المركز العربي للبحوث والدراسات : جنوب السودان.. بين الاستعراب والاستغراب والاستلاب (طباعة)
جنوب السودان.. بين الاستعراب والاستغراب والاستلاب
آخر تحديث: الثلاثاء 17/05/2022 06:13 م
د. محمد قسم الله محمد ابراهيم د. محمد قسم الله محمد ابراهيم
جنوب السودان.. بين

بعد ارتباط وزواج كاثوليكي راديكالي يشبه تماماً زواج بيرثا ماسون من المستر روشستر في الرواية الشهيرة جين إير، انفصل جنوب السودان في دولة مستقلة عن السودان الشمالي بعد إندماج قسري استمر منذ أواخر القرن قبل الماضي ومطالع القرن العشرين حين تقررت تبعية منطقة جنوب السودان كإقليم إداري يتبع للدولة السودانية ومقرها في الخرطوم، وكان ذلك أوان الحكم التركي على الإقليم الممتد من بلاد الشام إلى جبال المغرب العربي وتخوم السودان الجنوبي الذي كان منبعاً لجنود البازنقر التسمية التي أُطلقت على أتباع الزبير باشا رحمة أحد أشهر التجار الشماليين المتهمين بممارسة تجارة الرقيق في مناطق ما وراء خط الاستواء في تاريخ السودان الحديث، وتلك من التعقيدات التي أفرزت واقعاً تاريخيا مأزوماً أنتج الانفصال الذي حدث في العام 2011م بعد سنوات مريرة من الحرب الأهلية، كانت الوحدة السياسية في دولة السودان قبل انفصال الجنوب تمتاز بتباين حاد في الإثنيات واللغة والدين بطبيعة الحال علاوةً على إنعدام الثقة بين الطرفين المتشاكسين ردحاً من الزمان لم ينجح معها الخطاب العاطفي في ردم تلك الهوة بين قطبي الدولة السودانة شمالاً وجنوباً فانفتق الرتق باكراً حتى أعجز الخيط والخياط عن المخيط.

الشاهد أن جنوب السودان وقع فريسة للاستغراب الباكر (Westernization) وكان ساحةً للاصطراع الأيديولوجي قبل أن يكون ساحة للتنمية والنهوض بالمنطقة وفق خطط وعمل جاد من السودان ومحيطه العربي والإقليمي الإسلامي، فقد غابت إستراتيجيات الإستعراب (Arabization) بالمعني الاصطلاحي التجريدي الواسع في اللسان العربي واللغة وانتشار الإسلام بلسان عربي مبين في الإقليم وليس من منظور عنصري بغيض كما يحاول البعض الترويج للمصطلح فقد انتشر اللسان العربي والاستعراب والاسلام بسماحته في الشرق الأقصى وبخارى وبلاد فارس، ولكن ضاع الجنوب السوداني الذي كان يمثل عمقاً استراتيجياً افتراضياً للمحيط العربي والإسلامي كما ضاع الفردوس المفقود في الأندلس من قبل. نعم لقد كسب الاستغراب معركته برعاية الحسناء النرويجية هيلدا جونسون التي وضعت آخر فصول المعركة ذات النفس الطويل في مواجهة الاستعراب حين تم إستيلاد دولة الجنوب وانفصاله فصار اليوم يغذُّ الخُطى المتسارعة لان يكون دولة فاشلة بامتياز فلا تزال الحرب تشتعل بين قبيلة وقبيلة وفصيلة وفصيلة كل صباح جديد دون أن تتحقق للجنوب الأماني السندسية المرسومة في أحابيل الإستغراب ودعاة الإنفصال وتفتيت الدول.

لقد خسره العمق العربي الإسلامي ولم يكسبه العمق الغربي الصليبي الراديكالي في مجاهيل خط الاستواء.

لقد كان الجنوب إقليم كبقية الأقاليم يتبع للسودان وكان يمكن ان تسري فيه روح الوحدة ووحدة الهدف باكراً لولا ذلك القانون سئ الذكر الذي طبقه الانجليز في جنوب السودان وهو قانون المناطق المقفولة الذي تم تنفيذه في العام 1922 وفيه تم اعتبار جنوب السودان منطقة محرمة على السودانيين من شمال السودان وفيه تم تحريم وتجريم ارتداء الزي التقليدي السوداني والعربي على مواطني الجنوب وإلزامهم بالأزياء الغربية ومنع أن يأخذ الزوج الشمالي أطفاله للسودان الشمالي حين يتزوج من فتاة جنوبية بل جعل أبناءه من حق الزوجة والنشأة في الجنوب وكان القانون يهدف لأن يكون الجنوب غربي الهوي والهوية، ورغم أنّ قانون المناطق المقفولة لم ينجح في اختطاف الجنوب السوداني بضربة لازب ومن اول سنوات تطبيقه لكنه تركه جرحاً نازفاً في خاصرة السودان كبلد واحد يمثل عمقاً استراتيجياً وبعداً مهماً في القارة الأفريقية ونجح القانون في جعل الجنوب جزيرة معزولة عن المحيط الشمالي وعزز الفوارق التاريخية والعاطفية بل والسياسية حتى استفتى الجنوبيون انفسهم وقرروا الانفصال رغم أن النسبة الغالبة من الجنوبيين اليوم لا يزالون يقيمون في السودان الشمالي يتمتعون بذات حقوق المواطنة التاريخية، بل ويتمددون إلى مصر حيث يتواجدون بأعداد كبيرة هنالك.

عاش جنوب السودان كإقليم وكمواطنين تحت كنف الدولة الموحدة طويلاً رغم الحرب الاهلية التي اندلعت بفعل فاعل قبل استقلال السودان من الحكم البريطاني منتصف الخمسينيات الماضية حينها تلقّفت العمليات العسكرية المعارضة حركة الأنيانيا وتعني الأفعى السامة ثم بعد إتفاقيات ومخاض عسير تكلل بإتفاقية اديس أبابا هدأت الامور بعض الشئ في سبيل وحدة مأمولة مع الشمال ما لبثت أن انفجرت الاوضاع من جديد مع بروز التيار الانفصالي مع الكولونيل الدكتور جون قرنق دي مابيور الذي تلقى كل دراساته العليا في الغرب الامريكي وهو راديكالي فكرياً وأيديولوجياً يبدو ذلك جلياً من خلال مانفستو الحركة الشعبية التي أسسها مطلع الثمانينات الماضية وكان جون قرنق يحرص على شعار يضعه في كل مقار ومكاتب لحركته في السودان يقول فيه بإنجليزية مبينة ودون مواربة Cush for Crist)) وكوش هو السودان، وكوش كذلك كما جاء في الإنجيل هو الإبن الاكبر لحام إبن نوح وهو جد النوبيين كما تروي أدبيات الممالك النوبية القديمة في الشمال النيلي.

وبموجب اتفاقية نيفاشا برعاية غربية حصل الجنوب على حق الاستفتاء لتقرير المصير واختار الذهاب للعمق الأفريقي بطابع غربي كامل الدسم واختار التبرؤ من كل سنوات الاندماج تحت علم الدولة السودانية وإعلان اللغة الانجليزية لغة رسمية للبلاد والديانة المسيحية بنسبة تفوق 80% من السكان بينما تتوزع النسبة المتبقية (20%) من السكان بين الإسلام والديانات الأفريقية التقليدية.

بذل السودان جهداً لا بأس به في سبيل أن تكون الوحدة جاذبة ولكن قوانين المناطق المقفولة غرست باكراً بذرة الاستلاب في جسد قطعة عزيزة من الأراضي السودانية، وكان للدول العربية ودول مجلس التعاون الخليجي سهمها السبّاق كذلك في خدمة الجنوب عبر منظمات الإغاثة والمنظمات الإسلامية التي قامت بتشييد العديد من المساجد ودور العلم في الجنوب بل وأشاعت لروح الإسلام المتسامح وكان لدولة الكويت ابتدار إنشاء اول قنصلية في جوبا في العام 1975م وشيدت الكويت أكبر مسجد في جوبا ما زال قائماً حتى اليوم بمعمار جميل رغم أنّ المسلمين بعد الانفصال صاروا أقلية، وللسفير الكويتي عبد الله السريع كتاب مشهور عنوانه سنوات في جنوب السودان يستعرض فيه القبائل الجنوبية وعاداتهم ولهجاتهم بل أتقن عبد الله جوبا وهذا لقبه بين السكان المحليين أكثر من لهجة تقليدية هنالك.

وقد قامت المملكة العربية السعودية كذلك بأدوار رائدة في خدمة الإسلام والعروبة ليس في جنوب السودان فحسب بل في حماية الأقليات في جميع القارات نظرا لما تمتاز به السعودية من خصوصية دينية تنفرد بها عن غيرها فعلى أرض المملكة يوجد الحرمان الشريفان، وللمملكة أياديها البيضاء في الاعمال الإنسانية والإغاثة ونشر الدعوة واللغة العربية في العمق الأفريقي الذي يمثل فيه جنوب السودان نقطة الانطلاقة ذلك لأن أفريقيا تعد من أفقر القارات من جهة وأكثر القارات كذلك استهدافاً بواسطة الحملات التبشيرية من ناحية أخرى، ومن أهم المؤسسات السعودية التي عملت في السودان وجنوبه لجنة مسلمي أفريقيا ومؤسسة الحرمين الشريفين وهيئة الاغاثة الاسلامية وغيرها من المؤسسات.

رغم كل هذه الجهود لكن كان للعبة السياسة الكلمة الأخيرة في فصول رواية جنوب السودان الذي ذهب مع الريح.