المركز العربي للبحوث والدراسات : ضرورات إصلاح الوعى الدينى (طباعة)
ضرورات إصلاح الوعى الدينى
آخر تحديث: السبت 30/09/2017 11:58 ص
نبيل عبد الفتاح نبيل عبد الفتاح
الحالة الدينية فى مصر تحتاج إلى متابعة ورصد وتحليل عميق يتجاوز التحيزات الأيديولوجية والدينية والمذهبية، لأن ثمة تغيرات كمية ونوعية تؤشر إلى بعض المخاطر على أنماط التدين المصرى الذى اتسم تاريخيًا بعمق التدين، والنزعة الاعتدالية التى تزاوج بين ممارسة الطقوس الدينية والمعتقدات، وبين التكيف مع أنماط الحياة ومشكلاتها المعقدة. حالة من التجانس والتكامل والتوتر الخلاق الذى لا يصل إلى تفجير بعض التناقضات بين بعض المفاهيم الدينية، وبين مقتضيات الحياة بحلوها ومرها ومتغيراتها. يعود هذا النمط التاريخى للتدين المصري، إلى فوائض رأسمال خبراتى شعبى حول تعامل الجمهور مع الدين والحياة معًا بحيث لا يشكل أيهما عقبة أو عثرة أمام تلك الممارسة بالغة الخصوصية، المترعة بالقيمة الأخلاقية التى تمزجُ بين الدهرى الدنيوي، والدينى المتعالي، مع بعضُ من الازدواجيات والشكلانية فى ممارسة الطقوس على نحو يشير إلى توظيف بعضهم لفائض القهر السلطوى التاريخى وخبرات وملاوعات التعامل مع السلطة الغاشمة بالمراوغة والكذب، وتمثيل الطاعة والخضوع كأقنعة، ثم العبث والتحلل منها فيما وراءها!

ثمة من يوظف الطقوس، وأقنعة التدين الشكلانية، فى السعى لبناء مكانة اجتماعية وسلطة على ضمائر الجمهور ـ أيًا كانت دوائره فى القرية أو المدينة أو الحى أو الشارع أو الحارة ـ من خلال بعض الخطابات الدينية التقليدية المتشددة، والتنطع فى الغلو، وفى حفظ بعض الفتاوي، وأحاديث الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومن هؤلاء ممن لم يتلقوا تعليمًا دينيًا منظمًا، ومن ثم دورهم لا يتعدى سوى إعادة بعض المحفوظات، والمرويات والقصص الدينى القديم الموروث. غالبُ هؤلاء من دعاة الطرق، جاءوا من المصادر السلفية ، ويرمون لبناء سلطة رمزية ومعنوية دينية فى مواجهة الأزهريين، ومن ثم الغلو فى خطابهم مقصود، والتشكيك فى المؤسسة الدينية جليُّ بدعوى أنها رسمية وتميل مع السلطة حيثما تميل! بعض الجماعات الإسلامية السياسية، تخضع منتسبيها وأعضاءها لإعادة تشكيل وعيهم الديني، ونمط إيمانى مؤسس على الولاء والطاعة الصارمة للتنظيم، وللقراءة التأويلية لمنظرى ومشايخ الجماعة للعقائد والقيم الإسلامية، وهى عملية ذهنية لهندسة عقائدية للإيمان السياسى المؤدلج، لأن الهدف الرئيس سياسى بامتياز، وهو الوصول إلى سدة السلطة بالغلبة والانقلاب.

بعض البسطاء وظفوا الطقوس وإطلاق آذان الصلوات الخمس، أداة لإنتاج مكانة معنوية فى أوساط الفئات الوسطى من حراس المنازل، أو من السعاة فى المصالح الحكومية، أو القطاع الخاص- تيسر عليهم الحياة فى ظل استقطابات وسيولة طبقية، ومجتمع لا يقوم على احترام مطلق الإنسان فى كرامته وحريته وحياته اليومية المعسورة. بعض هؤلاء يغالى فى ممارسة الطقوس، على نحو يجلب الاحترام، وتيسير بعض سبل الحياة أمامهم إن أمكن. عسر الحياة، وندرة الفرص الاجتماعية، والبطالة، والتضخم والدخول المتآكلة لقيمتها وانتشار الأمراض الفتاكة والخطيرة، وتدنى مستويات الرعاية الصحية، وارتفاع تكاليفها المذهل، وتكالُب الأزمات المستمر، وغياب الأمل، دفع بعض المصريين من فئات اجتماعية رقيقة الحال، ومن الفئات الوسطى الوسطى إلى تبنى هذا الخطاب الدينى والممارسات التى يدعو لها، فى ظل أمية دينية فيما وراء أركان الإسلام الخمسة، وحفظ بعض الآيات القرآنية والأحاديث وبعض القصص القرآني، ونثارات من تاريخ الإسلام لبعض المتعلمين من هذه الفئات، فى ظل فقر المعرفة الدينية والتاريخية للإسلام الحضارة، والفنون، والسياسة والتاريخ، على الرغم من أنهم يقدمون فى بعض المدارس والجامعات على نحو مبتسر، وبمنهجيات سردية تقليدية. بعض التغير فى المعرفة والوعى الديني، والسلوك الاجتماعى حول الدين، ارتبط بالهجرة وراء الرزق فى إقليم النفط، وحيث السلفيات السائدة فى بعض دول الخليج العربي، وهى أنماط من القراءات التأويلية المتزمتة التى ارتبطت بتطور المعرفة والوعى والسلوك الدينى فى مجتمعات، لا تزال القيم الاجتماعية للبداوة هى المسيطرة، حيث القبيلة والعشيرة والعائلة الممتدة هى مكون النسيج الاجتماعي، على الرغم من أن تكون الدول حديثة النشأة والظهور. فى ظل هذه شبه المغلقة، تشكلت معرفة ووعى دينى لدى العمالة المصرية، التى استدعت بعض المفاهيم المصرية الاجتماعية، حول الخشية من الحسد، مع بعض الإدراكات السلبية حول المرأة وجسدها، وأنها مصدر للغواية والشرور، ومن ثم تضافرت ضغوط مجتمع البداوة مع بعض المفاهيم والقيم الشعبية المحافظة فى مجتمعات مغلقة إلى تبنى النقاب والقيم السلفية. هؤلاء شكلوا خزانا مستمرا لقيم وسلوكيات البداوة الدينية، بعد عودتهم للوطن، ومعهم بعض المدخرات. بعض مشايخ الطرق الآخرين، ذهبوا إلى بعض الجامعات والجوامع الدينية هناك، وعادوا يحملون شهادات دينية، وبعضهم حصل على الدكتوراه خلال شهور! وفتح أمام بعضهم لأسباب مجهولة الطرق كى يلعبوا أدوارًا ولملء فراغات، بديلاً عن الجماعات الإسلامية الراديكالية.

ثمة بعض رجال الدين الرسميين، ذهبوا مع المغالاة لبناء مكانة وسلطة دينية من خلال التشدد فى التفسيرات والتأويلات الدينية الوضعية، وفى اختيار أكثر الآراء تشددًا فى الموروث الديني، وذلك لكى يصبحوا جزءًا فاعلاً فى الأسواق الدينية ـ وفق المصطلح السوسيولوجى المعروف ـ مع مشايخ السلفية, ونجوم الإعلام الدينى المرئي، بما يحققه ذلك من نفوذ ومداخيل مالية كبيرة. بعضهم الآخر، نظرًا لتقليدية تكوينه التعليمي، وممارسته للتعليم الديني، بات ـ مع مشايخ السلفية ـ يطرح بعض موروث الفتاوى القديم فى قضايا وأسئلة لم تعد مطروحة فى حياتنا المعاصرة، كفتاوى إرضاع الكبير، وجواز إتيان الزوجة بعد وفاتها! بما يجافى الضمير والذوق الدينى والاجتماعى المعاصر، وأمور أخرى تتصل بالحياة الجنسية، تبدو غير مألوفة فى عالم متغير، كجواز الجماع مع الحيوانات! على نحو أدى إلى إثارة عديد الانتقادات الحادة، بل وصلت إلى حد السخرية من هذا النمط من الإفتاء والفتاوي. أن مخاطر هذا العقل الدينى المغلق، هو دفع بعض الناشئة من أبناء عصرنا الرقمى إلى الابتعاد عن الدين وممارساته وقيمه، والتحول إلى اللاتدين، وهو ما سوف يتحول إلى ظاهرة اجتماعية إذا ما استمرت هذه الممارسات الإفتائية الغريبة والغلو فى التفسيرات الوضعية للقيم الدينية، ومن ثم النزوع إلى الدهرية.