المركز العربي للبحوث والدراسات : دور مراكز الفكر الاستراتيجية في صنع السياسات العامة المصرية (طباعة)
دور مراكز الفكر الاستراتيجية في صنع السياسات العامة المصرية
آخر تحديث: السبت 21/11/2020 08:03 م
رحمة أحمد سيد رحمة أحمد سيد
دور مراكز الفكر الاستراتيجية

     تعتبر الإستراتيجية ذات أهمية بالغة في الدولة وذلك لأنها تحقق مكاسب كبيرة في جميع القطاعات العامة والخاصة وقد زادت الدول من إنفاقها على الإستراتيجيات مؤخراً نتيجة للأهداف التي تتحقق بصورة سريعة وناجحة في نفس الوقت وذلك علي عكس النتائج التي يحققها العمل العشوائي دون تحديد إستراتيجية معينة ،ولذلك فقد بدأت الدول في إنفاق الأموال علي تطوير وبناء  مراكز الفكر الإستراتيجي التي تضع الخطط والبرامج بهدف تحقيق الأهداف المرجوة لكل دولة بسهولة ونجاح إذ أن وجود التخطيط يمنع الخطأ ،وقد إستعانت الدول ومنها مصر بالإستراتيجية في جميع المجالات والنهوض بكافة القطاعات بل أنها جعلت علاقاتها بالدول الأخرى يقع تحت عملية تخطيط إستراتيجية محكمة.

الكلمة الإفتتاحية:-

الدراسات الإستراتيجية

التخطيط الإستراتيجي

مراكز الفكر الإستراتيجي

التجربة المصرية مع مراكز الفكر الإستراتيجي

المقدمة

     في هذا المقال البحثي سوف نعرض مجموعة من الأفكار التي تنال إهتمامي كباحثة في العلوم السياسية والإستراتيجية وسوف نتعرف على تاريخ ونشأة مراكز الفكر الإستراتيجي مع التعرف على بعض من عمليات التخطيط الإستراتيجي ومفهومها وأهدافها ومراحل التخطيط المتعددة التي تأتي فيما بعد لتحقق أهداف الدولة أياً كانت صعوبة تنفيذها ، ومن الجدير بالذكر أنه لا يذكر البداية الحقيقية لنشأة مراكز الفكر الإستراتيجي حيث اختلف الباحثون والعلماء في بدايتها فهناك من يحدد نشأتها في عام 1831 تزامناً مع تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدفاعية في بريطانيا والبعض الآخر يري أنها نشأت عام1884 وذلك تزامناً مع تأسيس الجمعية الفابية البريطانية والتي اهتمت بدراسة التغيرات الإجتماعية وبالتالي كانت بداية مراكز الفكر الإستراتيجي في أوروبا في القرن الثامن عشر وكانت تسمي" كراسي علمية" وفي أثناء الحرب العالمية الثانية 1945 تم تسميتها "صناديق الأدمغة "(نبوي 2018)

                ثم بدأت تتصاعد نشأة المراكز الإستراتيجية في القرن العشرين ففي الولايات المتحدة الأمريكية تم تأسيس أول معهد إستراتيجي "كارنيجي" للسلام الدولي عام 1910 وبعد ذلك قامت نفس الدولة بتأسيس معهد "بروكينغز" عام 1916 وفي فرنسا تم تأسيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية عام 1920 وفي ألمانيا تم تأسيس الأكاديمية للسلام عام 1931 وبالرغم من تصاعد  تأسيس مراكز الفكر الإستراتيجي أوروبا إلا أن الوضع في العالم العربي لم يسمح بتأسيس مثل هذه المراكز وذلك لوجود الكثير من الصعاب والعقبات ، ولكن بعد ثورة 1952 بقيادة الزعيم أحمد عرابي تم إنشاء أول مركز فكر وبحث عربي في نفس العام وهو " معهد البحوث والدراسات العربية " التابع للجامعة العربية ومقره في القاهرة  وبعد ذلك تم تأسيس المركز القومي للبحوث 1956 ومركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية عام 1968 وفي عام 1975 تم إنشاء مراكز دراسات الوحدة العربية ومنذ ذلك التاريخ بدأت مراكز الفكر الإستراتيجي في الإنتشار بشكل واضح في الوطن العربي. (محمود 2013)

أهمية الدراسة

     تحتوي هذه المقالة البحثية علي أهمية علمية وأخري عملية يمكن توضيحها من خلال النقاط التالية:-

أولاً- الأهمية العلمية

1-ترجع الأهمية العلمية للمراكز الإستراتيجية إلي تحقيق الأهداف التي تسعى الدولة إلي تحقيقها وذلك بإستخدام أقل التكاليف والحصول على أكبر قدر من النتائج الناجحة.

2-تقوم هذة المراكز الإستراتيجية بوضع الخطط والبدائل الممكنة لتحقيق الأهداف المنشودة دون خطأ.

3-مساعدة الدول والأفراد في دراسة وفهم التاريخ وكيفية التعامل مع الحاضر ووضع الخطط تحسباً للمستقبل.

ثانياً- الأهمية العملية

1-إدراك دول العالم أجمع بأهمية الدور الذي تلعبة مراكز الفكر الإستراتيجي في نشر الوعي بين الأفراد وبعضهم البعض وكذلك رسم السياسات العامة للدولة.

2-توضيح دور التخطيط الإستراتيجي ومفهومة ومدي تأثيره على صانعي القرار في الدولة المصرية.

3-يعتبر التخطيط هو المرشد لإستخدام الموارد المتاحة في الدولة وبالتالي هو الذي يحدد توجهات الدولة خلال فترة زمنية معينة.

4-تقوم مراكز الفكر الإستراتيجي بوضع نظام للتفكير وإتخاذ القرارات لا يمكن الخروج عنه.

أهداف الدراسة

1-توضيح أهمية دور مراكز الفكر الإستراتيجية وطرق وضع الإستراتيجيات لكل قطاعات الدولة.

2-دور مراكز الفكر الإستراتيجية في تشكيل السياسة العامة للدولة والتأثير على صانعي القرار في الدولة.

3-أهمية دور الخطط والبرامج الإستراتيجية في إعداد وتنفيذ الأهداف المنشودة فضلاً عن التعرف على دور الدولة في الإرتقاء بمراكز البحوث والفكر الإستراتيجي.

حدود الدراسة

1-الإطار الزماني:- تدور هذى المقالة البحثية في الوقت الراهن الذي تتخذ فيه الدولة قرارات حاسمة وسريعة وذلك نتيجة لتعاونها مع مراكز الفكر الإستراتيجية الوطنية والتي تسعي إلى تحقيق الصالح العام في المقام الأول، ولذلك فقد بدأ الإهتمام بالمراكز البحثية في بداية القرن العشرين في وطننا العربي وسوف تتمحور هذة الدراسة في الفترة من 2010 – 2019 لدراسة آخر القرارات المستجدة المصرية بالتعاون مع مراكز الفكر الإستراتيجية.

2-الإطار المكاني:- تدور هذة الدراسة البحثية في مصر بإعتبارها أهم دول الوطن العربي وأي قرارات يتم إتخاذها فإنها تؤثر في السياسة الخارجية المصرية وبالتالي فإن هذة الدراسة تقوم على توضيح أهمية الدور الذي تلعبه مراكز الفكر الإستراتيجية وأهمها في الوطن العربي ومصر علي وجه الخصوص وكيفية وضع الإستراتيجيات التي تتحكم في السياسة الخارجية المصرية.

3-الإطار الموضوعي:- تتناول المقالة البحثية الدور الذي تقوم به مراكز الفكر الإستراتيجية في تشكيل السياسة الخارجية المصرية وبالتالي وضع الخطط والإستراتيجيات المناسبة لذلك بالإضافة إلى أنها تحدد أولويات الدولة وتوجهاتها في مرحلة معينة ،كما سنتعرف على أهمية التخطيط الإستراتيجي كشرط رئيسي في تحقيق الأهداف المرجوة وكذلك دور الدولة في الإرتقاء بمراكز الفكر الإستراتيجي وتطويرها والسماح لها بممارسة دور المرشد للدولة في علاقاتها مع الدول الأخرى.

منهج الدراسة

     استندت هذة الدراسة البحثية في تفسيرها وتحليلها إلي منهج صنع القرار الذي يتناول بالبحث والتفسير أهمية الدور الذي تقوم به مراكز الفكر الإستراتيجية ومساهمتها في تشكيل السياسة الخارجية المصرية وتحديد علاقتها بالدول الأخرى وأهمية التخطيط الإستراتيجي في الدولة وتعتبر من أهم مقولات هذا المنهج هو اعتبار الدولة هي الوحدة السياسية الأهم في حقل العلاقات الدولية ولكن تتحدد أفعال الدولة بالقرارات التي يتخذها القائمين عليها ألا وهم صانعي القرار في الدولة بالإضافة إلى أن عملية صنع القرار في الدولة هي عمليات التفاعل بين الأفراد وبعضهم البعض وكذلك بين الدول وبعضهم وهي من أهم الجوانب السياسية وأن السياسة في جوهرها هي عملية صنع القرار وإختيار أفضل البدائل.

المبحث الأول:- " مفهوم الإستراتيجية والتخطيط الإستراتيجي وأنواعها"

     يعود أصل كلمة " إستراتيجية" إلي اللغة الإغريقية القديمة فهي لفظ يوناني قديم ويعني القائد وتسمي" ستراتيجيوس" وبالتالي فإن أصل المفهوم ذو دلالة عسكرية إذ كان يستخدم قديماً لوضع الخطط لمنع حدوث الحروب والصراعات بين الدول وقد تم تصنيفها كفن من الفنون العسكرية ولكن مع مرور عدة سنوات اتسع المفهوم ليشمل جميع المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها وتعددت مفاهيمة وأهميته ،ويمكن تعريف الإستراتيجية علي أنها " مجموعة من القواعد والمبادئ التي ترتبط بمجال معين وتساعد الأفراد المرتبطين بهذا المجال بإتخاذ القرارات المناسبة عن طريق إعداد مجموعة من الخطط والإستراتيجيات من أجل تنفيذ الأهداف المنشودة " ويمكن تعريفها أيضاً على أنها " مجموعة الأفعال والأساليب التي تسعي لتنفيذ الأهداف مع الأخذ في الإعتبار كافة العوامل التي تؤثر على إمكانية حدوثها أو تطبيقها على أرض الواقع لذلك من المهم تغيير الإستراتيجية إذا ثبت أنها غير مناسبة للأحداث الواقعية " (خضر 2016)

     ويعرف أندريه بوفر الإستراتيجية بأنها " فن إستخدام القوة للوصول إلى الأهداف السياسية أو هي فن حوار الإرادات تستخدم القوة في حل خلافاتهم ، "وكذلك التعريف الحديث للإستراتيجية " هي علم وفن وإستخدام القوات المسلحة للدولة لتأمين أهداف السياسة الوطنية وذلك بإستخدام القوة أو التهديد بإستخدامهاوقد عرف البعض الإستراتيجية بأنها "خطة وأسلوب ومنهج تفكير في ظل استشراف مستقبلي لتحقيق الغايات الكبري عبر أهداف ومراحل زمنية محددة بإستخدام الوسائل والإمكانيات المتاحة " وبعد تناول مجموعة من مفاهيم الإستراتيجية نتطرق للبحث والدراسة في أنواع الإستراتيجيات والتي تعتبر الآلية التي يقرر بها مركز الفكر الإستراتيجي العمل بها لتحقيق أهدافه ومصالحة وقد تتعدد أنواع الإستراتيجيات ،فمن حيث المستوى:-

·       إستراتيجية وطنية

·       إستراتيجية إقليمية

·       إستراتيجية قومية

·       إستراتيجية دولية

ومن حيث الحجم :- " شاملة – محدودة " أما من حيث الزمن :- " قصيرة المدى – متوسطة المدي – طويلة المدي " ،أما نوع الإستراتيجية من حيث التخصص:-

·       إستراتيجية سياسية

·       إستراتيجية إقتصادية

·       إستراتيجية إجتماعية

·       إستراتيجية أمنية

    ويعد التعريف بأنواع الإستراتيجية وجب الإنتقال إلي الخطوة الثانية ألا وهي تعريف التخطيط الإستراتيجي والذي يعتبر أهم مرحلة من مراحل التوجه نحو الهدف فإذا تم التخطيط الإستراتيجي بشكل صحيح ودقيق فسوف يكون النجاح والنصر حليف الدولة ومركز الأبحاث المنوط بذلك، ومن الجدير بالذكر أنه دائماً يحدث خلط بين مفهوم الخطة الإستراتيجية ومفهوم التخطيط الإستراتيجي وبالتالي نوضح الفرق بينهم .

     فالخطة الإستراتيجية بشكل عام هي الوثيقة المكتوبة التي تتضمن كافة البيانات والمعلومات عن الهدف المراد تحقيقة وكذلك كافة الموارد والإمكانيات المتاحة والغير متاحة وطرق توفيرها للوصول إلى أفضل نتيجة ممكنة وبالتالى فهي خطة شاملة لكافة التفاصيل الخاصة بتنفيذ مشروع ما فتعتبر الخطة هي عملية وضع الخطوط العريضة لأي مشروع ويجب أن تتضمن مجموعة من البدائل التي يمكن إختيارها في حال ثبوت عدم ملاءمتها للواقع ولابد أن تحتوي الخطة علي عملية التحليل الرباعي .(صلاح 2016)

     أما بالنسبة لمفهوم التخطيط الإستراتيجي فهو أعم وأشمل من مفهوم الخطة الإستراتيجية حيث يقصد بالتخطيط الإستراتيجي أنه تخطيط بعيد المدى يتضمن بعض من الرؤي وسيناريوهات المستقبل ويحتوي على جميع البيانات والمعلومات الخاصة بالمشروع وبالتالي فهو ليس مجرد خطة بل إنه تنبؤ يسبق الخطة ويأخذ في الإعتبار جميع المتغيرات الداخلية والخارجية وطرق المنافسة والمقومات البيئية المحيطة به والذي يعمل من خلالها ويعتبر التخطيط الإستراتيجي واحد من أهم المكونات الأساسية للإدارة الإستراتيجية ويعتمد على التبصر والتنبؤ بالمستقبل بالإضافة إلى دراسة البيئة المحيطة ، ولا يمكن أن يتم التخطيط لمشروع ما إلا بعد وضع تخطيط إستراتيجية محكم يساعد الأفراد والمؤسسات علي معرفة نقاط القوة والضعف والموارد المتاحة كما أنه يوجه الدولة نحو سياسة معينة في تحقيق الأهداف وذلك بوضع نظام معين للتفكير والتنبؤ وإتخاذ القرارات بما يتناسب مع مصالح الدولة.(الحلايقة 2018)

     يعتبر التخطيط الإستراتيجي هو النواة الذي يبني عليها مراكز الفكر الإستراتيجية مكانتها وأهميتها ويعمل بها من هم ذوي قدرات هائلة علي التخطيط والتفكير بشكل دقيق ولديهم القدرة على إتخاذ القرارات المناسبة وتحمل مسؤوليتها مهما كانت النتائج ،وبالتالي لا يستطيع مركز الفكر الإستراتيجي العمل دون وضع تخطيط إستراتيجي محكم يساعد الدولة علي رسم السياسات العامة الداخلية والخارجية وتحقيق أهدافها بشكل متسلسل من الإنجازات وفي المقابل توفر له الدولة الثقة والموارد التي تؤهلة للقيام بمثل هذا الدور الهام  والذي يعتبر فيه معاون للدولة .

المبحث الثاني:- "مفهوم ونشأة مراكز الفكر الإستراتيجية في الوطن العربي وخصوصاً مصر"

     تزايد الإهتمام بالمراكز البحثية الإستراتيجية مؤخراً في القرن العشرين علي المستوي العالمي ثم جاء الإهتمام العربي بها، وأصبحت مراكز الفكر الإستراتيجية هي أداة لتقييم الدولة وتحديد درجة تحضرها ومدي تقدمها في مجال البحث العلمي والتقني وقدرتها على التعاون مع أجهزة الدولة في صنع القرار،وقد ظهرت مثل هذه المراكز الفكرية في أوروبا أولاً وبالتحديد في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكانت تسمي كراسي الدراسات العلمية ثم أنشأت وقفيات نقلاً عن الوقفيات الإسلامية ومنها وقفية ديمورتن التي أنشأت في بريطانيا في جامعة أكسفورد وهدفها تشجيع وزيادة الأنشطة والأبحاث الدينية بالتحديد وذلك في أواخر القرن الثامن عشر.

     وترجع صعوبة إيجاد مفهوم شامل جامع لمراكز الفكر الإستراتيجية إلي إن جميع مراكز الفكر الإستراتيجي لا تقوم بتعريف نفسها وتخصص أنشطتها وأهدافها في وثيقة التعريف الذاتية وإنما تعبر عن نفسها كمنظمات غير ربحية أو غير حكومية  سواء التابعة للقطاع العام أو الخاص وذلك علي عكس " مراكزthink tank   " الذي نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية وكانت لها عدة مسميات منها صناديق الأدمغة وبنوك التفكير وغيرها وكانت وظيفتها الأساسية مساعدة الدولة في إتخاذ القرارات الهامة فضلاً عن تقديم الدراسات والأبحاث العلمية ونشر الوعي الثقافي وغيره وتقديم المشورة العلمية .(محمود 2013)

     وقد عرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مراكز الفكر الإستراتيجية بأنها :- "منظمات ملتزمة وبصورة دورية بإجراء الأبحاث العلمية والدفاع عن أي موضوع يختص بالسياسات العامة للدولة كما أنها تشكل جسراً يربط بين المعرفة والسلطة في الديمقراطيات الحديثة " ،وقد قام مشروع مراكز الفكر والدراسات العالمي بتعريفها علي أنها:- " مؤسسات تقوم بالبحوث والدراسات الموجهة لصانعي القرار تتضمن توجيهات او تقصيات معينة بخصوص القضايا المحلية والتي تساعد بها الدولة والأفراد على تشكيل السياسة العامة للدولة كما ينبغي" ، أما عن التعريف الذي قدمة دونالد أبلسون فهو يصف مراكز الفكر الإستراتيجي بأنها " هيئات ذات توجه بحثي لا تهدف للربح  ولا تعبر عن توجه حزبي معين دون أن ينفي ذلك عنها صفة الإيدلوجية وتتمثل أهدافها العامة في تأثيرها على الرأي العام وصنع السياسة العامة " (أبلسون 2007)

     ومن مجموعة التعريفات السابقة يتضح مجموعة من المعايير والمرتكزات التي تقوم عليها مراكز الفكر الإستراتيجية ومنها:- " غير ربحية – غير حزبية – ضرورة وجود فريق عمل بحثي متمكن وعلي أعلي مستوي -  وجود نظام للتفكير والتخطيط الاستراتيجي – وجود آلية لصنع وإتخاذ القرارت العامة " ، وكما سبق الذكر أن مراكز الفكر الإستراتيجي ظهرت في الغرب أولاً وكان لها أهداف ومسميات مختلفة وسرعان ما إنتشرت في دول الغرب ويرجع ذلك إلى مناخ الثقة والتعاون في المعاملات التي قامت بتوفيره دول الغرب بينها وبين مراكز الفكر الإستراتيجي .

     وعندما ظهرت مراكز الفكر الإستراتيجي في الوطن العربي في أوائل القرن العشرين كانت عام 1952 في دولة الحضارة والعلوم مصر وكان معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية ومقرها  وبعد ذلك تأسيس المركز القومي للبحوث عام 1956 ثم مراكز الوحدة العربية عام 1975 ومنذ ذلك الوقت بدأت مراكز الفكر الإستراتيجية في الإنتشار في المنطقة العربية ويمكن القول أن المراكز الإستراتيجية تصنف إلي عدة تصنيفات منها:-

·       مراكز خارج الحدود:- وهي المراكز الموجودة داخل الوطن العربي ولكن تمتد حدودها إلي خارجه ومثال ذلك معهد كارنيجي في الشرق الأوسط ببيروت التابع إلي معهد كارنيجي الموجود في الولايات المتحدة الأمريكية والأكثر تأثيراً فيها.

·       المراكز التابعة للقادة:- وهي المراكز التابعة لتوجيهات القادة السياسيين المحليين بغض النظر عن نوع العمل أو الخدمة التي تقدمها ومثال ذلك مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية والتي يدار تحت إشراف أمير إمارة أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان .

·       المراكز المستقلة:- تعتبر المراكز المستقلة في الوطن العربي تحت إستقلال إسمي حيث أن هذا الإستقلال على الهامش وغير مسموح به ومثال ذلك أغلب الدول العربية وبالأخص مركز الخليج للأبحاث حيث يعتبر أهم مؤسسة بحثية مستقلة غير حكومية وغير ربحية تعمل تحت شعار المعرفة للجميع ويعتبر من أهم أهدافها خدمة ومساعدة دول مجلس التعاون الخليجي وبالأخص المملكة العربية السعودية.

     والجدير بالذكر أن عدد مراكز الفكر الإستراتيجي في الوطن العربي تتزايد بشكل مستمر حتي وصل عدد مراكز الفكر الإستراتيجية 39 مركز بحثي في مصر ويليه دولة العراق بحوالي 30 مركز بحثي ولكن الأساس في مدي قيام هذة المراكز البحثية بالعمل المنوط بها وذلك من خلال قيام الدول العربية بتوفير مناخ سياسي يخلو من أي إشكاليات بين أجهزة الدولة المعنية ومراكز الفكر الإستراتيجي وذلك حتي تستطيع مراكز الفكر الإستراتيجي القيام بعملها على أكمل وجه ومنع الخسائر للدولة في كلا القطاعين العام والخاص وتوجيه سياسة الدولة نحو تحقيق الأهداف المنشودة ولن يتم ذلك إلا بإشاعة الثقة بين جميع الأطراف ومنها الدولة ومراكز الفكر الإستراتيجي والمواطنون. (السيقلي 2010)

     وقد حدد بعض الباحثين مجموعة من الوظائف لمراكز الفكر الإستراتيجية منها :-

·       إجراء البحوث والدراسات حول المشكلات التي تواجه السياسة العامة للدولة.

·       تقديم الإستشارات القانونية والفنية للدولة  حول الأمور الهامة التي تتطلب ذلك .

·       تقييم برامج الإدارة الحكومية في الدولة بما يتناسب مع مصالح الدولة.

·       توفير عدد من الباحثين والعلماء من  ذوي الكفاءات العلمية الشابة لوضع الخطط الإستراتيجية المتقدمة لتحقيق الأهداف المنشودة للدولة.

المبحث الثالث:- "التجربة المصرية مع مراكز الفكر الإستراتيجية في تشكيل السياسة العامة "

     كما سبق الذكر أن نشأة مراكز الفكر الإستراتيجية في الوطن العربي ومصر جاءت متأخرة بعض الشيء ولكن في الآونة الأخيرة زاد إهتمام الدول بها نظراً لدورها في مساعدة الدولة في إتخاذ القرارات الهامة ولم يتم ذلك إلا بعد الإطلاع على نتائج إيجابية في الدول الأخرى الأجنبية منها،حيث ظهرت مراكز الفكر المعروفة بإسم "think tanks "في الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع القرن العشرين  وكان لها دور بارز في وضع الخطط الإستراتيجية لمساعدة الدولة في القرن الماضي في التخطيط والإدارة للحرب العالمية الأولي 1914 وكذلك نتيجة لإنتشار العولمة وظهور معلومات ضخمة في مجالات المعرفة المجتمعية وأخذ الأمر ينتشر وتزداد المسؤلية علي عاتق مراكز الفكر الإستراتيجية في أوروبا حتي وصل الأمر إلى إتخاذ القرارات الهامة وصناعة السياسة العامة للدول ، أما علي الصعيد العربي فقد ظهرت مراكز الفكر الإستراتيجية في الوطن العربي والبداية كانت في مصر في الخمسينات من القرن الماضي كما سبق الذكر ثم توالي بعد ذلك ظهور مراكز الفكر في الوطن العربي وحتي ذلك الوقت كانت مراكز الفكر الإستراتيجية حكومية ولكن منذ عام 1968 تم ظهور مراكز إستراتيجية خاصة في مجالات مختلفة من السياسة والإقتصاد والثقافة وغيرها من العلوم .

     ظل الوضع في مصر مقتصر على وجود مجموعة من مراكز الفكر الإستراتيجية التي لم تسمح لهم الدولة بالتدخل بشكل رسمي في الحياة السياسية والمشاركة فى إتخاذ القرارات الهامة وصناعة السياسة العامة للدولة بشكل حقيقي وواقعي بل اقتصر دورها علي نشر وإصدار الكتب والمجلات العلمية وتنظيم العديد من الندوات والمؤتمرات وورش العمل فضلاً عن القيام بإستطلاع الآراء حول قضية معينة تهم الأجهزة الإدارية المصرية وقد قامت بدعوة بعض الشخصيات الهامة والباحثين للمشاركة في بعض الأعمال علي المستوي العالمي، وبالنظر إلى مركز معلومات مجلس الوزراء المصري في عهد الرئيس الراحل مبارك و قبل ثورة يناير والذي كان له دور كمركز فكر للسلطة التنفيذية وأخذ علي عاتقة مسؤلية  تنظيم سلسلة من المؤتمرات التي تناقش قضايا مراكز الفكر في الخبرات الدولية المختلفة وقد بدأت بالفعل منذ عام 2007 وحتي عام 2011 وقيام ثورة 25 يناير ،وبالرغم من البيان الصادر عن جامعة بنسلفانيا الذي أوضح وجود 57 مركز بحثي في مصر ولكن اعتبر هذا التصريح مبالغ فيه لما تواجهة مراكز الفكر في الوطن العربي ومصر من عقبات ومصاعب تحول دون تقدم العمل الإستراتيجي وحصول مراكز الفكر علي مكانة متميزة لها في الدولة.(هبة جمال الدين 2016)

     ومن الجدير بالذكر أنه لم يكن يوجد مراكز فكر حزبية في مصر حتي قيام ثورة يناير ولكن للأسف فقد ظهرت مثل هذه المراكز بعد الثورة وكان لها إنتماءات خاصة مثل مركز النيل للدراسات الإقتصادية والإستراتيجية والذي اعترض على ترشح أحمد شفيق للرئاسة عام 2012 مما أدى إلى زيادة أزمة الثقة بين الدولة المصرية ومراكز الفكر الإستراتيجية وأصبح الإنتماء الفكري لحزب معين هو أحد أهم مشكلات مراكز الفكر الإستراتيجية في مصر، وبالرغم من صعوبة قياس مدي تأثير مراكز الفكر الإستراتيجية في تشكيل السياسة العامة في مصر بسبب إختلاف الفكر والرأي الذي يقدمه كل مركز فكري عن الآخر ولكن قام الدكتور"جايمس ماجين" بذلك من خلال طرح  مجموعه من المحددات التي تقيس مدي تأثير مراكز الفكر الإستراتيجية في تشكيل السياسة العامة المصرية ومنها:-

·       القدرة على البقاء لفترات زمنية طويلة:- حيث أن هناك مراكز بحثية إستطاعت البقاء فترات زمنية طويلة وعلي النقيد هناك مراكز بحثية لم تستطع الصمود وانتهي بها المطاف سريعاً ومثال ذلك المركز الدولي للدراسات المستقبلية.

·       القدرة على توظيف نخبة من أفصل الباحثين والمفكرين:- حيث أن هناك مراكز بحثية لم يتجاوز عمرها الخمسين عاماً وإستطاعت تكوين فرق بحثية قوية وعلي أعلي مستوي من التخطيط الإستراتيجي وإتخاذ القرارات مثال ذلك المركز الإقليمي.

·       موارد التمويل المتاحة ومدي إستمراريتها:- حيث تعتبر من أهم المشكلات التي تواجه مراكز الفكر الإستراتيجية في مصر حيث لا تتعدي نسبة تمويل مراكز الفكر 1% من الموازنة العامة للدولة مقارنة بنسبة التمويل في الدول المتقدمة والتي تتجاوز 3% من الموازنة العامة للدول المتقدمة.

·       القدرة على بناء سمعة أكاديمية جيدة علي المستوي الدولي:- حيث يعتبر من أسوء عيوب مراكز الفكر المصرية العمل بعيداً عن تقييم الساحة العالمية والمعايير الدولية ومثال ذلك يحتل مركز الأهرام للدراسات المرتبة 65 علي مستوي العالم في تصنيف أفضل 100 مركز بحثي خارج أمريكا في دليل مراكز الفكر الصادر عن جامعة بنسلفانيا عام 2014 والمركز الثاني علي مستوي أفريقيا والشرق الأوسط ويلية المركز المصري للدراسات الإقتصادية الحاصل على المركز 13 علي مستوي أفريقيا والشرق الأوسط.

·       القدرة على زيادة محيط الثقة بين الطرفين:- حيث يجب على مراكز الفكر الإستراتيجية أن تحاول القضاء علي أزمة الثقة بينها وبين الدولة والأفراد حتي يسهل عليها جميع أعمالها ويعزز من مساهمتها في صنع السياسة العامة للدولة بل وصنع المستقبل وزيادة أهميتها ومكانتها وبالتالى زيادة إنجازاتها .

     وبالنظر إلى الواقع العملي الراهن لمراكز الفكر الإستراتيجي في مصر فإنه يجب القول أنها لم تحصل على مكانتها المستحقة حتي الآن وذلك بالرغم من إدراك القادة السياسيين بأهمية الدور الذي تلعبه وعلي سبيل المثال حديث الرئيس "عبد الفتاح السيسي" خلال إفتتاح المؤتمر السنوي لمنتدي الفكر العربي حيث أكد علي فكرة ضرورة ربط التنمية السياسية والإقتصادية والإجتماعية بمراكز الفكر الإستراتيجي في مصر والوطن العربي، ولكن بالرغم من ذلك فإن مراكز الفكر الإستراتيجي تعاني من غياب إستراتيجية رسمية وواضحة معترف بها من قبل الدولة لدعم مراكز الفكر وتمويلها فضلاً عن وجود تشريع او قانون يرسم الحدود العامة لعمل مراكز الفكر ووضع قوانين تنظم ذلك ،بجانب مساعدة الدولة لمراكز الفكر الإستراتيجي في التغلب علي التحديات والعقبات التي تواجهها حيث أنه حتي الآن لم تقم مراكز الفكر الإستراتيجي في مصر بالمشاركة فى وضع القوانين والتشريعات وتعديل الدساتير والإهتمام بالكوادر البشرية قدر الإمكان وذلك في إطار تفعيل الأهمية السياسية وغيرها لمراكز الفكر الإستراتيجي في مصر.

     وفي رأيي كباحثه في العلوم السياسية فهناك مسؤلية تقع على عاتق الدولة وأخري علي عاتق مراكز الفكر الإستراتيجي وذلك في إطار سبل التعاون وتطوير مراكز الفكر والنهوض بها ،إذ يجب على الدولة أن تقوم بمساعدة مراكز الفكر الإستراتيجي في التغلب علي التحديات والعقبات التي تواجهها وزيادة محيط الثقة بين الطرفين كما يجب عليها أن تقوم بالإعلان عن مراكز الفكر الإستراتيجية علي أنها مؤثر وصانع هام من صناع  السياسة العامة في مصر لأن ذلك يدفع الأفراد بالثقة في مراكز الفكر والبحث، وعلي الجانب الآخر يجب على مراكز الفكر أن تكون علي قدر من الثقة والثقافة التي تمكنها من مشاركة الدولة في صنع السياسة العامة والتأثير في قراراتها.

الخلاصة

     تطرقت الدراسة إلي مفهوم الإستراتيجية وأهميتها في الوطن العربي وخصوصاً مصر كدراسة حالة علي واقع مراكز الفكر الإستراتيجي وتناولت أيضاً أنواع الإستراتيجيات ،ثم تطرقنا لعرض مفاهيم لمراكز الفكر الإستراتيجي وبداية ظهورها في الوطن العربي الذي جاء متأخراً وأهم العقبات والتحديات التي تواجهها منها أزمة الثقة بين الدولة ومراكز الفكر وقد ترتب على مشكلة الثقة مشكلة تمويل هذة المراكز البحثية حيث أن الدولة لا تخصص جزءاً من موازنتها العامة للنهوض بمراكز الفكر الإستراتيجي وتطويرها، ثم تناولنا مدي تأثير مراكز الفكر الإستراتيجي علي صنع السياسة العامة في مصر وذلك من خلال عدة محددات ويمكن القول أن مراكز الفكر الإستراتيجية لم تحصل على مكانتها المستحقة في مصر.

      وحتي الآن وبإعتبارها فاعل رئيسي في الدولة وله مساهمات لا يمكن إنكارها في جميع مجالات الدولة وخصوصاً البحث العلمي حيث أنها تقوم بعقد مؤتمرات وندوات محلية ودولية تساهم في تبلور الآراء حول قضية معينة وبالتالي فإن الهدف الرئيسي لمراكز الفكر الإستراتيجي هو تحقيق مصالح الدولة وأهدافها في محيط من الثقة والثقافة وتوفر الموارد المالية ودعم الكوادر البشرية المؤهلة، وقد اتضح أن الدول المتقدمة هي التي اهتمت بمراكز الفكر والبحث فكان التقدم حليفاً لها والدول النامية التي أهملت مراكز الفكر والبحث أو جعلت الإهتمام بها إسمياً فقط لم تحقق أياً من أهدافها حتي الآن حتي أنها تتعثر في رسم السياسات العامة الخاصة بها نظراً لغياب الموجه الأول لموارد الدولة، وبالرغم من إدراك الدولة بأهمية الدور الذي تلعبه مراكز الفكر الإستراتيجية في تحقيق تقدم الدولة وأهدافها وتطوير علاقاتها بالدول الأخرى المتقدمة إلا أن الوضع في مصر لم يقوم بإتخاذ الإجراءات اللازمة لإعطاء هذة المراكز المكانة التي تستحق الحصول عليها.

المراجع

أولاً:- الكتب

1-محمود،خالد وليد،2013، "مراكز البحث العلمي في الوطن العربي: الإطار المفاهيمي – التحديات –  الأدوار – المستقبل بيروت ،مركز نماء للبحوث والدراسات،ط1

2- أبلسون،دونالد،2007، "هل هناك أهمية للمؤسسات البحثية ؟ تقويم تأثير معاهد السياسة العامةأبو ظبي،مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، ط1

3- هلال،علي الدين،2004، " تجربة مراكز البحوث والدراسات" ، القاهرة،المركز الدولي  للدراسات الإستراتيجية والمستقبلية .

ثانياً:- المقالات والرسائل العلمية

1-جمال الدين،هبة،2016، " إعادة بناء العلاقة بين مراكز الفكر ودوائر صناعة السياسات العامة في مصر" ،المركز الديمقراطي العربي ،متاح علي الرابط https://democratic.democratic

2- صلاح،رزان،2016، "مفهوم الخطة الإستراتيجية"، متاح علي الرابط http://mawdoo3.com

3- الحلايقة ، غادة، 2018، " مفهوم التخطيط الإستراتيجي"، متاح علي الرابط http://mawdoo3.com

4- خضر،مجد،2016،" مفهوم الإستراتيجية"، متاح علي الرابط http://mawdoo3.com

5- حركات،محمد، 2010، " التفكير الإستراتيجي ومراكز الفكر في البلدان العربية" ،المجلة المغربية للتدقيق والتنمية،العدد30

6- الكيلاني،هيثم، 1992، " جولة في عالم الإستراتيجية"، مجلة الوحدة،العدد 69