المركز العربي للبحوث والدراسات : رسائل وملاحظات أساسية .. مستقبل الاحتجاجات في إيران (طباعة)
رسائل وملاحظات أساسية .. مستقبل الاحتجاجات في إيران
آخر تحديث: الأربعاء 20/11/2019 06:16 م
هاني سليمان هاني سليمان
رسائل وملاحظات أساسية

التظاهرات التي حدثت في إيران خلال أكثر من عقد ونصف، وإن اختلفت أسبابها وسياقها، تؤكد عجز نظام الثورة الإيرانية عن تحقيق أهداف وتطلعات المواطنين، وتحمل زوال شرعية الثورة الإيرانية بشعاراتها الجوفاء، ونخبتها السياسية العاجزة. ورغم ما تحمله مجمل تلك الاحتجاجات من معاني وسمات متشابهة، غير أن التظاهرات الحادثة حالياً في إيران تختلف عن سابقها – مظاهرات الطلبة في 1999، والتي حدثت في ٢٠٠٥ أو الحركة الخضراء في ٢٠٠٩، وتلك الاحتجاجات التي قامت نهاية 2017 وبداية 2018- في عدة نقاط:

خريطة التظاهرات: حيث امتدت التظاهرات لكافة المحافظات الإيرانية، بما يعطيها قدر من الانتشار والعموم، ويحمل دلالة رفض جموع الشعب لسياسات النظام، فقد طالت مدن مثل سيرجان ومشهد في الشمال، بيرجند في الشرق، بندر عباس في الجنوب، علاوة على مدن غشسارات، الأهواز، عبدان، خرمشهر، دماشهر في الجنوب الغرب، ومدن مثل شيراز، أصفهان، ..وغيرها. خلافاً لتظاهرات 2009 على سبيل المثال التي تركزت في أصفهان والعاصمة طهران، وكانت تمثيل لصراع قوى سياسية وأجنحة داخلية، بعكس مظاهرات اليوم التي نشأت عفوية وتحمل مطالب اقتصادية حياتية سرعان ما انتقلت لمطالب سياسية شعبية. وجدير بالملاحظة أيضاً أن التظاهرات طالت مدن تعتبر ذات مكانة وثقل للنظام، مثل مدينة مشهد التي تحظى بمكانة دينية ونفوذ رجال الدين. وسيطر المتظاهرين على طرق حيوية في طهران مثل طريق الإمام علي، وطريق حكيم، وشهدت مدن تحطيم مكاتب المرشد مثل شيراز والأهواز، ومكتب مندوب المرشد في أصفهان، علاوة على مهاجمة الحوزة الشيعية الزينبية في أصفهان.

وتعد تلك التظاهرات عابرة للقوميات، خلافاً لتظاهرات ٢٠٠٥، على الرغم من وجود حالة احتقان وتظاهرات في الأهواز نتيجة مقتل الشاعر العربي الأهوازي حسن الحيدري، غير أن ذلك لا تأثير له مقارنة بحالة التدهور الاقتصادي والسخط الشعبي الممتد عبر البلاد بشكل كبير، والذي طال جموع الشعب الإيراني الذي يعاني من انكماش الاقتصاد بنسبة 9% جراء فشل النظام في إدارة الأمور، وإعطاء الأولوية للخارج عن الداخل، حيث في ظل سياسة تقشفية تعج البلاد بالفساد، ودعم الملف الخارجي وتصدير الثورة بزيادة إنفاق الحرس الثوري 28%، ودعم النفقات العسكرية، علاوة على الأوضاع غير المنطقية للتنمية والعدالة، حيث يقع في اقليم الأهواز  حوالي 75% من الموارد والثروات في إيران، ورغم ذلك فهو يعاني من أقصى درجات التهميش والقمع والفقر.

الشعارات والأدوات: جملة الشعارات التي تحملها التظاهرات، والتي شهدتها تظاهرات نهاية 2018 وبداية 2019 أيضاً، تؤكد أن هناك ثمة تحول في مضمون ورؤية الشعب لطبيعة الأزمة وسلوك النظام، فقد باتت الشعارات عابرة للقدسية الدينية والزعامة السياسية المتمثلة في المرشد الأعلى، ورجال الدين، والقيادة الكاريزمية، فقد انتقلت الشعارات بشكل كبير رافضة لسياسات المرشد والرئيس والحرس الثوري، ومنتقدة سياسات الدولة في الخارج، والمطالبة بإسقاط النظام والموت للمرشد وهو ما يشكل انقلاب على كافة الثوابت والقوالب الجامدة والجاهزة.

كما تشهد التظاهرات تطور ميداني ذاتي من حيث الأدوات والابتكار الاحتجاجي، على مستوى الشعارات، وأيضاً مستوى المواجهة بحصار أحد مخازن النفط، علاوة على الابتكار وتنويع أدوات المواجهة من قطع الطرق الرئيسية إلى الإضرابات العامة في المصانع والجامعات، بحيث تشكل خليط مجتمعي من الطلاب والعمال والشباب، وهو ما ظهر في إعلان طلاب مدينة سنندج الإضراب بكردستان غرب إيران.

عفوية التظاهرات وغياب القيادة: تحمل التظاهرات الطابع العفوي، فهي بلا قيادة سياسية، ولا تعكس تمثيل لخلافات أجنحة النظام وصراع الداخل. وإن كان البعض يعتبر ذلك نقطة سلبية، غير أنها تحمل إرباك للنظام، الذي يواجه الشارع، ولا يحمل فرصة للوصول لاتفاق وتكيف سياسي مع قادة بأعينهم

تتويج لخارطة واشنطن وثمار لفلسفة "بومبيو - بولتون": مع قدوم ترامب للحكم، كان هناك رؤية واضحة من إدارته، وبخاصة مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، وويز الخارجية مايك بومبيو، تعتمد على فكرة العقوبات الاقتصادية، والعزلة السياسية، بهدف تقويض قدرات طهران داخلياً، وتحجيمها خارجياً، بما يفضي في النهاية بتحقيق أولوية تحقيق "الانفجار من الداخل، نظراً للتكلفة الكبيرة وغير المحسوبة للدخول في مواجهة عسكرية مع نظام الملالي. وقد أسفرت تلك الفلسفة عن استهداف قطاعات حيوية لطهران، مختلفة عن أية عقوبات سابقة في حدتها وتأثيراتها، مثل قطاع النفط، البتروكيماويات، المعادن، والبنوك والمصارف، وغيرها، وهو ما أدى لنتائج كارثية على النظام من خروج أكثر من 100 شركة في إيران، وانسحاب 35 دولة ووكيل مستورد للنفط، وتراجع إنتاج النفط لحوالي 500 ألف برميل بدلاً من 2 مليون برميل، علاوة على وضع حوالي ألف شخصية على لائحة العقوبات، وهو ما كرس من الأزمة ووصول حوالي نصف الشعب الإيراني تحت خط الفقر، وارتفاع البطالة حوالي 35%، ووصول نسبة التضحم لدرجات غير مسبوقة. فالحالة الموجودة الآن هي بعض نتاج فساد النظام وفشله، علاوة على نجاح استراتيجية واشنطن في الضغط على طهران.

إيران ومجتمع المخاطر العالمي: ما يحدث في إيران هو ترجمة عملية لما تحدث عنه المفكر الألماني أولريش بيك وأسماه مجتمع المخاطر العالمي Global Risk Society، حيث أكد على أن ما يهدد النظم السياسية الآن، ليس التحديات التقليدية من الحروب والمواجهات التقليدية، وإنما الخطر الحقيقي يتمثل في زيادة معدلات الفقر والبطالة، وهي المخاطر الأساسية والأهم والتي ربما تفضي لضغوط على النظام تفوق آثار التحديات التقليدية، وفي طهران هناك تطبيق لهذا المبدأ بشكل كبير، بحيث يعاني أعلى درجات المخاطر، والتي تسبب فيها النظام بشكل كبير.

سيولة وذوبان الحدود ، النظام وإشكالية الداخل والخارج: تأتي تلك التظاهرات في إطار مغاير، من حيث بيئة وحجم التحولات الإقليمية والدولية، وأثر العقوبات الاقتصادية الغير مسبوقة، علاوة على حالة العزلة السياسية المفروضة على طهران. والأهم، هو حالة تطويق طهران احتجاجياً في لبنان والعراق، وهو ما يدل على رفض السلوك الإيراني شعبياً، وهذا هو الأخطر. وأيضاً إكساب تظاهرات إيران زخم ونقل حالة من العدوى والجرأة لمتظاهري الداخل. وهذا الوضع يؤكد على أن ما يحدث في بيروت وبغداد يحدث تصدع في طهران، وما يحدث في طهران سيكون له انعكاسات على نفوذ إيران في اليمن وسوريا وكافة الاقليم بالتأكيد، في حالة "تطويق" مفاجئة ربما تعصف بثوابت لدى النظام.

مستقبل التظاهرات: تتميز التظاهرات الحالية بأنها قابلة للاشتعال والاستمرار لفترة، نتاج سياسات النظام في قمعها، واستخدام العنف المفرط، من خلال استخدام الحرس الثوري، والباسيج، وقوات مكافحة الشغب، وهو ما أفضى لوفاة أكثر من 106، وهو ما سيأتي بمردود عكسي على النظام. كما إن تلك التظاهرات تحمل خطرا مضاعفة حيث أنها طالت مدن حدودية مع العراق مثل مدينة العمارة، والشيب. إن خطر تلك التظاهرات يعتبر مركب ومعقد للنظام، الذي أضحى تقديره ووزنه الأمور غير مناسب تماماً، ويشكل تهديد مباشر له خاصة في ظل حالة الرعب التي يعيشها في تظاهرات لبنان، والعراق، وحالة الحصار الشعبي له في الداخل والخارج. وأيضا في ظل التوصل لاتفاق الرياض في اليمن، وهو ما يؤسس لتوحيد الجبهة ضد جماعة الحوثيين إحدى أذرع إيران في اليمن. وهو ما مرشح لفتح جبهة رفض سياسي لها في سوريا على اعتبار حالة الرفض لسلوك إيران في "ملشنة" سوريا في حلب والبوكمال أذرع بذور طاءفية في سوريا على التغيير الديموغرافي. في ظني أن طهران في اختبار شديد الصعوبة، لم تتعرض له من قبل، وكافة السيناريوهات مفتوحة، والمؤكد إنها لن تخرج منه كما ذي قبل.

                كما أن حديث أعلى قيادة سياسية وهو المرشد الأعلى ليصف التظاهرات بأنها مؤامرة وتخريب وشغب، وأنه لا رجوع عن قرار زيادة أسعار الوقود، وهو ما جعل البرلمان يسحب مشروع قانون مقترح للعودة عن قرار رفع الأسعار، وهو ما جعل علي لاريجاني رئيس البرلمان في موقف حرج في مواجهة بعض النواب وجموع الشعب، ويؤكد عدم اكتراث النظام بمصلحة الشعب، ويؤكد استمرار سوء التقدير السياسي والحكمة في تقدير الموقف، وهو ما يجعل الباب مفتوحاً بشكل كبير أما تطور الأمور، وخاصة مع مقتل عناصر من الشرطة في المواجهات في مدينة كرمانشاه، وهو ما يفسر لجوء القوات فيها لاستخدام الرصاص الحي.

                الموقف الدولي سيكون له أثر كبير بدخول الأمم المتحدة على الخط ورفض استخدام القوة ووصف السلوك الإيراني بأنه خرق للقانون الدولي، وطالب النظام بعودة الانترنت، فيما رصدت منظمة العفو الدولية انتهاكات النظام لشعبه ومقتل 106 في 21 مدينة، وهيومان رايتس ووتش التي وصفت الممارسات الإيرانية بالدموية، علاوة على تصريح روبرت كولفيل المتحدث باسم المفوضية العليا لحقوق الإنسان بأن الوضع مقلق وصعب للغاية، في ضوء أيضاً متابعة مؤسسات دولية مثل نت بلوكس والتي رصدت انقطاع الانترنت بالكامل حيث بات حجم الوصول للخدمة في إيران 4%. ليس ذلك فقط، ولكن ما حدث من وجود مظاهرات داعمة للحراك في فرنسا، إيطاليا، وهولندا، ربما يسفر عن وجود تحركات مشابهة في عدة دول وهو ما سيشكل تطويق كبير لطهران.

                الوضع صعب للغاية ولا يمكن مقارنته بذي قبل، خاصة في ظل استمرار النظام في حالة الانكار، والاستخدام السياسي للدين وتشويه المتظاهرين على أنهم أحرقوا مسجد، والإعلان عن القبض على خلية تابعة لدولة خليجية، وفي ظل تصريح خامنئي أن ما يحدث هو عملية أمنية لا يقوم بها الشعب، في تجاهل تام لمشروعية ومحاولة صحيفة كيهان المطالبة بإعدام المتظاهرين، وأيضاً في ظل عدم قدرة القوات على مواجهة الغاضبين خاصة في المحافظات النائية، وهو ما جعل النظام يستعين بقوات من ميليشيا فاطميون، وعناصر من الحشد الشعبي العراقي الذي أنشأته طهران في بغداد ليكون ذراع ليها.

ما سيحسم الأمر هو أولاً قدرة التظاهرات على الاستمرار والزخم المتسارع والحشد ونقل صور واقعية في ظل تحدي انقطاع الانترنت، ثانياً مدى قدرة أدوات النظام وفاعليتها على الاحتواء، ثالثاً، ما سيحدث في لبنان والعراق سيكون له أثر كبير ومباشر في طهران، والعنصر الرابع هو المجتمع الدولي والضغط على النظام وتعقبه.

إن عملية الاحتجاج في إيران هي عملية تراكمية، وبالتالي هي ربما تؤسس لمرحلة أخرى أكثر فتكاً، وربما تشهد تنظيم تلك الاحتجاجات وخلق قيادة لها، وهو ما سيكون ذو أثر أسوأ، وإذا كان سقوط النظام مؤسسياً هي عملية غير مؤكدة بع، فإن الأمر الأكثر وضوحاً هو أن النظام سقط شعبياً، وهذا هو الأهم وبداية النهاية.