المُقارن بين ثورتي يناير المصرية، وفبراير الليبية،
يكتشف دون جهد، مشتركات أكيدة بين ممارسات حزبي الإخوان في مصر وليبيا، وتكاد الإجراءات
والمناورات التي اعتمدها الإخوان في البلدين تتطابق في الكثير من جوانبها، كما يُلاحَظ
كذلك تشابهٌ كبيرٌ بين ممارسات الأحزاب السلفية في البلدين، فهل يعني ذلك أن ليبيا
في حاجة إلى ثورة أخرى، مثلما حدث في مصر في 30 يونيه 2103، أم أن الأمر يختلف؟
أولا: لماذا اندلعت الثورة الأولى في ليبيا؟
خلال فترة
حكم القذافي، اشتبكت ليبيا مع قضايا وأزمات وطموحات خارجية، استنزفت الكثير من
موارد الدولة، وبقيَ المواطن الليبي، مرهونًا بنظام حكم، يعتمد الذاتية أسلوبًا في
إدارة أمور البلاد، تسيطر على الحاكم، رغبة في التفرد والتمرد على الواقع الإقليمي
والعالمي، يدشن أفكاره وقرارته ملفوفة بالغموض، وتشوش الهدف، كأنه يرسم طلاسم على
لوحة رمزية تستعصي على الفهم. يستلهم تجارب كل النظم الفاشية، في التعامل مع من
يخالفه الرأي. وكأن الحاكم، قد أصبح إلهًا يمشي على الأرض. ورغم ذلك، فقد شهدت
ليبيا نهضة تعليمية، عالية الجودة، ممتدة الأثر، أدت إلى تخفيض معدلات الأمية،
وزيادة معدلات القيد في المدارس الثانوية والجامعات.
في مثل هذه الظروف، المليئة بالمتناقضات، تحدث أزمة داخل
الحس المشترك السياسي والاجتماعي الليبي، فمن جهة لا يملك هذا الحس منع تسويغ
ممارسات الحاكم، أو معارضة أفكاره وقرارته، فيضطر العقل الجمعي الليبي، بما يملك
من وعي، إلى تحويل مسار الفعل المشترك
العام، إلى التسويغ المطلق لقرارات الحاكم المطلق، هي طريقة جمعية، طورها
الليبيون، تتماشى مع غنوصية وغموض وفاشية الحاكم، وهنا تتحول العلاقة بين الحاكم
والمحكوم، إلى مشاهد مسرحية متواصلة تحكي قصة الحاكم الملهم، الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه. لم يكن القذافي الحاكم الوحيد من بين العرب الذي تعامل مع
شعبه بهذه الطريقة، إلا أنه بزّهم جميعا في التطرف الحاد في ممارسة السلطة
المطلقة.
وتشير الدراسات وثيقة الصلة بثورات الربيع العربي، إلى
أن ارتفاع البطالة بين المتعلمين، وعدم تحقق العدالة الاجتماعية، كانا من بين
أسباب الثورة، ولا نرى هذه الحقيقة، محركة للثورة الليبية، إنما السبب الرئيس
والجوهري في انطلاق الثورة الليبية، هو الرغبة في الخلاص من نظام حكم فردي قمعي،
مارس كل موبقات الحكم المطلق، فقد اختزل القذافي، الدولة في شخصه، لذلك حين سقط،
حدث سقوط الدولة دفعة واحدة، كما يذهب محمود جبريل، ما جعل ليبيا تدخل في حالة
فراغ أمني وسياسي، وتحولت إلى الحالة الطبيعية، وفيها تلعب القبيلة الدور الأهم.
ثانيا: انطلاق ثورة فبراير2011
لقد انطلقت الثورة الليبية، وعلى الأرض أربع قوى رئيسية:
(1) الشباب
الثائر: يمثلون جماهير الطبقة
الوسطى المتعلمة، الحالمين بمجتمع ديمقراطي جديد، غير المنتمين لقوة سياسية
بعينها، المنتشرون في جميع المدن الليبية.
(2) القبائل
الليبية: والتي ساندت
رغبة أبنائها من الشباب الثائر، في توجهاته، ولم يشذ عن هذه القاعدة القبلية، سوى
عدد محدود من القبائل، التي ترتبط عصبيًا بقبيلة معمر القذافي. وبسبب انتشار
التعليم الأساسي في ليبيا، كما ذكرنا، وارتفاع الوعي، نسبيًا، استوعبت القبيلة
الليبية المخاطر والفرص التي تمنحها الثورة الليبية لأبناء الوطن، ووقفت القبيلة،
وقفات وطنية من هذه الثورة لم تقفها بعض التيارات السياسية، وقد اتضح ذلك مثلا
فيما اتصل بحادثة مقتل اللواء عبدالفتاح يونس، فقبيلته انتصرت للوطن على حسابها.
كما أن أغلب المصالحات الاجتماعية، يقوم بها شيوخ القبائل في غياب الدولة والقانون
والأجهزة الأمنية.
(3)
جماعة الإخوان المسلمين: ترجع نشأة جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا إلى عام 1949، عقب فرار ثلاثة
من الشباب المصريين من جماعة الإخوان المصرية إلى ليبيا، بسبب الاتهامات التي وجهت
إليهم في حادث اغتيال النقراشي باشا، رئيس الحكومة المصرية آنذاك. وفي أعقاب
محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في عام 1954، استقبلت ليبيا، موجة ثانية من
الإخوان، برعاية السنوسي، وهكذا انتشر تنظيم الإخوان في الداخل الليبي، دون أن
يكون له دور سياسي ملحوظ، لا سيما مع مجيء القذافي في 1969، وإصدار القانون 17 عام
1972، لتجريم الحزبية الذي يجعل من الانخراط في أي حزب أو تشكيلة سياسية جريمة
يعاقب عليها بالإعدام.
على أية حال لم يكن تنظيم الإخوان في ليبيا، مفجرًا
لثورة فبراير، تماما كحال إخوان مصر، وإنما لحق التنظيم بالثورة بعد بلوغ كتلتها
الحرجة، ولكون تنظيم الإخوان الليبي، يمتلك الكوادر في الداخل، والدعم غير المشروط
من الخارج، فقد أسس على عجل، كتيبة (17فبراير)، وتعد من أهم الكتائب العسكرية،
التي مارست دورًا مهمًا في تحديد مسار الثورة، وتولت المسئوليات الأمنية في المدن
وانتشرت في كل مفاصلها، ويلاحظ أن الإخوان كانوا من أوائل القوى الثورية التي
أعلنت عن حزبها ( العدالة والبناء).
(4)الحركة الإسلامية الليبية من أجل
التغيير: ولعبت دورا
بارزا في ثورة فبراير، حيث دعمت الجبهات بخبراتها العسكرية والتدريبية، نتاج
تجربتها في أفغانستان، ويأتي عبد الحكيم بالحاج، على رأس هذه الجماعة، الذي ظل
بعيدا عن الإعلام حتى سقوط طرابلس، حيث ظهر بوصفة شخصية رئيسية اضطلع بقيادة
المجلس العسكري في طرابلس، وتمت مأسسة الجماعة من خلال تشكيل حزب "الوطن".
ثالثا: المؤتمر الوطني العام: مأساة ما بعد الثورة