المركز العربي للبحوث والدراسات : الانتفاضة الجماهيرية فى 25 يناير والمجاز الثورى (طباعة)
الانتفاضة الجماهيرية فى 25 يناير والمجاز الثورى
آخر تحديث: الأحد 29/01/2017 04:13 م
نبيل عبد الفتاح نبيل عبد الفتاح
فى مفتتح الخطاب الفلسفى لجى ديبور فى مؤلفه الهام «مجتمع الاستعراض/ الفرجة» يقول «فى المجتمعات التى تسوء فيها شروط الإنتاج الحديثة،
تقدم الحياة نفسها بكاملها على أنها تراكم هائل من الاستعراضات، كل ما كان يُعاش على نحو مباشر يتباعد متحولاً إلى تمثيلس. جملة مفتاحية لتفسير ما بعد ثورة الاستهلاك، والتلفاز، وتنميط الأدوار والوظائف الاجتماعية، وتمثيلات فاعليها واستعراضاتهم فى الحياة، على نحو أدى إلى بروز ازدواجيات بين الحقيقى والجوهرى والمعاش، إذا ساغ هذا التفسير. فى عالم الثورة الصناعية الرابعة التى يدخلها بعض المجتمعات الأكثر تطورًا، يبدو أن صياغة ديبور الفلسفية ستتحول إلى أن كل ما هو فعلى سيتباعد إلى ما هو افتراضى أو رقمى وسبعض ما هو حقيقى سيتحول إلى مجازى وتأويلى ويبدو أن العالم الافتراضى الذى نحيا معه، ونستظل ببعض حقائقه وعوالمه ومجازاته، بات يؤثر على طرائق مقارباتنا لما هو واقعي، ومن ثم يؤثر على رؤيتنا للوقائع الهادرة التى تنهمر على حياتنا كأشخاص ومجتمعات ودول، وستؤثر عميقًا على وعينا الجمعى والفردي، وعلى إنتاج المعانى والتعريفات والتوصيفات لما يحدث حولنا وبنا، على نحو يؤدى إلى بروز صراعات تأويلية ضارية، تنتج منافسات ومشاحنات وتناقضات وتضارب فى الرؤى والتفسيرات تؤثر على مسارات حياتنا فى اللاسياسة، والسياسة، والحياة الفردية، والتفاعلات الاجتماعية، بل وفى مكوناتنا الثقافية على تعددها وتنوعها ووحدتها الأساسية. من أبرز الصراعات التأويلية تكييف طبيعة الانتفاضة الثورية الجماهيرية الكبرى فى 25 يناير وما بعد، وهل هى ثورة أم انتفاضة أم مؤامرة؟ التفسير التآمرى يعكس ثقافة شائعة وتاريخية ممتدة فى ظل التسلطية السياسية، التى تنظر بشك وريبة واتهام لكل تحرك جماهيري، أو لمجموعة ما سياسية، أو مهنية، أو عمالية، أو شبابية، أو موقف جماعى على أنه أمرُ يحمل تخطيطا ما، وأيادى ما تحركه، ومن ثم مؤامرة ما داخلية كانت أو خارجية بحسب طبيعة الجماعة ومطالبها وخطابها! هذا النمط من الفكر التآمرى يرى التاريخ والعالم مجموعة من المؤامرات الخارجية أو الداخلية. يعتمد العقل التآمرى على بعض الوقائع فى تاريخ العالم، وينزع إلى تعميمها على التاريخ الإنسانى والمصري! فى ظل تطور النظام التسلطى كانت المؤامرة تبدو بمنزلة حل سحرى لتبرير القصور فى الفكر والتخطيط السياسي، والفشل فى السياسة والأداء! من ناحية ثانية: كانت فكرة / ثقافة المؤامرة تعطى النخبة السياسية الحاكمة الفرصة لإعادة ضبط المجتمع وقمع الجماعات السياسية المعارضة، أو الشخصيات المستقلة أو الناقد للنظام. من ناحية ثالثة: استخدام المؤامرة للتعبئة السياسية وراء خطاب وأطروحات النظام إزاء معارضيه، أو خصومه الإقليميين أو فى النظام الدولي.

من هنا وصف ما حدث فى 25 يناير 2011 وما بعد على أنه مؤامرة يبدو إعادة إنتاج لفكر زغيبيس عاجز عن فهم ما جرى وأسبابه وأطرافه! ويبدو أن غالب من يطرحون يناير كمؤامرة هم جزء من تركيبة الأجهزة التسلطية، وأركان نظام مبارك الذى كان الحدث الانتفاضى مفاجأة سياسية واجتماعية صادمة ومهولة، ولا يجدون تفسيراً لها فى أخطائهم وفسادهم وجهلهم السياسى وغيبوبتهم عن زمن العالم وتحولاته، وما جرى داخل البنية الاجتماعية والجيلية فى مصر.

ثمة أيضًا جنوح نحو تحول المجاز السياسى الرقمى من الافتراضى إلى الفعلى ومن التخييلى إلى الاعتقادى فى تفسير وتأويل وقائع وتفاعلات وحالات ومآلات الحدث الكبير فى 25 يناير 2011، ووصفه بالثورة، وأحيانًا لدى بعضهم بأهم ثورات العصر! ولا بأس من توظيف المجازات فى بعض الأحيان إلا أن الاقتناع بأن المجاز هو الواقع الموضوعي، يمثل خطأ فى المقاربة وخللا فى تحليل بنية المعلومات، ويحول الواقع الفعلى إلى مجال التخييلى والمجاز السياسي، لأنه يؤدى إلى تشوش الرؤى والتحليل، ومن ثم يقود إلى إنتاج الأخطاء السياسية الفادحة. ثمة من راح تحت نشوة الحدث السياسى الجماهيرى الأكبر منذ 23 يوليو 1952 إلى التعامل معه على أنه ثورة، أو ربيع ثورى فى مصر والعالم العربي، استعارة ممن يعرف من ربيع براغ 1968! كأن المجاز السياسي، سيلهم ويحرك الجماهير، على نحو ما حاول بعضهم أن يضيف إلى مطلب الحرية مطلب الدول العدل الاجتماعي، كى يحرك العمال والفلاحين والقوى الشعبية لإحداث الثورة بوصفها تغيير بنيوى فى نظام التملك ـ وفق سارترـ أو تغيير كلى شامل فى الدولة والعلاقات الإنتاجية والطبقية وفى السياسات، وطبيعة الدولة والنظام السياسى والاجتماعي، والعلاقة بين الدين والدولة ... إلخ! من هنا كانت نشوة الحدث الكبير، والمجاز السياسى أدت إلى أخطاء فادحة فى إدارة وتوجيه الفعل الانتفاضي، مع تناسى حقائق القوة فى الواقع الفعلي، فى الدولة وأجهزتها وسلطاتها، ورجال الأعمال، ومصالح الطبقات الوسطى - العليا، والوسطى الوسطي، وطبيعة الانفلات العصبوى والجرائم فى ظل الانكشاف الأمني، والأخطر دور بعض الأطراف الدولية والإقليمية التى تريد تغيير بعض قادة النظام والنخبة الحاكمة ممن فقدوا الصلاحية والقدرة والنزاهة لقيادة البلاد، وأن مصالحهم السياسية تحول دون قبولهم بثورة شاملة فى أهم دولة إقليمية عربية، لأنها تشكل تهديدًا لمصالحهم بل وبقاء نظمهم، أو استقرارها! ثمة نقص فى المعرفة والتكوين السياسى الذى يسمح للقادمين من العوالم الافتراضية وحرياتها ومجازاتها على استيعاب وفهم الدولة القومية المصرية وثقافتها وتاريخها وبيروقراطيتها وطرائق عملها ومصالح سلطاتها وأجهزتها! أيًا كانت انتقاداتنا لها!. المجاز السياسى قد يحملُ معه بعضا من الحكمة السياسية والفلسفية فى بعض الأحيان، وفى ظل مجتمع تسوده السياسة وصراعاتها ومنافساتها وسلميتها، إلا أن المجاز السياسى قد يؤدى إلى الخيال الجامح الذى يولد الجموح أو بعضاً منه، ومن ثم إلى بعض الأخطار السياسية القاتلة، وقد يؤدى فى بعض الأحيان إلى الخّدرُ السياسي، وسرعان ما يصطدم بعودة الأفكار والسياسات أو اللاسياسات التى كانت سائدة قبل الحدث الجماهيرى الكبير، ومن ثم إلى انفجار الأزمات الكبرى المتراكمة ويجعل بعض الفئات الاجتماعية تستعيد زاستقرارس أيامها فى ظل الفساد والاستبداد وعجز الفكر المسيطر، وضعف الأخيلة السياسية، واستلاب الإرادة لدى نخبة الحكم. لن نتقدم إلى الأمام دون نقد موضوعى صارم، وفكر وخيال سياسى جديد.
نقلا عن الاهرام