المركز العربي للبحوث والدراسات : الأمننة المائية وفرص النجاح .. التحركات المصرية فى إحتواء تداعيات سد النهضة (طباعة)
الأمننة المائية وفرص النجاح .. التحركات المصرية فى إحتواء تداعيات سد النهضة
آخر تحديث: الخميس 31/10/2019 07:51 م
إيمان زهران إيمان زهران
الأمننة المائية وفرص

ثمة حالة من الضبابية تسيطر على المشهد الأمنى للملف المائى بالتزامن مع ما أعلنتة الولايات المتحدة الأمريكية من عقد وساطة سياسية فى 6 نوفمبر 2019 على خلفية التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الأثيوبى آبى أحمد والتى جاءت إنعكاساً لعدد من التحركات المصرية الرامية لمحاصرة السياسات الآحادية لملف "سد النهضة"، وذلك بإنجاز عدد من الجولات التفاوضية أهمها ما تمثل فى: "الجولة الفنية الاولى فى سبتمبر 2019 بالقاهرة، والاجتماع الفنى لوزراء الرى الثلاث "مصر والسودان وأثيوبيا" فى الربع الأول من أكتوبر 2019 بالخرطوم، وإجتماع وزراء الخارجية العرب وتناول ملف سد النهضة فى  10 سبتمبر 2019 بالقاهرة، بالإضافة لما تضمنة البيان الختامى لأعمال الدورة 152 لمجلس جامعة الدول العربية من إشارات واضحة حول التضامن الكامل لحماية الأمن المائي المصري والسوداني".

 غنى عن البيان، أنه فى حالة إستمرار تعثر المفاوضات وفشل الالتزام أو تنفيذ أي من بنود الاتفاقات التي انتهت إليها الاجتماعات السابقة على المستوى السياسي والفني والأمني، سيلزم ذلك الجانب المصرى التحرك على عدد من المستويات السياسية الدبلوماسية والفنية الهيدرولوكية والقانونية لتقويض التحديات القائمة ومحاصرة مثل تلك السياسات الأحادية والمُهددة للأمن المائى المصرى، فضلا عن طرح عدد من المسارات المحُتملة لإنهاء حالة "التصفير المائى" فى نطاق ما بات يُعرف بسياسات "الأمننة المائية". 

الأمننة المائية

تُعد نظرية الأمننة -  Securitization Theoryأهم أدوات التحليل فى دراسات قضايا الأمن المختلفة، فالفكرة الأساسية لهذه النظرية هو أن عملية تحويل القضايا العادية إلى قضايا أمنية هى عملية لغوية بحتة "Illocutionary"، يعبر فيها المسؤلين الرسميين فى إطار وحدة معينة عن تخوفهم من تهديد معين ورسمة فى صورة تهدد أمن هذه الوحدة، مما يستدعى تحرك كافة الأجهزة والمؤسسات بصورة سريعة للتعامل معه على أنه قضية أمنية تستوجب تخصيص الموارد والوقت والجهد لتوفير الجماية ضد تباعته.

ومن ثم، فهذه النظرية تلفت الانتباه إلى قوة الخطاب السياسى الرسمى والطبيعة السياسية لعملية الأمن. وما يترتب على هذا من تحول لعدد من القضايا العادية -  مثل : قضية المياة – من مجال السياسات العادية الى مجال السياسات الأمنية الطارئة. ووفقا لهذا التوصيف، فنجد أن نظرية الأمننه تستند تحديدا على إستكشاف من هو القادر على تحويل القضايا العادية إلى قضايا أمنية  "Securitization Process"، وهو ما تم تطبيقة عملياً خلال الولاية الأولى والثانية للرئيس المصرى عبدالفتاح السيسي وتنوع الخطاب السياسي الأمنى ليشتمل على أمن الموارد وفى مقدمه ذلك "الأمن المائى" ومحاصر التهديدات النوعية لـ "سد النهضة". 

التصفير المائى

ثمة ملاحظة نوعية تُشكل الأساس المنهاجى للمنحنى التفاوضى لملف سد النهضة، حيث تسعى أديس أبابا لـ "التصفير المائى"، بمعنى أنها تعمل على خلق وفرض واقع إستراتيجي فى إطار من "الهيمنة المائية" يعجز معة المفاوض المصرى على خلق مساحات سياسية وتنموية مشتركة.

وبالنظر للإدارة الأثيوبية للملف المائى، نستطيع ان ننتهى إلى حقيقة مفاداها أن أديس أبابا تسعى سياسيا لاستغلال الورقة المائية لخلق حالة من "الهيمنة الهيدربوليتيكة"، وهو ما تم ترجمتة بإعلان اثيوبيا بناء ثلاثة سدود أخرى بخلاف سد النهضة، فضلا عن إعادة تعيينها للمواصفات الفنية لتلك السدود بدلا من 48 مليار متر مكعب إلى 200 مليار متر مكعب، وهو ما يشكل تهديدا جسيما على الأمن القومى المصري، فضلا عن التأثير السلبى على السدود الإثيوبية المقترحة، ومع هذا فإن إثيوبيا فى إطار من الآحادية السياسية تسعى لتغيير "المعادلة الهيدروبولتيكية" بتأكيدها على بناء هذه السدود دون النظر لحجم التحديات والتهديدات للدول الأخرى المشاركة فى حوض النيل. مستندة فى ذلك على الموائمات السياسية مع الجانب الأمريكي -  الساعى لإنجاز الوساطة الدولية  -  وذلك فى إطار الاستراتيجية الأمريكية المعروفة بــ "القرن الأفريقى الكبير"، أو ما يسمعى بـ "الأفريكان"، فضلا عن التشبيك السياسي والتنموى مع عدد من الفاعلين الإقليميين بما يضمن إنجاز ملف سد النهضة على نحو ما يُعرف بـ "التصفير المائى".

الجدير بالذكر، أن "سد النهضة" وفقاً للمواصفات الفنية المطروحة من الجانب الأثيوبى، فهو لا يمثل تهديدا للأمن القومى المصرى فقط بل يتجاوز هذا الأمر، خاصة عند ربط تلك المواصفات الفنية للسد بالاستراتيجية المطروحة عام 2002 والمعروفة بـ "وثيقة أثيوبيا"، والتى تنتهى إلى أن "مصر تشكل عائقا أمام التنمية الأثيوبية"، وهو ما يستلزم معه مراجعة هذه الاستراتيجية لمحاصرة التحركات الأثيوبية الرامية لتصفير الملف المائى وطرح أبعاد جديدة للعلاقات فى إطار من التسويات السياسية والتنموية والموائمات الأمنية لفرضية الأمر الواقع.  فعلى سبيل المثال: تنظر بعض دول حوض نهر النيل إلى "سد النهضة" على أنه قائم وفى إطار للتسوية.

تحديات قائمة

برغم توقيع "وثيقة مبادئ سد النهضة" عام 2015، والتي تتضمن 10 مبادئ أساسية تحفظ الحقوق والمصالح المائية المصرية. لتشمل على: "مبدأ التعاون، التنمية والتكامل الاقتصادي، التعهد بعدم إحداث ضرر ذي شأن لأي دولة والاستخدام المنصف والعادل للمياه والتعاون في عملية الملء الأول لخزان السد وتشغيله السنوي"، إلا أن الخلاف لا زال قائما رغم الاتفاقية، متمثلا فى ثلاث تحديات رئيسية تعوق فنيا "الحلحلة الشاملة" لملف سد النهضة، حيث: 

-       تحدى فترات الملء وسعة التخزين:  فثمة سجال دائر بين كل من أثيوبيا وأديس أبابا حول الجدولة الزمنية لفترات ملء الخزان، ففى الوقت الذى ترى مصر أن فترة ملء الخزان تحتاج من سبع إلى عشر سنوات لتفادى الخسائر المحتملة، تريد إثيوبيا ملء الخزان في ثلاث سنوات لتسريع تشغيل السد بسرعة، وتشغيل التوربينات الـ 12 بأقرب وقت ممكن من أجل توليد كميات كبيرة من الكهرباء وتصديرها إلى دول الجوار مثل السودان الذي تعاقد مع إثيوبيا بالفعل لإمداده بجزء من كهرباء السد بأسعار رخيصة.

 

-      تحدى الإدارة الهيدروليكية:  فلازالت أثيوبيا تتمسك برؤيتها الآحادية للمنظومة الهيدروليكية لإدارة سد النهضة، ففى حالة تشغيل أثيوبيا "السد" دون التنسيق المشترك مع "السد العالى" بمصر و"سدود" السودان، سيؤدى ذلك إلى خفض منسوب المياة أمام تلك السدود، وخاصة السد العالي، مما سيؤدي إلى انخفاض توليد الطاقة، وربما تدفق المياه الذي يحافظ على الحد الأدنى من حقوق مصر والسودان، وهو ما سيتم التأكيد على طرحة بجداول الاعمال للإجتماعات التفاوضية الجارية والمُقبلة.

-      تحدى الإلتزام بعدم الإضرار: إحدى إهم الإشكاليات تلك التى تتمثل فى الرفض الأثيوبى بالإرتباط بالأبعاد الديناميكية الفنية والهيدروليكية للسد العالى، لأن ذلك سيجبرها على الحفاظ على نسبة مياه مرتفعة أمام السد المصري وسدود السودان، وهذا سيؤخر عملية ملء البحيرة لدى إثيوبيا، وهو ما يزيد من حدة الأمر بالتوازى مع التخوف المصرى من انخفاض منسوب المياه لديها في سنوات انخفاض الفيضان، إذ ستزيد الأزمة في حال اقتطعت إثيوبيا جزءا من المياه دون ترتيبات مشتركة وتفاهمات متعددة حول قواعد الملء وسعة التخزين.

تحركات متنوعة

برغم ما تم تداولة عن فشل المفاوضات الفنية لسد النهضة وما حملة الرفض الأثيوبى للمقترح المصري بشأن إدارة السد هيدروليكياً من دلالات تؤشر نحو "التعثر السياسي"، إلا أن هناك نوعاً من المراهنة المصرية على حلحلة "الموقف الخلافي" وتجنب التداعيات السلبية لملف "سد النهضة" على الأمن المائى المصرى، فثمة تحركات متنوعة أُعيدت بلورتها منذ تسلم القاهرة رئاسة الإتحاد الأفريقي ومع بداية الربع الثالث من العام الحالى، فعلى سبيل المثال : "احتلت قضية سد النهضة الإثيوبي صدارة اهتمامات مصر خلال أعمال الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث كانت أحد محاور بيان مصر أمام الجمعية، والذي ألقاه الرئيس عبدالفتاح السيسي، ثم أصبحت في قائمة اهتمامات وزير الخارجية خلال لقاءاته على هامش أعمال الجمعية، وصولًا إلى محمد أبو العينين، الرئيس الشرفي للبرلمان الأورومتوسطي، رئيس مجلس الأعمال المصري الأوروبي. وهو ما يدفعنا بالتحليل نحو بيان جُملة التحركات المصرية على مختلف الأفرع النوعية والتى تهدف فى مجملها إلى هدفين، الأول يتمثل فى إعادة التموضع المصري بالقارة الأفريقية، بينما الثاني فيتمثل في إحتواء ومحاصرة ملف سد النهضة بنسخته الأثيوبية بإكتساب مزيد من الفاعلين ذو الثقل بالقارة الأفريقية، وهو ما يمكن إنجازة بالمشاهدات التالية: 

-      تحركات سياسية: ارتكزت بدورها على الأبعاد الدبلوماسية والتى إستهدفت تعزيز العلاقات الثنائية بين مصر وكافة الدول الإفريقية، خاصة دول حوض النيل ومنطقة القرن الإفريقي وهو ما انعكس على خريطة الزيارات الرسمية وغير الرسمية لدول القارة، فضلاً عن المشاركات الحاسمة فى مختلف فاعليات المنظمات الإقليمية الإفريقية والدفع بتفعيل عملية المراجعة الذاتية الطوعية للـ "الحوكمة الجيدة" والتي تشرف عليها آلية التقييم الذاتي التابعة للاتحاد الإفريقي، بالإضافة إلى إستضافة العديد من الفعاليات الإفريقية مثل "خلوة مجلس السلم والأمن الإفريقي" بالقاهرة، وخروج نتائجها على النحو الذي يعكس أهمية تفعيل بنية السلم والأمن الإفريقية وتعزيز الدبلوماسية الوقائية ونظم الإنذار المبكر.

               وكذلك استضافة مصر لمقر مركز الاتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية ما بعد النزاعات AUC-PCRD، وعقد ورشة عمل تحت عنوان "تفعيل سياسة الاتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية بعد النزاعات في منطقة الساحل: تحديد الخطوات المستقبلية"، وربط هذه الأنشطة بعملية المراجعة الشاملة لهيكل الأمم المتحدة لبناء السلام المقررة في ٢٠٢٠.

-       تحركات اقتصادية:  حيث إستهدفت بدورها التعاون البيني المشترك بالمجالات التجارية والاقتصادية، وقد انعكس ذلك بوضوح على نشاط المكاتب التجارية المصرية فى تعزيز فرص التبادل التجارى مع الدول الإفريقية، وتشجيع رجال الأعمال والقطاع الخاص على الاستفادة من الفرص التجارية والاستثمارية المتاحة فى إفريقيا، بالإضافة إلى توقيع الاتفاقية المنشئة لـ "منطقة التجارة الحرة الإفريقية القارية" في القمة الاستثنائية للاتحاد الإفريقي في مارس 2018، وإقامة منتدى الاستثمار في إفريقيا فى ديسمبر 2018.

كذلك، شاركت مصر بفاعلية فى قمة الإصلاح المؤسسي والمالي للاتحاد الإفريقي في نوفمبر 2018، وقمة الكوميسا الواحد والعشرين فى يوليو 2019 في نيروبى، وقمة منتدى التعاون الصين – إفريقيا فى سبتمبر 2018 في بكين، والاجتماع الوزارى لمؤتمر طوكيو الدولي للتنمية في إفريقيا "التيكاد" فى أغسطس 2019، واستضافة كل من المؤتمر السابع لوزراء التجارة الأفارقة بالقاهرة، والمعرض الأول للتجارة البينية الإفريقية فى ديسمبر 2018.

-      تحركات تنموية: وذلك بإطلاق عدد من برامج التعاون على المستويين الثنائي والإقليمي في مجالات الصحة والتجارة والاستثمار والطيران والثقافة، فضلا عن دعم عدد من المبادرات المصرية ذات الإنعكاسات التنموية، والتى فى مقدمتها "المبادرة المصرية الأفريقية للطاقة المتجددة، والمبادرة المصرية الأفريقية للتكيف مع المناخ"، بالإضافة إلى المشاركة المصرية بإنشاء السد التنزاني "ستيجلر جورج" لتعزيز أجندات التنمية بدول حوض نهر النيل، وذلك فى إطار المساعي المصرية لإستعادة "الدور والمكانة" في إفريقيا وتطويق النفوذ الإقليمي لأثيوبيا بالقارة.

لم تشتمل فقط التحركات التنموية السعى نحو إعادة هيكلة البنية التحية الأفريقية، ولكن إتجهت القاهرة لتفعيل أدوات"القوة الناعمة"، والإرتكاز على المحور الثقافى فى تقليل الفجوات بين مساحات الهوية الأفريقية، وذلك بإقامة معسكرات تثقيفية للقيادات الشبابية المصرية والأفريقية تستهدف الوصول إلى تصورات توافقية حول كيفية تفعيل الأهداف المشتركة بين أجندة إفريقيا 2063 ورؤية مصر 2030 .

-       تحركات أمنية: إنعكس ذلك على التنسيقات القارية المشتركة فى مجال مكافحة الإرهاب، وما إنتهت إليه مصر من إنشاء المركز الإقليمي لمكافحة الإرهاب لدول الساحل والصحراء.

كذلك، تم دعم مصفوفة الإرتباط الأمنى "أفرابيا" بين القرن الأفريقي وشرق أفريقيا وشبه الجزيرة العربية  إنطلاقا من القاهرة لموازنة المعادلة الأمنية بالبحر الأحمر، وهو ما تم ترجمتة بالرؤية الأمنية المصرية والمتمثلة فى الإستثمار فى الهياكل التنموية للدول المتشاطئة عليه، ففي مصر، تم ازدواج المجرى الملاحي لقناة السويس، واطلاق مشروع محور قناة السويس، وفي السعودية، الإعلان عن مشروع "نيوم"، بالإضافة لخطة الإستثمار المستقبلى فى الموانئ اليمينة عقب إستقرار الدولة.

-      تحركات إجتماعية وثقافية:  حيث تم بتنظيم عدد من القوافل الطبية للدول الإفريقية، فضلا عن دعم القدرات البشرية من خلال مضاعفة الدورات والبرامج التدريبية، وكذا المنح الدراسية التي تمنح للطلبة الأفارقة للدراسة في الجامعات المصرية، وإعداد سلسلة فعاليات ثقافية إفريقية عبر أجندة شهرية تؤصل وترسخ الهوية الإفريقية لمصر من خلال استضافة مهرجانات للسينما الإفريقية وإضفاء الطابع الإفريقي على الفعاليات الثقافية التي تنظمها مصر.

كذلك، استضافة مصر لملتقى الشباب العربي الإفريقي بمدينة أسوان فى مارس 2019، بالتوازى مع إستكمال المساعى المصرية لاستضافة "معمل الأمم المتحدة الأفريقى لرعاية الإبداع التكنولوجي"، لتعزيز قدرات الباحثين والعاملين بالمجالات التكنولوجية من مختلف أنحاء القارة الإفريقية على صياغة حلول تكنولوجية مبتكرة تساهم فى مواجهة التحديات العالمية، وتنفيذاً لأهداف الأمم المتحدة التنموية 2030 والأجندة الإفريقية للتنمية 2063، وهو ما تم ترجمتة بإعلان وزارة الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات عن مبادرة "أفريقيا لإبداع الألعاب والتطبيقات الرقمية" لتأهيل وتنمية قدرات 10 آلاف شاب مصري وإفريقي، وتحفيز تأسيس 100 شركة مصرية وإفريقية ناشئة في هذا المجال.

مسارات مُحتملة

§       المسار الأول - مسار التفاوض

               ما زالت القاهرة تتمسك بإنتهاج طريق المفاوضات، فرغم تعنت الجانب الأثيوبى لإنجاز ما ترنو إليه القاهرة فنيا فى تقاريرها الهيدرولوكية وما اطلق عليه بنظرية "الملء المرن" إلا أنه لازال هناك إتجاهات مختلفة لإنجاز ذلك الإستحقاق التنموى بما يتوافق مع إلتزمات شعوب حوض نهر النيل، وخاصة شعب دولتى المصب "مصر والسودان". وهو ما ستسعى القاهرة للتوصل بشأنه فى الإجتماعات المقبلة.

§       المسار الثاني - مسار التدويل

يستلزم ذلك المسار خلق رأي عام إقليمي وعالمي يسوق للآثار السلبية للسد، ولتعنت الجانب الإثيوبي وإصراره على موقفه الأحادي، وتكوين مصفوفة من الفواعل الأساسية إقليميا ودوليا لمقايضة سياسيات "سد النهضة" من خلال الحوار الاستراتيجي شريطة أن تكون أزمة سد النهضة أهم أولويات هذا الحوار.

               تأسيساً على ذلك، فقد بدأت القاهرة بالتحرك نحو عرض الملف ومناقشتة بأروقة المنظمات الإقليمية وفى مقدمتها جامعة الدول العربية، وكذلك الاتحاد الأوروبي، تمهيداً للجوء للاتحاد الإفريقي، ثم الأمم المتحدة، حيث تسعى القاهرة للحصول على تأييد إقليمي ودولي لإجبار إثيوبيا على احترام حقوق مصر التاريخية في مياه النيل. كما يمكنها حال تطور "النزعة التعنتية" إلى نقل ملف سد النهضة إلى مجلس الأمن الدولي، بدعم من الكويت العضو العربي فى المجلس، للمطالبة بموقف حاسم تجاه إثيوبيا.

§       المسار الثالث - الوساطة الدولية

وذلك باستغلال مصر لعلاقاتها مع بعض الدول العربية مثل السعودية والإمارات والدول الكبرى، مثل الصين وروسيا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية كوسيط رابع للضغط على إثيوبيا وإجبارها على احترام حقوق مصر التاريخية في مياه النيل وإنجاز تعهدات "إعلان المبادئ" الذى تم إقرارة فى 2015.  

فعلى سبيل المثال: هناك مبادرة أمريكية لإنجاز حالة الوساطة بين الطريفين المصرى والأثيوبي بالدعوة لعقد إجتماع فى 6 نوفمبر2019 القادم، وإن كان تلك الوساطة تستدعى العديد من علامات الإستفهام حول جدوى الوساطة، ومدى إمكانية التطرق من خلالها إلى المسائل الفنية، فضلا عن ماهيتها السياسية وذلك بالنظر للتصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الأثيوبى "آبى أحمد" خلال مشاركتة بالقمة "الروسية – الأفريقية" فى روسيا أكتوبر 2019

كذلك، نجد أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لديهما مصالح اقتصادية كبرى  وإستثمارات ضخمة مع إثيوبيا ويمكن استخدام مثل تلك الورقة الإقتصادية في الضغط لحلحلة الموقف المائى، كما يمكن لمصر استغلال علاقاتها القوية مع بعض الدول الإفريقية، مثل أوغندا والكونغو للضغط على الجانب الإثيوبي.

بالإضافة إلى التقارب المصرى مع المجلس العسكرى السودانى والتيارات السياسية السودانية مثل الاتحاد الديموقراطى وحزب الامة القومى، يمنح القاهرة ميزة تفضيلية تُمكنها من الضغط على السلطة السودانية من أجل اتخاذ موقف داعم للورقة المصرية فى مفاوضات سد النهضة. 

§       المسار الرابع  -  المسار القانونى: 

في حال استمرار تعثر المسار التفاوضى والمرواغة الحذرة دون الوقوف على محددات "تقرير إستهلالى" متفق عليه من الكافة، فقد يكون الحل فى تبنى المسار القانونى، وذلك باللجوء إلى محكمة العدل الدولية، إذ تنص القوانين الدولية مثل قواعد البنك الدولي على ألا تقوم دول منابع المياه بأحواض الأنهار بالتصرف بشكل منفرد، كبناء منشآت على مجرى المياه، أو أي إجراء من شأنه خفض نسبة المياه أو إيصالها لدول أخرى، وهذه الإجراءات خالفتها إثيوبيا، وهو ما ترسخ جليا فى تقرير لجنة الخبراء الدوليين الذي صدر في 2013 الذى يدين إثيوبيا بشدة لأنها تقوم بعمل سدود ومشروعات دون وجود دراسات جدوى حقيقية.

الجدير بالذكر، أن تشيكوسلوفاكيا قد تقدمت بشكواها ضد المجر في عام 1997 بمحكمة العدل الدولية، بعدما قامت المجر ببناء سدود بشكل منفرد في مياه نهر الدانوب، وقد حكمت المحكمة لصالح تشيكوسلوفاكيا بأن إجراء المجر غير قانوني.

فى النهاية..، 

وفقاً لتطورات هذه المعادلة الأمنية، فإنه في حال عدم التوصل إلى حلٍ وسط، فمن المُرجح أن تمضي إثيوبيا في طريقها إلى إنجاز مخططات السد وفق معدل "ثلاث سنوات" الذي وضعته لنفسها "بحلول عام 2022"، وفرض "سياسة الأمر الواقع" دون النظر للمصالح المصرية، وبغض النظر عن العواقب.

بالمقابل، ففى حالة فرض "سياسة الأمر الواقع"، فمن المتوقع لجوء القاهرة لإحدى المسارات التى تم ذكرها بداية من التحرك نحو حشد الدعم الإقليمي والدولي ضد إثيوبيا، خاصة في المحافل التي تمتلك بها "ميزة تفضيلية"، مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي بعد تولي مصر رئاسته، وذلك كمحاولة لإعادة إثيوبيا إلى حيز "إعلان المبادئ"، حيث يكون التفاوض على التفاصيل الفنية والهيدروليكية للسد وليس على وجود السد.

فضلاً عن ذلك، يتعين على القاهرة توظيف تقرير اللجنة الدولية لبحث آثار سد النهضة، والتحرك السياسى المكثف لخلق وحشد رأى عام عالمى وإقليمي، بالإضافة للتوظيف السياسى لورقة "بنى شنقول" والتحرك للحيلولة دون توفر التمويل اللازم للسد، وإعادة احتواء السودان، وتفعيل دبلوماسية المياه المصرية، وتفعيل آليات القوة الناعمة وترسيم مسارات توظيفها لأوراق الضغط السياسية.

يظل التحدي الرئيسي متمثلاً فى إذا ما إستمر التعنت الأثيوبى، وإستنفاذ القاهرة لمسارات التفاوض والتدويل والوساطة، فى تلك الحالة فمن المُرجح تقديم القاهرة مذكرة احتجاج إلى مجلس الأمن الدولي، و أخرى إلى مجلس الأمن الأفريقى فى إطار الاتحاد الأفريقى، بالإضافة إلى لجوء مصر لمحكمة العدل الدولية عقب الإعلان عن الإنسحاب الفردى من إتفاقية "إعلان المبادئ"، ليصبح مشروع السد برمته محل نظر من جديد، في ضوء الاتفاقات والأعراف الدولية المنظمة لحقوق الانتفاع من الأنهار الدولية المشتركة، وهو خيار يُجدر بطرحة حال تأزم الوضع حد الإضرار المتعمد بالأمن المائى المصرى.