قصة حرب غزة في 2014
يخرج الصوت من الهاتف متحشرجاً: «خطفوني...». في الجانب الآخر يرد عامل الهاتف في الشرطة الإسرائيلية مستفسراً: «ألو؟ ألو؟»، لا مجيب، ثم يبرز صوت رجل يقول اخفض رأسك! وصوت طلقات نارية. وفي خلفية المكالمة يسمع صوت راديو. «قبضنا على ثلاثة!. صراخ وغناء.
دارت هذه المكالمة في 12 حزيران (يونيو) 2014، تاريخ خطف 3 مراهقين إسرائيليين في الضفة الغربية. ولن يعثر على جثامين الشبان الثلاثة إلا بعد 18 يوماً في حقل على مسافة 3 كيلومترات من شمال الخليل.
ومنذ لحظات البحث الأولى، افترضت عملية البحث أن الشباب فارقوا الحياة عشية اختطافهم. ولكن السلطات الإسرائيلية لم تُعدّ الرأي العام للحداد عليهم. وسارعت حكومة بنيامين نتانياهو إلى النفخ في تجييش عسكري زرع التوتر في نفوس الإسرائيليين. وتسترت الحكومة على التسجيل الصوتي في الأسابيع الأولى، على رغم أنه يقطع الشك باليقين بأن المراهقين لقوا حتفهم. فأصوات طلقات نارية تسمع في خلفيته. وطوال حزيران، ملأت شاشات التلفزة صورهم وهم يبتسمون مذيلة بأسمائهم. وهذه الحملة الإعلامية ذكّت نيران الانتقام ونفخت في أتونه، وانتهت إلى عملية إسرائيلية ضد «حماس» في قطاع غزة.
وشابَ عملُ الشين بيت (جهاز الأمن الداخلي) عثرات وبطء، فحين سعى أحد المراهقين الثلاثة إلى طلب النجدة تردد عامل الهاتف وأبلغ مسؤوليْن عنه بالمكالمة، ولكنهما خلصا، إثر الاستماع إلى تسجيلها، إلى أنها مزحة أو إنذار خاطئ. وسعياً إلى معاودة الاتصال، ولكنهما لم يبلغا الأمن الداخلي بأمر المكالمة. وبدأت عملية التقصي متأخرة ساعات كثيرة. وعثر على سيارة الخاطفين محترقة على بعد نحو 15 كيلومتراً من مكان الجثامين التي عثر عليها لاحقاً. وفُقد أثر مستخدمي السيارة طوال 3 أشهر. ويؤكد جهاز الشين بيت أنه حدد هوية الخاطفَيْن بعد أقل من 24 ساعة على الخطف، ولكنه أرجأ إعلان اسميهما الى 26 حزيران، وهما مروان قواسمة وعامر أبو عيشة من الخليل، المسقط التاريخي للكفاح ضد إسرائيل في الضفة الغربية. والأول اعتقل للمرة الأولى يوم كان في الثامنة عشرة. ومنذ إطلاق سراحه، اعتقلته القوات الإسرائيلية 4 مرات. والثاني اعتقل ووالده مرتين، وتوفي شقيقه في 2005 حين كان يعد متفجرة. وعشية 30 حزيران، بعد التعرف إلى الجثامين، جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي مسؤولي الشؤون الأمنية. وفي خطاب تلفزيوني قال إن المراهقين الثلاثة خطفوا وأرداهم «متوحشون» بدم بارد، وإن «حماس» ستدفع الثمن. ولكنه لم يقدم بينة على اتهامه «حماس»، ورسم معالم مواجهة عسكرية معها. ومنذ اختطاف جلعاد شاليط في غزة والإفراج عنه إثر عملية مفاوضات في مقابل إطلاق آلاف السجناء، صار الخطف سلاحاً أثيراً على «حماس». وقبل أسبوع من العثور على جثامين القتلى، أعلن خالد مشعل في مقابلة مع «الجزيرة» أنه لا يسعه نفي أو تأكيد ضلوع «حماس» في الخطف. وتصريحاته لم تبدد غموض عملية الخطف التي بدا أنها باغتت رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في وقت لم يمض على تشكيل حكومة المصالحة الوطنية مع «حماس» سوى أسبوعين بعد فشل وساطة جون كيري بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ونتانياهو طعن في المصالحة مع الحركة «الإرهابية». ولم تلجأ حكومته إلى إحالة المسألة على تحقيق جنائي كلاسيكي، ورأت أن المس بأبناء إسرائيل هو المس بها. وفي هذه الأجواء المتوترة، شنت قوات الأمن عملية في الضفة الغربية بحثاً عن المراهقين، دامت 3 أسابيع، وانتهت الى مقتل 9 فلسطينيين مدنيين وسقوط عشرات الجرحى في مواجهات مع الجنود، واعتقال حوالى 400 متعاطف مع «حماس» أو عضو فيها، منهم 54 سجيناً فلسطينياً أفرج عنهم في عملية تحرير جلعاد شاليط. وفرض حصار على منطقة الخليل، موئل الانتفاضات السابقة. ورابط الجنود الإسرائيليون في أعالي أكبر مدينة في الضفة التي تحصنها سلسلة مغاور وجداول مائية ومخابئ طبيعية، ووجهوا أسلحتهم الى المدينة والقرى المحيطة بها، وشنت دورياتهم الليلية حملات دهم حطمت أبواب المتاجر المعدنية الثقيلة أو ألحقت بها الضرر.
ودانت منظمة العفو الدولية «القصاص الجماعي» الذي أنزلته إسرائيل بالفلسطينيين، واقترح نائب وزير الدفاع الإسرائيلي قطع الكهرباء طوال أيام عنهم. ولم تخف الحكومة الإسرائيلية استهدافها كل المتهمين، أي كل المتعاطفين مع «حماس». وشرح مصدر في الحكومة هذه السياسة قائلاً:» نريد توجيه رسالة إلى حماس التي حسبت أن عمليات الخطف هي نقطة ضعفنا، وأنها وسيلة الى نيل ما تريد». ولكن أحمد الطيبي، النائب في الكنيست الإسرائيلية والمحامي المدافع عن حقوق العرب الإسرائيليين، ندد بعدم تكافؤ الرد الاسرائيلي ودحض مزاعم حكومة نتانياهو قائلاً: «يزعمون أن الأوضاع تدهورت إثر الانقلاب، وهذا ضعيف الصلة بالواقع وكذب. قبل أسابيع من عملية الخطف، قتل جنود إسرائيليون مراهقين فلسطينيين في السادسة عشرة من العمر. وحين يُقتل شباب فلسطينيون، علينا ألا ننبس ببنت شفة، ولكن حين يقتل 3 إسرائيليين تندلع الحرب».
وفي وقت كانت عجلة التحقيق تدور، التزمت وسائل الإعلام الصمت على ما يقضي العرف القانوني. لكن وسائط الاتصال الاجتماعي لم تلتزم أي قيد في التجييش. وانتشرت حملة وبائية على «فايسبوك» و «تويتر» ترفع لواء «أعيدوا شبابنا»، الذي يحاكي شعار «أعيدوا بناتنا» الذي انتشر عالمياً إثر خطف بوكو حرام 273 تلميذة في نيجيريا. وذاعت في أوساط بعض الإسرائيليين الشباب والجنود دعوات إلى الانتقام. وانهمر وبال النقد على السلطة الفلسطينية من كل حدب وصوب. وألقى نتانياهو مسؤولية سلامة المراهقين الثلاثة عليها، على رغم أن عملية الخطف نفذت في المنطقة «جيم» الخاضعة للسلطة الإسرائيلية، العسكرية والمدنية على حد سواء. وشنت «حماس» هجوماً إعلامياً على السلطة ودانت تعاونها الأمني مع «المحتل للقبض على أبطال عملية الخليل...».
في الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، رجحت كفة المتطرفين. وأمرت السلطة الشرطة بحظر التظاهرات في الضفة الغربية، فنفخت في الغضب الشعبي عليها. ودعا مسؤولون في حماس و «الجهاد الإسلامي» إلى «انتفاضة ثالثة». ولم يحرك اليسار الإسرائيلي ساكناً، فهو يمر في أزمة هوية. وبرز المستوطنون قوة منظمة وراجحة، شأن حلفاء حزب الليكود المتطرفين. وإثر العملية الأمنية في الخليل، زادت وتيرة إطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل. ويرى مراقبون أن نتانياهو سعى إلى تجنب شن حرب على غزة والانزلاق الى ما ينفلت من عقال السيطرة، فاتُّهم بالضعف.
وكانت «حماس» تعاني عزلة تفاقمت منذ سنة ونصف سنة جراء الحصار الإسرائيلي وتدمير مصر الأنفاق على حدودها، وتوتر علاقات الحركة بحليفيها التقليديين سورية وإيران، وكانت تخشى منافسة مجموعات إسلامية لها وإطاحتها عن عرش المقاومة، فلجأت إلى خطابات عدائية وإطلاق الصواريخ.
ومع العثور على جثامين المراهقين الإسرائيليين في 30 حزيران المنصرم، انفلت الغضب من كل عقال على شاشات التلفزيون ومنابر التواصل الاجتماعي، وتجمع شباب في القدس وهتفوا «الموت للعرب». وعلى رغم أن الشرطة الإسرائيلية لاحقت بعضهم، تسامحت معهم. وبدأت إسرائيل غارات مكثفة على غزة، وقتل إسرائيليون محمد أبو خضير، وهو شاب فلسطيني في السادسة عشرة من أبناء القدس الشرقية. وغلبت شريعة العين بالعين. وإثر الإعلان عن الجريمة، عمت الاضطرابات القدس الشرقية ومدن عرب إسرائيل: شباب خسفت خدودهم من مواجهات الليلتين الماضيتين، بدأوا يدعون إلى انتفاضة جديدة ويرمون الحجارة على الشرطة ويشعلون إطارات. واعتقلت الشرطة مئات من المشاركين في الشغب. وبعد أيام من العثور على جثة محمد أبو خضير، اعتُقل مرتكبو الجريمة الإسرائيليون.
وفي الأثناء، تواصلت الغارات على غزة، ودارت عجلة الحرب، وسقط التحقيق في جريمة قتل المراهقين الثلاثة من سلم الأولويات، شأن تقصي الحقيقة والسعي الى مفاوضات. وصار شاغل إسرائيل تدمير «قدرات حماس العسكرية».
وبعد شهر على وقف النار في غزة، أردت القوات الإسرائيلية مروان قواسمة وعامر أبو عيشة المشتبه في ارتكابهما جريمة قتل الشبان الثلاثة. وإلى اليوم، لم يثبت أن «حماس» تقف وراء العملية. نقلا عن الحياة
* صحافيون، عن «لوموند» الفرنسية، 23-24/12/2014 إعداد منال النحاس