المركز العربي للبحوث والدراسات : علاقة الدولة بالمجتمع في المنطقة المغاربية .. قراءة في الحالة التونسية (طباعة)
علاقة الدولة بالمجتمع في المنطقة المغاربية .. قراءة في الحالة التونسية
آخر تحديث: الثلاثاء 31/03/2020 07:31 م
كعبوش الحواس كعبوش الحواس
علاقة الدولة بالمجتمع

مقدمة

                تشهد المنطقة المغاربية العديد من التحديات التي فرضت على الساحة الداخلية للوحدات المشكلة للنظام الإقليمي المغاربي بفعل طبيعة تركيب هذه الوحدات ونشأتها، وبفعل طبيعة العلاقات التي تربط الدولة في المنطقة المغاربية بمجتمعها والتي تعيق عملية التنمية والتطور الحضاري، ذلك أن العديد من الطاقات تستنفذ في هذه العلاقة بدل أن تصرف في مجال التنمية والبناء، فلا يمكن الحديث عن تحول سياسي وديمقراطي دون وجود قدر من التكامل والتفاعل بين الدولة وأجهزتها والتنظيمات الاجتماعية التي تحاول تحقيق الظبط الاجتماعي في حيز الدولة،  وعلى العموم أدت التحولات التي شهدتها المنطقة في السنوات الماضية، إلى رسم ملامح جديدة لهذه العلاقة يكون فيها المجتمع  متغيرا مستقلا.

الإشكالية:  في ظل التطورات التي شهدتها الدولة المغاربية في مراحل تطورها، وفي ظل التحولات التي شهدها الإقليم المغاربي، ما هي حدود التفاعل بين الدولة والمجتمع في المنطقة؟

1.     في قيام الدولة في المنطقة المغاربية

      الدولة العربية بشكل عام والمغاربية بشكل خاص دولة حديثة التكوين قامت عبر تبني نموذج الدولة القومية الغربية "دولة واستفاليا"، ولم تتم وفق مقاييس التطور والتراكم الذي قامت عليه في أوربا، أين مثلت الدولة العربية الحديثة منذ نشأتها على يد محمد علي باشا في مصر، خليطا من المكونات والأنماط التي انتمى بعضها إلى مرحلة ما قبل الدولة، ما جعلها تعطل أي تطور جوهري في البنى السياسية والثقافية الحاكمة لمعطيات العملية السياسية(1)، حيث أن هذه المعطيات التي تكونت النخب السياسية في ظلها فظلا عن ضعف شرعيتها أو تلاشيه جعلها تدعم هيمنتها على المجتمع، وعليه بتتبع مسار الدولة في المنطقة المغاربية وعلاقاتها ببيئتها الإجتماعية تتبين هشاشة الدولة وعدم استقرارها ففي أي أزمة أو صدام يشهده المجتمع تبدأ الدولة في فقدان سلطانها السياسي وتستفحل أزمتها وتفقد تماسكها ووظائفها(2)، وقد تنهار في وجه القوى الاجتماعية التي تحاول فرض ضغوطاتها على أجهزة الدولة، حيث شهدت الدول المغاربية منذ استقلالها في مرحلة خمسينيات وستينيات القرن الماضي العديد من صور الضغط الاجتماعي بسب فقدانها لأسس الشرعية الديمقراطية والشعبية ولجوئها للقوة والاستبداد لتثبيت سلطتها على المجتمع، فلم تتشكل وفق العلاقة التعاقدية بينها وبين المجتمع الذي قامت فيه كما لم تراعي خصائص ومكونات هذا المجتمع، حيث أن تزامن قيام الدولة الحديثة في أوربا مع إصلاح علاقة السلطة بالمجتمع وفق ما اصطلح عليه بالعقد الإجتماعي، أين تصبح الدولة وعاءا لحماية المجتمع تستمد قوتها من حماية مصالح الجماعة البشرية التي تشكلها، يكون فيها المجتمع قائما على محورية مسألة الفرد المواطن، فالعقد الإجتماعي يضمن تنازل الجماعة عن جزء من حقوقهم لصالح جهة معنوية تضمن حماية حقوق الفرد في حالة نشاطه داخل الجماعة.  

                 قامت الدولة الحديثة بتونس مع حصولها على الاستقلال في 20/03/1956، وأكد قادة حزب الدستور الجديد بعد تولي السلطة تبنى النموذج العلماني الليبرالي كنموذج تتبناه الدولة، وقام الرئيس الحبيب بورقيبة باعتماد نظام رئاسي يعطي صلاحية كبيرة للرئيس(3)، وبالتالي قيام دولة تسلطية التي تتجاوز فيها صلاحيات الرئيس كل الحدود وتختزل الحياة السياسية في شخص الرئيس، وهو ما كرّسه كذلك نظام زين العابدين بن علي منذ توليه السلطة سنة 1987(4)، فغياب الشرعية والقاعدة الشعبية جعل من الحياة السياسية حكرا على طبقة معينة وفي خدمة مصالحها، وهذا بالتزامن مع تدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية، ما أدى لبروز أشكال من العنف المجتمعي الذي مارسته قاعدة شعبية على أشكال التعسف الذي مارسته السلطة على المجتمع و انفجار الوضع 17 ديسمبر 2010 والتي انتهت في/01/ 14 2011 بتخلي الرئيس زين العابدين عن الحكم وسقوط نظامه. فالإنسداد السياسي الذي قاد إليه النظام التسلطي الذي احتكر المجال العام ومنع الحراك الإجتماعي من التعبير عن نفسه (5)سياسياً وبالطرق السلمية والمدنية أدى إلى قيام العنف المجتمعي وتبني نمط الثورة على الوضع القائم وقيام القوى الإجتماعية بممارسة الضبط الإجتماعي وفرض نفسها داخل الدولة.

                فالدولة في المنطقة المغاربية على هذا الحال تعاني من العديد من المشاكل في بنيتها التأسيسية، أين تصبح مصدر للتناقضات داخل المجتمع بفقدانها خاصية فرض النظام وممارسة الإكراه المادي المشروع  وفق الضوابط التي تحكمه، وبالتالي تشكل تهديدا على استمرار المجتمع وأمنه، هذا ما سيؤدي إلى قيام المجتمع بمحاولة تصحيح علاقته بالدولة باعتبارها منظمة مركزية هدفها تنظيم المجالات متعددة للعلاقات الإجتماعية، وعليه تبرز مشكلة الدولة في المنطقة من خلال :

-         فقدان الشرعية الديمقراطية والشعبية أين نجدها تلجأ للعنف والإستبداد لتثبيت سلطانها في المجتمع كبديل للشرعية التي تفتقر إليها.

-         مركزية السلطة أين نجد السلطة مركزة في طبقة معينة لتصبح الدولة أداة في يد فئة معينة لخدمة مصالحها الخاصة.

-         غياب المشاركة والتعددية  تهميش دور القوى الإجتماعية حيث يتم اختزال الحياة السياسية في تنظيمات السلطة دون إشراك بقية مكونات المجتمع.

v   دوافع تشكل العنف السياسي الشعبي في تونس:

   أدت الأوضاع الداخلية في الساحة التونسية وتراكماتها التاريخية إلى بروز ملامح العنف السياسي الشعبي الذي أخذت بوادره تتشكل منذ المراحل الأولى لقيام الدولة التونسية الحديثة والتي إن لم تظهر بما ظهرت عليه مع سنة 2011 إلا أنها كانت قائمة لكن السلطة تمكنت من تجنبها من خلال شبه الإصلاحات التي كانت تتبناها كلما برزت ملامح الغضب داخل فئات المجتمع، وفي الحالة التونسية فقد أخذ العنف السياسي الشعبي شكل الإنتفاضة الشعبية ضد النظام السياسي القائم، وتعود أسباب العنف السياسي الشعبي إلى الأنماط التسلطية التي تبناها النظام إضافة إلى تردي الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية، وبشكل عام تبرز أزمات الدولة في تونس من خلال:

-         أزمة الشرعية: أين لجأ النظام السياسي إلى تثبيت تواجده في السلطة منذ الاستقلال والارتكاز على القوة والسيطرة كبديل للشرعية التي يفتقدها.

-         أزمة التشاركية: حيث غابت ملامح التعددية والمشاركة السياسية للأحزاب السياسية وممثلي المجتمع في الحياة السياسية

-         أزمة توزيعية: أين تغيب العدالة التوزيعية للثروات على مستوى المجتمع وتركزها في فئات قليلة.

-         أزمة هوية: أين تم الإنسلاخ عن المقومات الرمزية للمجتمع التونسي وتبني النمط الليبرالي العلماني بما يتعارض مع المقومات الحضارية للمجتمع التونسي. ما جعل من الدولة هي المحرك الرئيسي للحياة الإجتماعية وتهميش دور المجتمع في هذه العملية. ( الدولة الأمة، القطرية، ...

مجموع هذه الأزمات شكلت نوع من القطيعة بين الدولة والمجتمع، وكذا عائق أمام تغلغل الدولة في مجتمعها، هذا السياق أدى إلى تشكل رفض مجتمعي لتهميش المجتمع وممارسات السلطة السياسية وبالتالي قيام انتفاضة سنة 2011 لمحاولة تصحيح العلاقة الثنائية بين الدولة والمجتمع التونسي.

2.     حدود التفاعل بين الدولة والمجتمع في تونس

                أفرزت التحولات التي شهدتها المنطقة بروز دور المجتمع في التأثير على الدولة وذلك من خلال بروز فواعل مجتمعية تمكنت من فرض بعض التحولات على طبيعة العلاقات التي تسير النظم الحاكمة في المنطقة، ففي تونس كان التغيير الذي انطلق من المجتمع منظما من قبل الفواعل المجتمعية، حيث أن التحولات التي برزت على الساحة التونسية بعد مارس 2011 تميزت بتأثير الفواعل المجتمعية والمتمثلة في تنظيمات المجتمع المدني وكذا الأحزاب السياسية، هذه التحولات جعلت الدولة تعود إلى المجتمع في حركة التحول الذي شهدته بعد القطيعة التي كانت بينها وبين المجتمع منذ تأسيس الدولة الحديثة.

v   دور المجتمع المدني التونسي:

                بسبب الانفتاح الذي قام به الحبيب بورقيبة عرفت مؤسسات المجتمع المدني نموا وانتشارا مقارنة ببقية الدول في المنطقة حيث استفادة تونس من تحسين المجتمع في الجوانب الإجتماعية والثقافية والإقتصادية، بالإضافة إلى تقوية دور المرأة التونسية. وبناءا على هذا فإن مؤسسات المجتمع المدني استفادة من تجاربها السابقة مع المجتمع السياسي الذي كانت تهيمن عليه السلطة الحاكمة، وتميزت مؤسسات المجتمع المدني بعد قيام الانتفاضة التونسية بضمان استقلالها عن الجهات الرسمية للدولة ورفعها لمطالب معتدلة(6)، وأصبحت هذه المؤسسات آليات لتجييش المواطنين باتجاه التغيير الذّي بُني على تراكمات واحتقانات ناتجة عن ممارسات خاطئة وسياسيات غير قويمة انتهجتها السلطة الحاكمة، وبحكم أنّ معظم منظمات المجتمع المدني القائمة منظمات حقوقية، فقد سعت إلى تعريف المواطنين بحقوقهم المنتهكة، وحثّهم على نيل حقوقهم.(7)

                تنظيمات المجتمع المدني كان لها دور مهم في الحدّ من توغل الدولة وتغوّلها، كما مهدت من خلال برامج التدريب وورش العمل والأنشطة الثقافية والمعرفية والميدانية والإعلامية لعملية التحوّل الثوري وعملت على تهيئة الرأي العام باتجاه رفض القهر والاستغلال من أجل حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي وغيرها.(8) فنجد التنظيمات الاجتماعية قد لعبت دور التأطير لانتفاضة المجتمع التونسي وعملت على تنظيمه وتنظيم مطالب المجتمع بما سمح بتحقيق العديد من المكاسب على الواقع دون الانزلاق في مسارات العنف الذي شهدته بقية دول الحراك العربي.

                تزايد عدد منظمات المجتمع المدني بعد نجاح الحراك الشعبي، ووصل عدد الجمعيات في سبتمبر 2011 حوالي 9724 جمعية، حيث شهدت تنوع الجمعيات من حيث النوع والاختصاص، كما عملت الحكومة على حماية نشطاء المجتمع المدني وتحرير الجمعيات من فكرة الرقابة على النشاط أو التمويل،(9) سمح هذا التنوع والفاعلية في أداء جمعيات المجتمع المدني في العمل على إنجاح عملية التحول السياسي، أين لعبت دورا مهما خلال انتخابات 2011، عبر مراقبة سير العملية الإنتخابية، رغم أن تجربتها في هذا المجال كانت محدودة، وتميز عمل هذه المنظمات بالجدية في تطبيق المشاريع الخاصة بمراقبة الإنتخابات، وفي العمل الميداني والتواصل مع المواطنين، وفي التنسيق مع هيئة الانتخابات في إطار ما تخوله لها من صلاحياتها.(10)

                 تحولت منظمات المجتمع المدني إلى فاعل في الحقل التونسي حيث تم تعيين وزير في الحكومة مكلف بـ"الصلة بالمؤسسات الدستورية والمجتمع المدني" في جانفي 2015، فمؤسسات المجتمع المدني وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان كان لها دور كبير في المرحلة الانتقالية التي مرت بها تونس، حيث عملت على تقريب وجهات النظر بين الأطراف السياسية والعمل على ايجاد نوع من التوافق بين هذه الأطراف لتأسيس الحكومة.

v   الأحزاب السياسية:

                كرّس النظام السياسي التونسي منذ الاستقلال احتكار النشاط السياسي من قبل حزب الدستور الجديد والذي كان حزب السلطة منذ استقلال تونس، فشهدت تونس تغييبا للعمل الحزبي في السلطة السياسية إلى غاية سنة 1981 أين تم إقرار التعددية الحزبية وفق ضوابط وشروط تجعل من الأحزاب أحزابا شكلية فقط لا يمكنها الوصول للسلطة،(11) في هذه المرحلة تم تأسيس أحزاب ممثلة للتيارات الماركسية والليبرالية وكذا للتيار الإسلامي وقد شدد النظام الرقابة على الأحزاب ومناظليها كما حضر بعض التنظيمات الحزبية الإسلامية والإشتراكية، بسبب هذه الظروف كانت أحزاب المعارضة مغيبة نوعا ما من التحولات السياسية التي قادتها الطبقة الإجتماعية، حيث أن الأحزاب تفاجئت الأحزاب المعارضة من تنحي الرئيس بن علي عن السلطة لتدخل التيارات السياسية في مسار من التجاذبات حول بنية النظام والسلة السياسية،(12) وفي المرحلة الإنتقالية تم الاتفاق على صياغة دستور توافقي يجمع في إطاره الأغلبية الساحقة من النخب والأحزاب التونسية المختلفة، وتمكن حزب النهضة من الفوز بانتخابات المجلس التأسيسي و تشكيل حكومة توافق تقود المرحلة الإنتقالية.

                رغم تعدد الأحزاب التي تشكلت أواخر سنة 2011 إلا أن الشارع التونسي ظل منقسما بين تيارين أساسيين هما التيار الإسلامي والتيار الليبرالي والتقدمي،(13) وتمكن التيار الليبرالي الممثل من قبل حزب نداء تونس بالفوز في الانتخابات الرئاسية سنة 2014 برئاسة الباجي قايد السبسي، وبلغت نسبة المشاركة في الاقتراع 60.11 % من إجمالي الناخبين الذين يحق لهم التصويت، وتحول الصراع إلى داخل الحزب القائد حول القيادة.(14) أثبتت هذه المرحلة للأطراف الخارجية، إمكانية التوافق بين الإسلام والديمقراطية التي كانت قد شكّكت في إمكانية التوصّل إلى معادلة ترتكز على تحقيق التوافق في هذه العلاقة  أين دفعت التجربة التونسية الأطراف الدولية إلى تعديل موقفها، وإن بشكل مؤقّت وبراغماتي كما ساهم تنحي حزب النهضة في رسم صورة حزب يؤمن بالتداول السلمي على السلطة.(15)

                مما سبق يتضح اتجاه تصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع وتكييف هذه العلاقة على أساس الديمقراطية من خلال قوى مجتمعية تعمل على ممارسة الضبط الإجتماعي في حيز الدولة، وإن كانت بشكل محدود. بالمقارنة مع المسارات الإنتقالية التي شهدتها الدول العربية، تبدو تونس وكأنها قطعت الأشواط الأكثر تعقيدا وأنها في طريقها إلى إعادة تسوية العلاقة بين الدولة وبيئتها الإجتماعية. فهي تمتلك كل المقومات لتحقيق هذا الإنجاز التاريخي، وقد سلكت إلى ذلك طريقا يبدو إلى حد الآن سليما في خطه العام،(16) بتبني المجتمع لحركة التغيير وامتلاكه قدرا من الرقابة على أجهزة الدولة.

                الحراك الذي عرفته المنطقة يؤرخ لمرحلة جديدة في العلاقة بين المجتمع والدولة، يعاد الاعتبار فيها للمجتمع كمتغير مستقل ومهم في علاقته بالدولة، وبرغم حالة الجدل التي تثيرها التجارب العربية حول ما إذا كان ما يحدث في هذه الدول ثورات اجتماعية حقيقية، أم مجرد مطالب إصلاحية ، فإنها في جوهرها تحمل محاولة من هذه المجتمعات لإعادة النظر في طبيعة العقد الإجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الفرد والدولة، وبين المجتمع والدولة.(17)

3.     رهانات علاقة الدولة بالمجتمع في المنطقة المغاربية

                علاقة الدولة بالمجتمع علاقة حضارية مركبة، تحكمها ثنائية الاتصال والانفصال وهي ثنائية مرنة غير جامدة، يؤثر كل بعد في الآخر ويتأثر به ضمن نمط تبادلي، يعتبر العنصر الثوري فيها فاعلا محددا لأطراف العلاقة، وهو عنصر ضمن مجموعة عناصر أخرى قد تضم القوى الدافعة والقوى الكابحة للثورة بالإضافة إلى طبيعة موازين القوى وإستراتجيات الفاعلين من قوى سياسية ومدنية وشبابية وحتى خارجية  في الانتقال الديمقراطي والتحول الثوري.

                يقدم جويل ماجدال (Joel S. Migdal) تصنيفه للدولة القوية في مقابل الدولة الضعيفة في ضوء علاقتها بالمجتمع، فالدولة القوية حسب طرحه هي ذات التغلغل في مجتمعها، وتكون قيمها السياسية والاقتصادية في خدمة مجتمعها، إذ تعلى فيها قيم المواطنة والتضامن والثقة بين مختلف مكونات المجتمع، كما تعلوا في هذا المجتمع الروابط الأفقية القائمة على القواسم الفكرية والسياسية المشتركة والمؤطرة في الأحزاب السياسية وتنظيمات المجتمع المدني، وتتكامل فيه تنظيمات المجتمع مع الدولة في تحقيق أهداف المجتمع ومصالحه، في المقابل فإن الدول الضعيفة هي العاجزة عن تنمية مجتمعها وتحقيق مصالحه،(18) وبالتالي ينبغي أن يمتلك المجتمع مصفوفة من المقومات الثقافية والسياسية تجعل منه فاعلا يمنع تغوّل الدولة وابتلاعها له.

                وإن كان جويل ماجدال  نفى إحتمالية قيام المجتمع القوي الذي ينتج الدولة القوية في العالم الثالث فإن التحولات التي شهدتها تونس في السنوات القليلة الماضية قد أعادت الاعتبار للبعد المجتمعي كمتغير مستقل وفي علاقته بالدولة،(19) ما فتح المجال لتطوير علاقة الدولة بالمجتمع في المنطقة.

ولإعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع في المنطقة المغاربية، فإنه يمكن الإستناد على الأبعاد التالية:

-         إنجاز تسوية حضارية بين الدولة والمجتمع في المجال العربي والإسلامي، باعتبارها قضية أساسية في تحقيق نهضة المنطقة تتكامل فيه الدولة والمجتمع في الوظائف والأدوار، بما يوقف هجرة الأدمغة والطاقات وتوظيف القدرات في مشروع متكامل.

-         بلورة نمط حضاري يضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، يركز على التكامل والتفاعل لا على الصدام والقطيعة، وهذا من خلال أبعاد المشاركة والتفاعل.

-         بناء تعاقدية جديدة بين الدولة والمجتمع، تشمل متطلبات المجتمع الحضارية والسياسية، وتحترم ضرورات الاستقرار، وهذا يعني عقد سياسي جديد يربط قوى المجتمع ومؤسسات الدولة.(20)

هذه الأبعاد تسمح بإنجاز المصالحة الفكرية والسياسية والحضارية على حد تعبير المفكر المغربي أبو زيد المقرئ الإدريسي، أين بدون هذه المصالحة تبرز الإنتماءات الفرعية والتي تؤدي أدوارا مقلقة، تعيد معها مضامين العصبية القبلية التي تدمر محاولات البناء الحضاري في المنطقة.(21)

خاتمة

                يركز هذا المدخل على الفرد باعتباره فاعلا في التغيير الحضاري، وعلى المجتمع كمدخل لتحقيق النهضة والتنمية، التي تمكن من تحقيق الربط بين نشاط الفرد والمجتمع في حيز الدولة، وكذا ضمان استقرار العلاقة التي تحكم الطرفين وتصحيح الخلل الذي ميز هذه العلاقة على مر العقود، فمن الضروري العمل على تقويم هذه العلاقة وتجاوز معادلة "مجتمع ضعيف ودولة متغولة"، هذا الطرح سيمكن من رفض الإستنساخ للنموذج الأوربي ( ولا نقصد هنا رفض النماذج الغربية أو رفض التعلم من التجارب التي عرفتها مختلف الشعوب، وإنما الاستفادة من هذه التجارب مع مراعاة خصوصيات المنطقة) وفتح المجال أمام بناء نموذج ذاتي تجديدي نابع من خصائص المنطقة وتراثها الحضاري وفق طرح إسلامي تجديدي -مالك بن نبي- مع الاستفادة من النجاحات التي حققتها بقية التجارب خارج المنطقة، لتحقيق مطامح أمة تنشد مكانة لائقة في التاريخ.

الهوامش

1)      أحمد بعلبكي وآخرون، جدليات الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة  في الوطن العربي ط 1. (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: الدوحة، 2014) ص 51

2)      بلقزيز، عبد الإله. الدولة والمجتمع جدلية التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، ط 1. الشبكة العربية للأبحاث والنشر: بيروت، 2008 .

3)      اشكالية بناء الدولة في المغرب العربي، ص 126.

4)      هيكلية التحول الديمقراطي في تونس، ص 32.

5)      بلقزيز، عبد الإله. ص 65.

6)      عبد الوهاب بن خليف، "دور المجتمع المدني في عملية التحول الديمقراطي في تونس"  مداخلة ضمن الملتقى الوطني حول المجتمع المدني والتطور السياسي بالمنطقة المغاربية، الجزائر: فندق الأروية الذهبية، 7/8 ديسمبر 2011، ص ص 134-135.

7)      ماجد سراج، منظمات المجتمع المدني والثورات العربية .. من يؤثر في الآخر؟ ، مركز سبأ للدراسات الإستراتيجية، 18 ، أكتوبر 2011 ، ص: 02 .

http://shebacss.com/docs/PolicyAnalysis/scssapa024-11.pdf

8)      المرجع نفسه.

9)      توفيق بوقاعدة، دور المجتمع المدني التونسي في التحول الديمقراطي" مداخلة ضمن الملتقى الوطني حول المجتمع المدني والتطور السياسي بالمنطقة المغاربية، الجزائر: فندق الأروية الذهبية، 7/8 ديسمبر 2011، ص ص151-152.

10)   سوسن زغلول والسيد على مصطفى، "دور النخبة في إدارة التحول الديمقراطى في تونس “2011-2016 " على الرابط: http://democraticac.de/?p=34699  تاريخ الإطلاع : 21/04/2017.

11)   السيد أحمد كبير، التحولات السياسية في بلدان المغرب العربي التحديات الداخلية والتأثيرات الخارجية 1989-2009، مذكرة ماجستير غير منشورة، (جامعة الجزائر: كلية العلوم السياسية والاعلام، 2010)، ص 95.

12)   المولدي الأحمر، الانتخابات التونسية: خفايا فشل القوى الحداثية ومشاكل نجاح حزب النهضة الإسلامي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: الدوحة، ديسمبر 2011، ص 5.

13)   رغد نصيف جاسم، "التغيير وتداعياته على العالم العربي تونس ومصر أنموذجا"، مجلة جامعة تكريت للعلوم القانونية، ع 24. ديسمبر 2014، ص 203.

14)   عبد الرحمان يوسف سلامة، التجربة التونسية في التحول الديمقراطي بعد ثورة كانون أول 2010، أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة النجاح الوطنية، فلسطين، ص 137.

15)   صلاح الدين الجورشي، "»ربيع تونس «التأرجح بين الأمل والخوف"، التقرير العربي السابع للتنمية الثقافيّة: العرب بين مآسي الحاضر وأحلام التغيير أربع سنوات من ‘‘الربيع العربي‘‘، ( مؤسسة الفكر العربي: لبنان، 2014) ص 25.

16)   خيري عمر،"الربيع العربي والدولة والمجتمع في الشرق الأوسط"، 28 أكتوبر 2014، على الرابط:

https://www.alaraby.co.uk/  تاريخ الإطلاع: 19/04/2017.

17)   حمادة، أمل. معادلة جديدة؟:  إعادة تشكل العلاقة بين الدولة والمجتمع بعد الثورات العربية. 15-10-2015.         http://www.siyassa.org.eg  تاريخ الإطلاع : 15-10-2015  

18)   أحمد بعلبكي وآخرون، مرجع سابق، ص 55.

19)   ميلاد مفتاح الحراثي، تحديات الأمن القومي في غرب المتوسط، مركز كردستان للدراسات الاستراتجية، ص ص 154-155.

20)   بونعمان، سلمان. أسئلة دولة الربيع العربي نحو نموذج لاستعادة نهضة الأمة. مركز نماء للبحوث والدراسات: بيروت، 2013، ص ص 91-92.

21)   المرجع نفسه.