالمطلق. لقد اعتقد الغرب ردحا من الزمن بأنه الوحيد الذي يمتلك هذه العقلانية. وكان يعتقد إضافة لذلك أن الحضارات الإنسانية الأخرى لا تمتلك غير الأخطاء والأوهام. وتأسيسا على هذا الوهم عمل الغرب على قياس مستوى تطور الحضارات الأخرى بمقياس التطور التكنولوجي الذي عرفه وحققه في مجال تطوره الحضاري. وعلى خلاف ما يدّعيه الغرب فإن العقلانية كانت من نصيب جميع الحضارات حتى أكثرها قدما وبدائية. فأغلب الحضارات الإنسانية عرفت العقلانية في أساليب إنتاجها وفي أنماط وجودها التي تتعلق بالزراعة وتربية الحيوان والقنص والصيد. وقد تعايشت هذه العقلانية مع سحر الأساطير والأديان والخرافات. وهذه الحقيقية تنسحب اليوم على الحضارة الغربية التي تمتلك في مكنون وجودها على نسق من الأساطير والأديان والسحر ويشمل هذا أسطورة العقل الإنساني المتسامي ودين التقدم. وهذا الاعتراف بوجود الأنماط السحرية والأسطورية في الحضارة الغربية لا يتعارض مع العقلانية بل يتوافق معها إلى حد كبير لأن مجرد الاعتراف بالضعف والحقيقية يجسد حالة عقلانية.

وهنا تتبدى أمام أعيينا أهمية الفعل التربوي في مواجهة هذه الحقيقية حيث يترتب علينا أن نعلن بأن العقلانية نفسها معرضة لخطر التوهم وأن الثقة المطلقة بالعقلانية شكل من أشكال الوهم والغلط والخلط والتوهم. فالعقلانية تواجه خطرا دائما إذا لم تمارس النقد الذاتي لأوضاعها الداخلية. وهذا يعني في نهاية المطاف أن العقلانية ليست مجرد حالة نظرية أو نقدية فحسب بل يجب أن تكون وفي الآن الواحد نقدية ذاتية وذاتية نقدية في ذاتها.

أوهام النماذج

إِذا نادى الهوى والعقلُ يوماً ..... فصوتُ العقلِ أولى أن يجابا - القروي

لا يكمن رهان الحقيقة والخطأ في المحاججة الواقعية فحسب بل يسجل هذا الرهان دوره في المناطق الخفية غير المرئية للنماذج الفكرية القائمة. وفي البداية وقبل التوغل في تحليل هذا الرهان، يمكننا تعريف النموذج الفكري بن الحالة التي يتم بموجبها اصطفاء المفاهيم الرئيسة للمعقولية. وهذا يعني أن النموذج الفكري يرمز إلى نظام محدد من التصورات والصور الفكرية. إنها مادة التصورات المادية وروح التصورات الروحية وهي البنية في التصورات البنيوية. إنها المفاهيم الرئيسة المختارة والمصطفاة التي تستبعد جميع المفاهيم المضادة والعارضة لها. وتتمثل درجة النمذجة في مستوى اصطفاء الأفكار التي تتكامل في النموذج أو النظرية. ولا تقف النمذجة هذه عند حدود تنسيق الأفكار بل تتجاوز هذه الحالة إلى حالة أخرى هي حالة اصطفاء العمليات العقلية والمنطقية التي تمارسها والتي تؤكدها بوصفها العمليات الرمزية والأساسية للفعل المعقلن في ذاتها. وغالبا ما تخفي النماذج العمليات المنطقية التي تأخذ طابعا مقدسا وواضحا في مختلق عملياتها. وهذا يعني أن النموذج هو الحالة التي يتم فيها قبول بعض العمليات المنطقية على حساب الأخرى وهو النظام الذي يعطي المشروعية لمنطق معين اختاره واصطفاه دون سواه. وفي هذا الاتجاه نفسه فإن النموذج يعطي للنظريات والمقالات صفات الضرورة والمصداقية. ويضاف إلى ذلك كله أنه يؤسس لمسلمات ويعبر من خلالها كأن يؤد على فكرة مثل: أية ظاهرة طبيعية تخضع للحتمية وأن كل ظاهرة إنسانية تتحدد بوصفها متعارضة مع الطبيعة.

وهذا يعني أن النموذج الفكري يصطفي ويختار المفاهيم على منوال العمليات المنطقية وعلى صورة المسلمات والبديهيات التي ينطلق منها ومن ثم فإنه يصنف هذه المفاهيم في فئات أساسية متمايزة في نسق الأهمية ويعمل في النهاية على مراقبة وضبط وظائف هذه المفاهيم ويحدد لها دورها في العملية المعرفية. وعلى هذا الأساس فإن الأفراد يفكرون ويسلكون وفقا لهذه النماذج التي تسجل نفسها في أعماقهم الداخلية.

ومن أجل توضيح هذه القضية يمكن أن نسوق نموذجين فكريين متناقضين لطبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة. يتضمن النموذج الأول للعلاقة بين الإنسان والطبيعة أن الإنسان يوجد في الطبيعة وأن أي خطاب يجب أن يعترف بان الإنسان كائن طبيعي وأنه يمتلك طبيعته الخاصة. أما النموذج الثاني فيفترض وجود تناقض بين مفهومي الطبيعة والإنسان، ويفترض هذا النموذج أن الإنسان ينطوي على خصوصية غير طبيعية، وهذا يعني أن هذا النموذج يضع الإنسان في تعارض مع الطبيعة.

ومع الأسف فإن النماذج الفكرية تلعب دورا جوهريا في مختلف النظريات والعقائد والأيديولوجيات السائدة في الحياة الفكرية المعاصرة. وغالبا ما تكون هذه النماذج متخفية متلبسة في صيغ لاشعورية وهي من مواقع التخفي هذا تحاصر الكر النقدي وترصده وتدفعه في اتجاهات محددة. وهذا يشكل واحدا من أهم مصادر الأوهام والأخطاء في المعرفة الإنسانية.

وباختصار يمكن القول بأن النماذج تقيم علاقات أولية وتعمل على بناء بديهيات ومسلمات محددة تستطيع بدورها هي أيضا أن توجه التفكير وتحدد مسار النظريات والأيديولوجيات.

ويمكن لنا في هذا السياق التأمل في النموذج الفكري الغربي الذي يعود إلى المفكر الفرنسي ديكارت Descart والذي فرض نفسه على تاريخ التفكير المنهجي منذ القرن السابع عشر حتى اليوم. وهذا النموذج يفصل بين الذات العارفة والموضوع. وعلى أساس هذا الفصل بين الذات والموضوع الذي تجلّيه الفلسفة الديكارتية تنبع منظومة من التقابل بين مجموعة من المفاهيم المركزية التي تعتمد المبدأ الديكارتي في الانفصال مثل:

الذات

الموضوع

objet

Sujet

النفس

الجسد

Corps

Ame

الروح

المادة

Matière

esprit

الكم

النوع

Qualité

Quantité

غائية

سببية

Causalité

Finalité

الإحساس

العقل

Raison

Sentiment

الحرية

الحتمية

Déterminisme

Liberté

وجود

جوهر

Essence

Existence

 

النموذج الديكارتي كما هو مبين في الجدول السابق يحدد المفاهيم الأساسية للتفكير ويحدد طبيعة العلاقة المنطقية بين هذه المفاهيم. وهذا التقابل الذي يطرحه ديكارت لا يمكنه أن يكون - على الرغم من أهميته العلمية – عين الحقيقة أو يكون ضامنا لها في هذه الصيغة التي يطرحها كما يرى بعض المفكرين. فالنموذج الديكارتي يحدد لنا نظرة ثنائية إلى الكون والوجود العالم. فهناك عالم مادي يخضع للملاحظة والتجربة والمعالجة، وهناك عالم آخر ذاتي ومعنوي يتمثل في مشاكل الوجود والاتصال والوعي.

وباختصار هذا النموذج يوضح الحقائق ولكن يمكنه أيضا أن يدفعنا إلى الغموض فهو يكشف ويخفي في آن واحد، وهنا في داخل هذا النموذج الديكارتي يمكن أن نجد مشكلات فكرية مغلقة قد تشكل منبعا للخطأ الذهني والعقلي.

فحتميات العقائد تستند إلى حتميات النماذج وتحديدات الأنماط التفسيرية المعتمدة. وحين تسود هذه العقائد في مجتمع ما فإنها تفرض نفسها على مختلف الأفراد الذي يخضعون لها. وعندما تهيمن العقائد والأيديولوجيات في مجتمع ما فإنها تفرض على الأفراد حضور قوى مطلقة ملزمة تحمل معتنقيها على الإيمان بها والتصرف بموجبها. وهذه القوى تستند بالضرورة إلى نماذج اعتقادية مثل العقائد والأيديولوجيات الرسمية أو المعتقدات السائدة أو النماذج المعرفية أو الأفكار التي يتمثلها الأفراد دون اختبار.

وجميع هذه النماذج المعرفية، أو المعتقدات النموذجية، تعمل على اعتقال المعرفة وسجنها داخل نماذج قطعية نهائية مغلقة. وهذه النماذج في الغالب تفرض على معتنقيها حالة تطبيع أو نمذجة تعمل على استبعاد كل ما يخالف منطق هذه النماذج وتحديداتها الأولية.

فالتاريخ يشكل منذ انطلاقته الأولى مسرحا للأساطير التي تحركها الآلهة والقوى الروحية ز وقد سجلت هذه الأساطير حضورها في العقل البشري عقائد راسخة دفعت البشر إلى الحروب والموت والقتال. ومثل هذه الحالة لا نجدها عند الكائنات غير الإنسانية أبدا إذ لا توجد حروب تلهبها المعتقدات وتوقدها الأساطير.

فالأساطير تعيش في داخلنا ونحن نعيش في مجالها. وقد تبلورت هذه الأساطير وأخذت صورة حقائق لا تقبل الجدل في خيالنا وفي عقولنا. إنها تصنع مشاعرنا وتولد فينا مشاعر وأحاسيس الحب والكراهية. وليس غريبا اليوم أن نجد من يقتل ويُقتل من أجل الأفكار والله والعقائد. ومع أننا في الألفية الثالثة فإن حالنا لا يختلف كثيرا عن حال الإغريق القدماء لأن شياطين الفكر وأبالسة العقائد تهيمن على التفكير وعلى المشاعر وتجعلنا في حالة غفوة عما يحيط بنا. وهي في الوقت نفسه تعطينا انطباعا وهميا بأننا أسياد المعرفة وكهانها.

والمؤسسات العقائدية والإعلامية تقوم اليوم بتدجين الأفراد على الأساطير وتغذيهم بالأفكار والمعتقدات التي تروضهم على قيم الخضوع والامتثال. ومع ذلك كله فإنه يمكن للأفراد أن يعملوا على بناء عقولهم وتصميم أفكارهم بدرجة أكبر من الموضوعية وخارج دائرة الأوهام والأساطير. وتبقى محاولة الأفراد للخروج من دائرة النماذج والحتميات الفكرية التي تستعبدهم أمرا محتملا وقائما. وهذا يمر عبر عملية معقدة تتجاوز حدود اللحظة الثلاثية التي تتمثل في الأفراد والعقائد والوسط الاجتماعي الذي يحيط بهم.

ومع أهمية محاولة الانطلاق فإنه لا يمكن بناء نموذج فكري مثالي يعصم البشر عن الخطأ ويحول الأفكار إلى أشياء. فالأفكار وجدت قبل الإنسان ومن أجله، ولكن الإنسان نفسه يوجد من أجل الأفكار وبها. ونحن لا نستطيع أن نستفيد من هذه الأفكار مل لم نعنى بها ونرعاها. وإذا كان يتوجب علينا أن نتحرر من هيمنتها فإن ذلك يكون بالحوار والجدل والتبادل والتناقد في دورة مستمرة لا تعرف حدود التوقف والانقطاع.

إذ لا يجب أبدا أن نفسح المجال لأية نظرية أو فكرة كي تتحول إلى أداة أو طاقة تفرض نفسها تسلطيا على وجودنا بإيحاءاتها وانطباعاتها. بل يجب أن نجعل منها طاقة تساعدنا في تجاوز ما هو سائد وفي اختراق الهيمنة الأيديولوجية وإسقاط النماذج الفكرية القائمة نحو رؤى فكرية أكثر حرية وانطلاقا. فالنظرية يمكنها أن توجه الأفكار والاستراتيجيات المعرفية. وهذا يعني أنه يمكن أن نستفيد من مختلف الأنماط الفكرية القائمة وأن نغذي طاقة المعرفة لدينا من مختلف الاتجاهات الفكرية بعيدا عن مبدأ الخضوع والانقياد.

فالعقلانية هي نتاج حوار دائم بين الفكرة والواقع، ويجب علينا في هذا السياق أن نعترف بالصعوبة المنهجية التي يواجهها الفكر في ضبط الأساطير المتخفيّة والسيطرة عليها تحت عنوان العلم والعقل، وذلك لأن العقبة الأساسية قائمة في داخل أداة التفكير نفسها وهي تتمثل في طبيعة الممانعة الذاتية والعفوية التي تتأصل في منظومات المنطق والمعتقدات التي نؤمن بها.

الأساطير والأيديولوجيات تدمر الحقائق، ومع ذلك فإن الأفكار نفسها هي التي تتيح لنا إدراك الواقع بسلبياته كما تتيح لنا إدراك الأفكار بمخاطرها في آن واحد. وهذا يعني وجود صراع متأجج بين الأفكار ذاتها وبين الإنسان والأفكار عينها. وبالتالي فإن وقود هذا الصراع يكون في الأفكار عينها التي تمثل حطب المعرفة الذي يبعث فيها الدفء والعطاء الفكري.

الشك المعرفي

تدهشنا المفاجاءات وتقض مضاجعنا وذلك لأننا نعيش حالة أمن عالية مع نظرياتنا وأفكارنا. ومع ذلك فإنه لا يمكننا في الغالب أن نتوقع حدوث الجديد الذي لا يتوقف عطاؤه. ومع ذلك فإنه لمن الضرورة بمكان في هذا العصر أن نتوقع اللامتوقع عينه.

فمصادر الخطأ والتوهم كما ألمحنا متعددة وموجود باستمرار في كل أنواع المعرفة. ومن هنا يتوجب على التربية أن تحدد إمكانيات حدوث الانحراف والخطأ ومصادرة هذه الاحتمالات والإمكانيات قدر المستطاع. وهذا يعني أن إدراك مصادر الخطأ والتعريف بها يشكل اليوم أوكسجين كل معرفة وعلم أو معرفة علمية. وفي كل الأحوال فإن المعرفة تبقى مغامرة يتوجب على التربية أن تقدما كزاد ضروري للأفراد.

إن معرفة المعرفة التي تعني تكاملا نقديا في المعرفة ذاتها يجب أن تأخذ صورة ضرورة حيوية للتربية وفي التربية، ويجب أن تكون مبدأً حيويا دائما ومستمرا في كل عملية تربوية. وهذه التربية يمكنها أن تؤسس لثقافة تتسم بطابع الانفتاح والحوار وتبادل الأفكار.

وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن بناء إمكانية التساؤل والحوار حول موضوع المعرفة ذاته أمر يجب أن يحظى باهتمام المربين والقائمين على العملية التربوية. فعملية البحث عن الحقيقية يجب ألا تنفصل عن مبادئ النقد والحوار والتبادل والانفتاح. وهذا يعني أنه يتوجب علينا أن نمارس فعلنا النقدي في اتجاهين: يتمثل الاتجاه الأول في مجال نقد الأفكار التي نمتلك عيها، أما الآخر فيتمثل في الأفكار التي تمتلك علينا، وذلك من أجل الوصول إلى خصوبة معرفة علمية حقّة تنتزع نفسها بعيدا عن الوهن المعرفي.

على العقل أن يحذر منتوجه العقلي وذلك مع الإيمان بأهمية هذا المنتوج وضرورته لحياتنا الفكرية. فنحن في حاجة دائمة إلى اليقظة وإلى عملية ضبط دائمة تمكننا من تجنب التطرف الفكري وتحمينا من الوقع فريسة أوهامنا الفكرية والعقائدية. إننا بحاجة إلى الحوار والحوار المستمر والتواصل الممكن بين مختلف المكونات النفسية والعقلية لوجودنا وتفكيرنا وذلك من أجل ضبط الخطأ والوهن العقلي.

ما نحتاج إليه اليوم يتمثل في ضرورة تحديث نظرياتنا وأفكارنا والانتقال بها إلى حالة حضارية. وهذا يعني الانتقال بها إلى أجيال جديدة من النظريات المفتوحة العقلية والنقدية التي يمكنها أن تعيد تشكيل ذاتها في صورة أفضل. وهذا يعني في النهاية أنه يتوجب علينا أن نعمل على بلورة وتأصيل نموذج ذهني يسمح لنا بمعرفة معقدة ومركبة.

وختاماً يمكن القول بأن إمكانية الخطأ متعددة ومستمرة، منها ما يصدر من الخارج، ومنها ما ينبع من الداخل، ومنها ما يأتي من المجتمع أو من الثقافة، ومنها ما يأتي من أعماق النفس الإنسانية، ولكن بعضها يصدر عن العقل نفسه وأدوات المعرفة ذاتها أيضا. وهنا يتوجب على التربية أن تكون في مستوى المسؤولية وأن تضمن للأفراد إمكانية واسعة في التعرف على مصادر الخطأ وفي تكوين مهارات التصويب التي تتمثل في النقد والحوار والتأمل والانفتاح وتلك هي مهارات ضرورية لعالم يحدق به خطر داهم يتمثل في اندفاعات التوهم والخطأ.

المراجع

-  صفاء الأعسر، تعليم من أجل التفكير القاهرة، دار قباء، القاهرة، 1998.

-  عبد الكريم الخلايلة و عفاف اللبابيدي، طرق تعليم التفكير للأطفال دار الفكر، عمان، 1997.

إدوارد دي بونو، تعليم التفكير، ترجمة عادل عبد الكريم ياسين وكمال جبري أمين، وزارة التربية والتعليم، الكويت، 1989.

- صلاح قنصوه، الموضوعية في العلوم الإنسانية، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1980.

رجاة العتيري، في طبيعة العقل، دار سحر، تونس، 1999.

Maggi, Bruno, Manières de penser, manières d'agir en éducation et en formation / publié sous la direction de Bruno Maggi, Paris: Presses universitaires de France, 2000.