المركز العربي للبحوث والدراسات : جائحة كورونا وعسكرة القطاع الصحي في دول الصراع (طباعة)
جائحة كورونا وعسكرة القطاع الصحي في دول الصراع
آخر تحديث: الجمعة 15/05/2020 11:59 م
إيمان زهران إيمان زهران
جائحة كورونا وعسكرة

تزامنت جائحة كورونا مع تحدي إختبارات إعادة توطئة السلام فى الشرق الأوسط، إذ لا زالت المنطقة تعانى من ويلات الصراع، حيث لم تنته الحرب الأهلية في سوريا، بينما ليبيا واليمن غارقتان في حروب بالوكالة أفضت إلى أزمات إنسانية متباينة، وما يلحق بذلك من تداعيات عابرة للحدود قد تنعكس سلبا على أمن الدول التي تمكنت من إبقاء الصراعات خارج حدودها، أو تلك التى تراجعت فيها أدوار الدولة بشكل كبير أو انتفت إلى الحد الذى قد تسهم معه تداعيات فيروس كورونا المستجد بتوسع نطاق الميليشيات  والإرهابيين والجهات الفاعلة المسلحة من دون الدولة لملئ الفراغات الحكومية لتقديم خدمات للمجتمعات المحلية.

لذا، تظهر إشكالية تتمثل فى إحتمالات أن تعرقل جائحة كورونا توطئة السلام فى دول الصراعات، وكذلك التخوف من أن تصبح عاملاً مضاعفاً للصراعات، فى ظل تنافس أطراف الصراعات الشرق أوسطية على تعزيز سيطرتها على الأراضي والموارد التي أصبحت أن تشمل الآن ضمان القدرة على الوصول إلى الإمدادات الطبية الحيوية أو تدميرها للأطراف المضادة.

ومن ثم، أصبح هناك فرضية جدلية تتعلق بإحتمالية أن تشكل جائحة كورونا فرصة لتعزيز قوة تأثيرها، ولزيادة الصراعات المشتعلة في المنطقة وترسيخ مواقعها ، خاصة مع تصاعد التفاعلات ما بين أطراف الصراع المحليين وقوى الإقليم والقوى الدولية دون إغفال العامل المُصعد للأدوار المتباينة للفواعلين المسلحين من دون الدول فى فى إعادة تشكيل نمط جديد للتفاعلات الصراعية بالشرق الأوسط قوامة "عسكرة القطاع الصحى". 

عسكرة القطاع الصحى

ثمة عدد من العوامل أكسبت "عسكرة القطاع الصحى" في منطقة الشرق الأوسط أبعادًا جديدة جديرة بالملاحظة والتدوين، خاصة مع تصاعد التوترات المحلية والإقليمية الناجمة عن تداعيات جائحة كورونا، حيث من تلك العوامل:

-      الحد من سيطرة الجيوش النظامية: إذ يستخدم نمط إستهداف الإمدادت الطبية فى دول الصراع للحد من تمدد وسيطرة الجيوش النظامية، فعلى سبيل المثال: ففي ليبيا وسوريا واليمن، استهدفت الفصائل المتناحرة والجهات الخارجية الراعية لها المستشفيات ومنشآت العناية الصحية مباشرة. هذا وبالإضافة إلى تنازع النخب السياسية والميليشيات والقوى الخارجية المنخرطة في حروب بالوكالة لكسب الموارد والأراضي.

-      سيطرة التنظيمات الإرهابية: يأتى ذلك النمط فى إطار تحركات التنظيمات الإرهابية والفاعلين المسلحين من دون الدول نحو تقويض فرص السلام فى دول الصراع فى الشرق الأوسط، إذ تستغل الميليشيات والفواعل المسلحة من دون الدول فرصة جائحة كورونا لتنفيذ أجندات سياسية من خلال الظهور بأنها قادرة على تقديم أداء أفضل، دون النظر لأداء وشرعية القوى الرسمية فى الدولة. خاصة وأنه من جهة أخرى، تعاني المجموعات المسلحة - "سواء الميليشيات أو الفواعل من دون الدول" - خطر تراجع "معامل التأثير" في حال لم تؤمن استجابة احتوائية لتداعيات جائحة كورونا. إذ يعتمد ذلك على حجم الأزمة ومدتها وعلى تطبيق مؤسسات الدولة استراتيجية احتوائية فعالة أم عدمه. فعلى سبيل المثال: في ليبيا، منحت جائحة كورونا دفعاً للميليشيات المسلحة لعسكرة القطاع الصحى وذلك بتحويل المساعدات الطبية إلى مقاتليها واستغلال الأزمة كأداة لمكافأة شبكات الرعاية والمجتمعات التابعة لديها وتعزيزها. نقطة أخرى تتعلق بنمط "العسكرة" وهو أن المستشفيات في ليبيا تخضع بشكل منتظم إلى هجمات صاروخية مما يزيد الوضع سوءا بالقطاع الصحى. 

وفي اليمن، داهمت الميليشيات الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات العربية المتحدة ميناء عدن الجنوبي وسرقت مساعدات طبية كانت قد تبرعت بها منظمة الصحة العالمية، من ضمنها تسع سيارات إسعاف مرسلة إلى وزارة الصحة. بالإضافة إلى ما شهده  الصراع في اليمن مسبقاً من هجمات عشوائية دمرت المنشآت الطبية وإمدادات المياه، ليُزيد من الأمر سوءاُ إلى الحد الذى أعلن عنه المجتمع الدولي، حيث أن: "اليمن يشهد أسوأ أزمة بشرية من صنع الإنسان في العالم، بما فيها أسوأ تفشٍ للكوليرا في التاريخ الحديث".

 بينما في لبنان، فيمكن تشبية حالة حزب الله بأنه بمثابة "إستنساخ دولة" داخل كيان دولة، حيث منذ بداية أزمة فيروس كورونا، أعلن عن تخصيصة لقرابة خمسة آلاف طبيب ومسعف وممرض لمكافحة الجائحة. وفى العراق، إستطاع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" توظيف الأزمات المتباينة فى بغداد التى تشمل التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران وانخفاض أسعار النفط والاحتجاجات التي تكتسح البلاد بأسرها، وذلك بتنوع هجماته على البلدات في شمال العراق. ومن ثم، فمن المتوقع على أثر جائحة كورونا أن يعمل تنظيم داعش على إعادة إنتاج ذاته عبر الإنتشار الديموغرافى وتلبية حاجات المجتمعات المحلية حال فشل الحكومة العراقية فى إنجازها.

-      تفاقم المنافسة العشائرية :  تم إختبار تلك الفرضية فى دول الصراع ذات التعدد فى معيار الهوية والقبلية العشائرية، فعلى سبيل المثال: عمقت جائحة كورونا الإنفصال الحاد بين العراق وكردستان، إذ لم يسمح العراق لإقليم كردستان بالحصول على حصته من أدوات الفحص أو المواد الطبية، مما دفع بالإقليم إلى أن ينشد دعماً خارجياً. وذلك فى ظل أوضاع تُنبأ بالتوتر الداخلى فى ظل الفشل المتكرر للحصول على الإجماع من مختلف الكُتل والتيارات السياسية لإنجاز تعهد تشكيل حكومة بصياغة نهائية.

-      إعادة ترسيم تفاعلات القوى الإقليمية :  إذ من المرجح أن تُعيد تشكيل جائحة كورونا مسار التفاعلات الإقليمية بالشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال: يسعى النظام السورى لإستغلال "الجائحة" كفرصة لإعادة تطبيع العلاقات السورية مع الخليج. إذ أبدت الإمارات العربية المتحدة تجاوباً كبيراً إزاء هذا الأمر بسبب رغبتها الشاملة بإضعاف النفوذ التركي في المنطقة كخطوة نحو إعادة ترسيم خرائط النفوذ الجيوسياسية لتفاعلات الشرق الأوسط.

خيارات مُحتملة

ثمة عدد من الخيارات المُحتملة  لدى دول الصراع فى الشرق الأوسط لتطويق التداعيات المستقبلية لجائحة كورونا على القطاع الصحى فى ظل تنامى توترات النزاع وفشل إختبارات إعادة توطئة السلام فى المنطقة العربية، لعل منها: 

-      تبنى فلسفة العمل الصحي عوضا عن  سياسات الرعاية الصحية الأولية ذات الركيزة الاجتماعية، حيث إستنادا لخبرة الدول فى التعامل مع جائحة كورونا، تم إختبار فرضية أن تبدأ الكثير من الخدمات الصحية "وخاصة الوقائية منها" في المنزل والمدرسة قبل الوصول إلى المركز الصحي.

-      إعادة إنتاج القطاع الصحى، إستنادا فى ذلك على البنية التحتية المتوفرة سابقا من مراكز صحية ومستشفيات سواء خاصة او عامة، والتركيز على استعمالها بفاعلية للخدمة الصحية والاجتماعية لا لأغراض أخرى تخدم الأجندات الخاصة بأطراف الصراع سواء المحليين أو الوكلاء "الإقليمين/ الدوليين".

-      تشكيل "هيئات/كيانات" صحية في المناطق التي أصبحت خارج سيطرة الدولة الفاعل "سواء فى سوريا او ليبيا او اليمن .. إلخ". حيث تعمل هذه الهيئات على تقدير احتياجات المنطقة التي تعمل فيها من الناحية الصحية وفق منهجية علمية وبأدوات مُسندة بالدليل، مستعينة بالخبرات المحلية والدولية. وعلى أن  تعمل هذه "الهيئات/ الكيانات" على التنسيق مع كل المنظمات المحلية والدولية  - مثل "منظمة الصحة العالمية"-  لتجنب ازدواجية العمل ورفع درجات الجاهزية والفاعلية.

-      هيكلة نظام معلوماتى صحي وفق المعايير العلمية الدولية، يراعي شروط الاستدامه والقابليه للتحديث. فضلا عن إمكانية الربط الشبكى بين دول منطقة الشرق الأوسط  لسهولة المتابعة ووضع الخيارات المُحتملة حول السياسات الصحية المقبلة، إستنادا على تحليل الوضع الحالي والسابق، والاحتياجات الآنية، والآفاق المستقبلية الممكنة، أخذا في الاعتبار المتغيرات السياسية والاجتماعية للإقليم.

فى النهاية

وفقا لخرائط دول الأزمات بالشرق الأوسط، فمن غير المستبعد حجم التأثير السلبى لجائحة كورونا على كل من سوريا واليمن وليبيا نظراً لضعف بنية الأنظمة الصحية بداخلها فضلاً عن غياب المحددات المُحركة لتلك الأنظمة إلى الحد الذى تم إستخدامها "كسلاح" أو ما بات يُعرف بـ "عسكرة القطاع الطبى"، إذ تتخذ الفصائل المتحاربة من الإمدادات والمساعدات الطبية أوراقاً تقويضية بالمعادلة الصراعية.

على الجانب الأخر، ثمة تخوف من أن تطوع الأنظمة الشمولية القطاع الصحى لإحكام سيطرتها فى ظل تراخى أغلب بلدان المنطقة على مواجهه التداعيات الإقتصادية للجائحة، مع تحييد "الورقة الخليجية" فى ظل تنامى التداعيات الإقتصادية بالمنطقة مقابل الإنخفاض الملحوظ فى أسعار النفط وتداعيات ما قد ينتهى إليه بعد ذلك الإتفاق الخاص بـ "الأوبك +". 

ومن ثم، ففى ظل تلك التحركات والتحركات المضادة، فمن المتوقع أن يُعاد إنتاج الفاعلين من دون الدول، إذ قد يُعاد إبراز دور الميليشيات فى إعادة ملء فراغ الحكومات، وذلك عند تخلى الدولة عن أدوارها التقليدية فى توفير المساعدات والإمدادات الطبية على نحو ما قد يؤسس لتحول نوعى فى السياقات الأمنية لتفاعلات الشرق الأوسط. وهو ما قد يدحض بفرضيات إعادة توطئة السلام فى دول الصراع، إذ ستعمد الدول "المنهارة/ المتأزمة" فى ظل تنامى التداعيات السلبية لجائحة كورونا على إتخاذ المزيد من القرارات المتخبطة لصرف الأنظار عن أوجه التقصير الداخلي على نحو ما قد يعمق حدة النزاع بين أذرع ووكلاء الأطراف المحلية والإقليمية بالداخل، وأجندات الفواعل الدولية فى الخارج.