المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

صناعة القرار السياسي في إيران ومنهج إدارة الأزمات (3-3)

الأحد 29/ديسمبر/2013 - 01:17 م
    خريطة الجمهورية
خريطة الجمهورية الإيرانية الإسلامية
لواء أ.ح. متقاعد/ حسام سويلم
العوامل الرئيسية المؤثرة في صنع القرار:

تؤثر عوامل عديدة في صناعة القرار الإيراني، تتدرج معظمها تحت نظرة التفوق العرقي والطائفي والإقليمي لدى المحافظين الحاكمين في إيران، فمنها ما هو أيديولوجي، مثل عقيدة “,”عودة المهدي، وولاية الفقيه، والتقية“,”، والسعي لنشر المذهب الشيعي في المنطقة تحت مبدأ “,”تصدير الثورة الإسلامية “,”، ومنها ما هو عرقي يتعلق بأفضلية العرق الفارسي واستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية القديمة، ومنها أيضًا ما يتعلق بمشاكل التعدد العرقي والمذهبي في إيران، وهو مما يتمثل في وجود أقليات كبيرة غير فارسية وغير شيعية ذات نزعات انفصالية، وكذلك المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه إيران، وتراجع مؤيدي نظام الحكم الديني في أوساط الشعب الإيراني؛ وعدم تواؤم الغايات والأهداف القومية الطموحة مع القدرات والإمكانات الذاتية لإيران، خاصة على الصعيد التقني.

أما على المستوى الخارجي، فإن الرفض الدولي والإقليمي لنظام حكم الملالي في إيران، وما رفعه من شعارات حول معاداة العالم الغربي، وفي مقدمته الولايات المتحدة التي يصفها قادة النظام الإيراني بـ“,”الشيطان الأكبر“,”، وإسرائيل باعتبارها “,”الشيطان الأصغر“,”، وما برز من توجهات توسعية لنظام الحكم الإيراني على حساب دول الخليج العربية.. مثَّل احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، والتدخل في الشئون الداخلية لهذه الدول والعراق، ثم دعم هذه التوجهات التوسعية بالبرنامج النووي ذي الطبيعة العسكرية.. كل ذلك أشعل مخاوف الدول الكبرى من إيران وطموحاتها، خاصة مع دعمها عناصر إرهابية على الساحة العالمية مثل القاعدة؛ الأمر الذي جعل إيران تواجه تهديدات خارجية فوق طاقتها، ليس فقط من قبل قوى إقليمية مثل إسرائيل، ولكن أيضًا من قبل دول عظمى، على رأسها الولايات المتحدة، ترفض بشدة أن تمتلك إيران قوة عسكرية ضخمة تقليدية وفوق تقليدية مدعومة بسلاح ردع نووي. كل هذه العوامل مجتمعة، وغيرها، كان لها تأثير بالغ على تشكيل وصياغة أسلوب صنع القرار السياسي في إيران، خاصة القرارات المتعلقة بقضايا الحرب والسلام. وسنتناول أبرز هذه العوامل بشيء من التفصيل، على النحو التالي:

(أ) نزعة التفوق العرقي والطائفي والإقليمي:

كثيرًا ما تُتَّهم إيران بأن لها أحلامًا تتركز على بسط هيمنتها على المنطقة، خاصة منطقة الخليج. والواقع أن من ينكر -سواء من الإيرانيين أنفسهم أو من غيرهم- بأن ليس لطهران أي رغبة باحتلال الخليج، سواء اقتصاديًّا أو عسكريًّا أو شعبيًّا، فإنما ينكر واقعًا ملموسًا وحقيقة لا لبس فيها، وهي أن لدى إيران -أيَّا كانت قيادتها أو توجهها أو أيديولوجيتها- اعتزازًا بنزعتها وتفوقها. ففي ظل قيادة الثورة الإسلامية الحالية، يمكن لنا أن نحدد أشكالاً ثلاثة من الشعور الزائف بالتفوق الذي تعمل القيادة الحالية لإيران على تطبيقه، وهي كالتالي:

§ الأول: التفوق العرقي:

وهو نتيجة الاعتزاز باستمرار تفوق النزعة العرقية الفارسية، وأمجاد الإمبراطورية الفارسية والساسانية، التي حطمها المسلمون، وبخاصة العرق العربي المسلم. فالقوميون الفرس لا يزالون، حتى وإن أنكروا ذلك، يتذكرون بألم وحسرة، الهزيمة المذلة التي أذاقها العرب المسلمون لجموع وجيش الإمبراطورية الفارسية، وفُتحت على أثرها بلاد فارس للمسلمين، والتي -وحسب قول البعض- لا تزال تُقلق مضاجع هؤلاء القوميين الفرس، حتى بعد دخولهم الإسلام، وحتى مرور قرون عديدة على سقوط إمبراطوريتهم. ويتضح ذلك فيما يتعرض له عرب الأهواز (سكان عربستان)، الذين تم ضم أراضيهم وإلحاقها بدولة إيران الحديثة، من التمييز العرقي؛ وهو ما قد تستخدمه الولايات المتحدة لاحقًا كورقة لتفتيت أراضي الثورة الإيرانية بعد الانتهاء من إخضاع باقي دول المنطقة، وإعلان دولة عربستان إذا ما سارت الأمور عليه كما هو مخطط لها. هذا بالإضافة إلى ما تعانيه العرقيات الأخرى غير الفارسية من التمييز العرقي، كالعرق الكردي والتركي والأذري والبلوشي، وأقليات عرقية أخرى قوقازية تشكل كلها الجمهورية الإيرانية الإسلامية.

§ الثاني: التفوق الطائفي:

وهو حمل لواء الدفاع عن الشيعة، خصوصًا المذهب الجعفري. فإيران الفارسية والمسلمة تعتبر نفسها حامية المذهب الجعفري والمدافعة عنه في كل بقعة من بقاع الأرض. ولا يمكن أن نغفل ما صرح به الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بخصوص الاعتزاز بالتفوق الطائفي. فقد نقلت رويترز ونشرتها جريدة “,”الشرق الأوسط“,” بتاريخ 19/11/2005 قوله بأن “,”المهمة الرئيسية لثورتنا هي تمهيد الطريق لظهور الإمام المهدي الثاني عشر. لذلك يجب أن تكون إيران مجتمعًا قويًّا متطورًا ونموذجًا إسلاميًّا“,”.

§ الثالث: التفوق الإقليمي:

وهو الإيمان بأن إيران دولة إقليمية كبرى في منطقة الشرق الأوسط بل حتى في آسيا؛ ولذلك فيجب أن تكون لها كلمة مسموعة وسياسة لها وزن على الساحة الدولية، ويتمثل ذلك بضرورة امتلاكها للسلاح النووي، والذي من أول أهدافه ليس ردع الولايات المتحدة، بل لإشهاره والتلويح به ضد الدول المجاورة والدول الخليجية خاصة؛ لإجبارها على قبول حقيقة أن إيران كانت شرطي المنطقة أيام الشاه، ويجب أن تكون أيضًا شرطي المنطقة اليوم وغدًا، وأن يكون لها اليد الطولى والكلمة المسموعة، والتي ستتولى مسئولية التفاوض والتحدث باسم دول المنطقة أمام الدول والقوى العظمى. ذلك الشعور الإيراني بالتفوق الثلاثي العرقي والطائفي والإقليمي، يتضح بشكل لا لبس فيه عبر ثلاث حوادث أو شواهد حقيقية شاهدها العالم ويشاهدها، وهي كالتالي:

(أ‌) حرب الأعوام الثمانية:

لا شك أن صدام حسين -حاكم العراق السابق- ليس هو المتسبب الوحيد في إطالة أمد حرب الأعوام الثمانية التي أنهكت وتسببت في مقتل آلاف المسلمين. فبعض ملالي طهران وتجار الحروب اعتقدوا أنهم أمام فرصة تاريخية لن تتكرر؛ لتوسيع أراضي أول دولة جعفرية في العصر الحديث، وذلك باحتلال العراق، أو على الأقل احتلال العتبات المقدسة، والتي ستحقق لهم وبشكل لا لبس فيه سيطرتهم وقيادتهم الدينية والروحية والسياسية، لاتباع المذهب الجعفري الاثني عشر. ولهذا فإن زعماء الثورة اعتبروا أن هذه الحرب، هي حرب مقدسة وواجب ديني يحتمها التفوق الطائفي على كل المذاهب الإسلامية الأخرى، بما فيها المذهب الإسماعيلي والزيدي الشيعي. ويمكن التأكد من ذلك الأمر بمسألة الوقوف ضد طالبان. فلا أحد ينكر الاختلاف الكبير بين مذهب وعقلية وأيديولوجية كل من إيران الشيعية وسلطة طالبان السنية؛ ولهذا فلا يمكن التصور مطلقًا بأن إيران الثورة، التي تؤمن بأنها حامية المذهب الجعفري يمكن أن تتفق مع طالبان، التي تؤمن أيضًا أنها حامية المذهب السني. أما تصريحات طهران السابقة للغزو الأمريكي لأفغانستان، والتي أكدت فيها إيران وقوفها على الحياد، فهي مجرد تصريحات صحفية لا أكثر ولا أقل. أما الفعل فهو العمل قدر المستطاع، ليس فقط لإزالة دولة سنية متشددة تشترك حدودها مع طهران، بل والوقوف مع الولايات المتحدة “,”الشيطان الأكبر“,” والتنسيق معها ضد طالبان إبان الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001.

(ب‌) الغزو الأمريكي للعراق:

لا شك أيضًا بأن صدام حسين وحزب البعث العربي الاشتراكي، كانا يعتبران العدو رقم واحد، وأكبر شياطين الإنس والجن في نظر مُنظري النزعة القومية الفارسية. فقومية صدام، التي وصفها المحافظون في طهران بأنها “,”قومية الجاهلية“,”، كانت قومية عربية ذات تاريخ وهوية وتراث وحضارة، ضد أحلام إعادة أمجاد الإمبراطورية الساسانية، التي كان يبشر بها القوميون الفرس، للانتقام من العرب، الذين كانوا العمود الفقري للدولة الإسلامية الحديثة، التي أسسها الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، والتي -كما يقولون- أطفأت نار المجوسية ودمرت حضارة بلاد فارس. ونظرًا إلى استمرار النزعة القومية الفارسية، تم ضم إقليم عربستان والجزر العربية الإماراتية الثلاث، وبعدها التهديدات الإيرانية باحتلال البحرين، وبعدها التهديدات ضد بعض دول الخليج، حتى وصل الأمر إلى محاولة احتلال العراق بعد الغزو الأمريكي له بواسطة عناصر إيرانية سواء كانوا رجال دين أو قادة أحزاب أو عناصر استخباراتية وحرس ثوري، أو عن طريق تجنيد عناصر عراقية من أصول فارسية للانخراط بفيالق وألوية وميليشيات مسلحة فارسية أو موالية لطهران.

(ج) الأزمات السياسية والإعلامية:

إن إيران تنطلق من سياسة “,”خير وسيلة للدفاع هي الهجوم“,”، فسياسة طهران، وبدلاً من تلقي الضربات والتهديدات، فإنها تعمد إلى التهديد، سواء السياسي أو الإعلامي، حتى تحقق هدفين:

- الهدف الأول: هو إبقاء الوضع متوترًا في المنطقة، من خلال مسألة الوضع النووي الإيراني، والتلميحات الإيرانية بقدرتها على الرد النووي إذا ما تمت مهاجمة إيران. فإبقاء الوضع متوترًا يعني أن جيران إيران لن يسْلموا من شظايا ونيران أي هجوم أمريكي ضد طهران، أي أن إبقاء الوضع متوترًا يعني أن دول المنطقة ستشترك في الحرب طوعًا أو كراهية؛ لأنها حليفة لواشنطن؛ وبالتالي فصديق عدوي هو عدوي.

- الهدف الثاني: هو إرسال رسالة إلى كل من واشنطن ودول المنطقة، بأن القوة الإقليمية المهيمنة على منطقة الخليج هي إيران؛ إذ لا يجرؤ أحد على فعل ما تفعله طهران بتهديداتها العلنية والجادة لأقوى دولة في العالم. وبهذا فإن التفوق الإقليمي الإيراني، سيكون واقعًا وحقيقيًّا أمام أعين كل من واشنطن وباقي دول الخليج. ناهيك عن استمرار الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث، ومن قبلها الأحلام الإيرانية بالبحرين، وهو تكريس لشعور الإيرانيين بنزعة التفوق الإقليمي.

(ب‌) عقيدة عودة المهدي المنتظر وولاية الفقيه:

عندما دعا هاشمي رافسنجاني -خلال حملة انتخابات الرئاسة في إيران عام 2005- منافسه أحمدي نجاد إلى التريث في السعي لامتلاك السلاح النووي، وطالبه بالتهدئة مع الغرب، رد عليه نجاد قائلاً: “,”إنني لا أتلقى الأوامر في هذا الشأن إلا من صاحب الزمان الإمام المهدي، أو من السيد الولي الفقيه“,”، ويقصد به المرشد خامنئي. وهو ما يعني أن كل السياسات والإستراتيجيات الصادرة عن نظام الحكم الإيراني بحكومته وأجهزته المتعددة السابق الإشارة إليها، تنطلق من عقيدة “,”عودة المهدي المنتظر“,”، و“,”ولاية الفقيه“,”، التي تربط بين الولاية الدينية والسلطة السياسية، وتغليب الأيديولوجية على البراجماتية (المصلحة)، وطغيان التوجه المتشدد على عملية صنع القرار، والارتداد مرة أخرى إلى مرحلة الثورة، التي عاشتها إيران طوال الثمانينيات، على حساب مرحلة الدولة التي بدأت بتولي رافسنجاني الرئاسة (1989 - 1997)، ثم وصول الإصلاحيين بقيادة خاتمي للرئاسة (1997 - 2005).

ويرجع هذا التحول إلى النشاط الذي برز في المبادئ والشعارات الأيديولوجية التي تبنتها جمعية (الحجتية) ومدرسة “,”حقاني“,” الدينية التابعة لها، والتي رغم أنها ألغيت رسميًّا في 1983 بعد ضغوط الخميني، فإن مبادئها ما زالت حية ومتداولة، خاصة وأن نجاد نفسه وقسمًا من طاقم حُكمه يؤمن بها، فقد كان نجاد من مريدي آية الله مصباح يزدي، المرجع الديني في الحوزة العلمية في مدينة “,”قم“,”، والذي يحمل راية (الحجتية) في الوقت الراهن. وتشكل مبادئ هذه الجمعية -خاصة فيما يتعلق بالمهدي المنتظر وولاية الفقيه- إطارًا يحكم توجهات الفريق الحاكم ويضبط تفاعلاته. ومن هنا يمكن تفسير أهمية الأحاديث المتكررة لأحمدي نجاد عن قرب عودة المهدي المنتظر، وأن إيران تمثل قاعدة ظهور المهدي، وأن نظام ولاية الفقيه هو العمود الفقري للنظام الإيراني. والمهام الرئيسية للحكومة، كذلك تصريحاته الأخرى حول محو إسرائيل من الوجود أو نقلها إلى أوروبا.

والمهدي المنتظر -وفقًا للمذهب الشيعي- هو الإمام الثاني عشر “,”أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري“,”، والذي يعتقد الشيعة أنه ينحدر من نسل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه اختفى عام 941 ميلادية، لكنه سوف يعود مرة أخرى ليقتل المسيح الدجال، ويقتل أيضًا كل من لا يؤمن بالمذهب الشيعي حتى من المسلمين، ويقود عهدًا من العدالة الإسلامية. وقد انعكس اعتقاد نجاد في هذه القضية عندما خصص قسمًا كبيرًا من خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 15 سبتمبر 2006 للحديث عن المهدي المنتظر، وتأكيده أن هالة من النور كانت تحيطه أثناء إلقاء الخطاب. كما قال أمام خطباء الجمعة الإيرانيين -في 18 نوفمبر 2006- أن المهمة الرئيسية للثورة هي “,”تمهيد الطريق لظهور الإمام المهدي الثاني عشر“,”. لذا -وفي رؤيته- يجب أن تكون إيران مجتمعًا قويًّا متطورًا ونموذجًا إسلاميًّا، وأن لا خوف من بروز الاضطرابات والتوترات والحروب والإرهاب؛ لأن ذلك في معتقده من الإرهاصات التي تسبق ظهور المهدي وتمهد لهذا الظهور.

أما الأغرب والأخطر من ذلك، فهو التقرير الذي نشرته صحيفة “,”انتخاب“,” الإصلاحية، عن أن الرئيس نجاد وطاقم حكمه وقَّعوا ميثاقًا مع المهدي المنتظر في أول جلسة لمجلس الوزراء، وكلَّفوا وزير الثقافة بإلقائه في بئر “,”جمركان“,” في مدينة قم، والذي يعتقد الشيعة أن أم المهدي ألقت بابنها فيه عندما كان عمره أربع سنوات خوفًا من بطش الحكام الفرس، وهو البئر الذي لا يزال يزوره آلاف الحجاج الشيعة أسبوعيًّا، ويرمون فيه رسائل وأموالاً ونذورًا إلى المهدي. وفي الجلسة الثانية للمجلس اقترح وزير النقل والطرق الاستفادة بأموال النذور المتجمعة في البئر لإنشاء طريق طهران - جمركان، إلا أن نجاد رفض الاقتراح، مؤكدًا أن حكومته لم تأت من أجل قيادة الشعب، بل من أجل التمهيد للمهدي المنتظر.

وترتبط عقيدة عودة المهدي المنتظر بعقيدة ولاية الفقيه؛ باعتبار أن الولي الفقيه (حاليًّا خامنئي) هو الذي ينوب عن إمام الزمان الغائب حتى عودته. ولكن يوجد انقسام فقهي حول حدود هذه الولاية: هل هي ولاية مطلقة يستخدم فيها الولي الفقيه كافة صلاحيات المهدي المنتظر، أم أنها ولاية مقيدة بإطار شرعي. وينعكس ذلك على رؤية نجاد لدور رئيس الجمهورية وللمهدي، وهي تختلف إلى حد بعيد عن رؤية سلفييه رافسنجاني وخاتمي. فالأخيران -مع الفارق- يعتقدان أن المهمة الأساسية لرئيس الجمهورية تنفيذية في المقام الأول، أي الاهتمام بالشئون المادية وعدم إعطاء الأولوية لقضية دينية مثل المهدي المنتظر، والتي تبدو في رؤيتهم حقيقة مجازية مرتبطة بنهاية العالم، وليس لها علاقة بالواقع الحالي أو بالظروف الداخلية والخارجية التي تمر بها إيران. وفي المقابل فإن نجاد يعتقد أن مهمته الرئيسية تتمثل في تهيئة الظروف لظهور المهدي المنتظر. ويرتبط هذا المعتقد بقضية الملف النووي؛ حيث يعتقد نجاد وطاقم حكمه بأن امتلاك التكنولوجيا النووية مرتبط بظهور المهدي المنتظر، ومن ثم فإن المضي قُدمًا في طريق امتلاك التكنولوجيا النووية وتجاهل الضغوط الدولية، حتى ولو وصل الأمر إلى تكثيف العقوبات الدولية على إيران، يمثل شرطًا أساسيًّا لظهور المهدي المنتظر الذي يحب عند عودته أن يجد إيران قوية تمتلك التكنولوجيا المتطورة، خصوصًا “,”النووية“,” باعتبارها عنوان التقدم في العالم المعاصر. والأمر نفسه ينطبق على محو إسرائيل من الوجود، أو على الأقل نقلها من الأراضي الفلسطينية، والذي يعد من الوسائل المهمة -طبقًا لرؤيتهم- التي تهيئ وتسرع بظهور المهدي المنتظر.

(ج) تطبيق مبدأ “,”التُقية“,” الشيعي في السياسة الخارجية:

ويرتبط بهذه العقيدة الدينية، مبدأ آخر مهم؛ لما له من بعد سياسي، وهو مبدأ “,”التقية“,” عند الشيعة. وتعني إخفاء الأهداف الحقيقية، وخداع وتضليل الخصوم عنها، بإطلاق تصريحات وإجراء ممارسات تنم عن توجهات عكسها تمامًا. وقد برز هذا المبدأ (التقية) بوضوح في تسهيل مهمة القوات الأمريكية لغزو أفغانستان ثم العراق، وإمداد الولايات المتحدة بكافة المعلومات التي يسرت لها ذلك، وعدم معارضة الغزو الأمريكي لهذين البلدين، حتى تم توريط الولايات المتحدة فيهما، وأصبح وجود قواتها في البلدين تحت رحمة الاستنزاف من قبل إيران، والتوقف عن ذلك مشروط بقبول الولايات المتحدة للنفوذ الإيراني في المنطقة. كما اتضح مبدأ التقية أيضًا في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني؛ حيث أدخلت إيران المفاوضين الأوروبيين، ثم مجموعة دول 5+1 في متاهات التفاوض التي لا نهاية لها؛ بغرض كسب الوقت والحصول على مزيد من الحوافز حتى تستكمل إيران مراحل برنامجها النووي. وأيضًا في التعاون الذي يمارسه فيلق القدس التابع للحرس الثوري مع تنظيم القاعدة، رغم الاختلاف الجوهري بين المذهب الشيعي الإيراني، والمذهب السني الذي تعتقده القاعدة، والحرب الإعلامية بينهما. فلا تزال إيران تستضيف على أرضها كوادر كثيرة من تنظيم القاعدة أبرزها “,”سيف العدل“,”، الرجل الثالث في تنظيم القاعدة، واثنين من أبناء أسامة بن لادن، وحوالي 500 عنصر من كوادر القاعدة، كذلك في إيوائها زعيم “,”الحزب الإسلامي“,” الأفغاني قلب الدين حكمتيار، وهو سني، تم دفعه بعد ذلك إلى أفغانستان للتحالف مع طالبان وإمدادهما معًا بالأموال والسلاح؛ لمحاربة قوات الناتو ونظام حكم الرئيس الأفغاني حامد قرضاي، رغم أن حركة طالبان تعتنق المذهب السني، وسبق لها أن أعدمت ستة (6) دبلوماسيين إيرانيين عندما كانت تسيطر على أفغانستان.

ومن مظاهر التقية أيضًا في السياسة الخارجية الإيرانية، أنها رغم هجومها الشديد على إسرائيل، ووصفها “,”بالشيطان الأصغر“,”، وتنبؤ نجاد بزوالها، فإن إيران تحتفظ معها بعلاقات تحتية متعددة، وتعاون سري خاصة على الصعيد التجاري. ولا يخفى على أحد فضيحة “,”إيران - جيت“,” في الثمانينيات، والتي كشفت عن إمداد إسرائيل لإيران بالأسلحة والذخائر بغطاء أمريكي؛ لدعم إيران في حربها ضد العراق، إلا أن الجديد في مجال العلاقات السرية بين إيران وإسرائيل ما كشفت عنه تقارير أجهزة مخابرات أوروبية عن وجود شبكة إسرائيلية - إيرانية للتعاون التجاري بين البلدين، وذلك رغم التحريض الذي تشنه إسرائيل ضد إيران في جميع وسائل الإعلام، وتطالب الولايات المتحدة وأوروبا والعالم بتشديد العقوبات الاقتصادية والتجارية والنفطية والمالية ضد إيران.

فقد أثبتت هذه التقارير أن إسرائيل التي تشن هذه الحملة التحريضية ضد إيران، لا تلتزم بهذه العقوبات، ولا حتى بقوانينها التي تحرم التعاون مع دولة عدوة، وهي بالتالي تلعب دورًا في إنقاذ الاقتصاد الإيراني وفي تمويل نظام حكم الملالي بالعملة الصعبة، وفي تسويق نفطه عالميًّا. فلم يعد خافيًا التقارير الصادرة عن جهات متخصصة في عالم النفط تؤكد أن إسرائيل تمنح الأفضلية منذ سنوات لشراء النفط الإيراني، وهو ما سبق أن اعترف به وزير الطاقة الإسرائيلي السابق موشى شاحال. وقد كشفت الحكومة السويسرية منذ أسابيع عن حجم الاستيراد الإسرائيلي للنفط الإيراني، وأنه بمليارات الدولارات ومستمر منذ عشرات السنين، وأن هناك شبكة وسطاء إسرائيليين تنشط في أوروبا، خصوصًا في ميناء روتردام، حيث تتواجد ناقلات النفط الإيرانية والإسرائيلية لعقد الصفقات النفطية لحساب شركات تكرير النفط الإسرائيلية بأسماء شركات أوروبية، ثم يتم نقل هذه الكميات الضخمة إلى ميناء حيفا، وتبرز في هذا المجال دور شركة أنابيب عسقلان - إيلات الإسرائيلية في استيراد النفط الإيراني. وكانت هذه الشركة قد أنشئت في عام 1968 في عهد الشاه كشركة إسرائيلية- إيرانية مشتركة لنقل النفط من إيران إلى أوروبا، ولبناء خط أنابيب إلى حيفا.

كما يتحدث أحد التقارير مطولاً عن استيراد إسرائيل لكميات كبيرة من الفستق الإيراني تفوق قيمتها السنوية عشرين مليون دولار، وذلك على حساب أكبر حلفائها، وهي الولايات المتحدة. فقد نقل السفير الأمريكي في إسرائيل إلى رئيس وزراء إسرائيل (أولمرت) رسالة احتجاج أمريكية شديدة اللهجة، لافتًا إلى استمرار هذه “,”الفضيحة“,” رغم احتجاجات أمريكية سابقة، وإلى مشاركة إسرائيل في حرمان زراع الفستق الأمريكي لحساب الإيرانيين! وتحدثت تقارير استخباراتية أوروبية أخرى عن وجود خبراء زراعيين إسرائيليين مازالوا يصلون إلى إيران بجوازات سفر مختلفة، هذا إلى جانب اتفاق سري بين الإسرائيليين والإيرانيين على إخراج اليهود من إيران عبر منظمات يهودية - أمريكية متطرفة.

(د) امتلاك التقنية النووية بإنتاجها محليًّا:

تتجه الأزمة النووية الإيرانية في المرحلة الحالية نحو منعطف جديد، وذلك مع انتهاء المهلات المتتالية التي أعطتها مجموعة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا (5+1) لإيران للرد بشكل قاطع (نعم أو لا) على المطلب الأساسي في سلة الحوافز التي عرضتها هذه المجموعة على طهران، وهو إيقاف عمليات التخصيب بشكل نهائي أو مواجهة المزيد من العقوبات الدولية. لذلك يمثل التخصيب لب الملف النووي الإيراني؛ لأن وقفه يعني إقفال الباب بإحكام أمام الطموحات النووية لإيران، والتي لا تجد طريقها للتحقق إلا باستمرار عمليات التخصيب، وهو ما ترفضه إيران وتناور حوله بإبداء استعدادها لإجراء إيقاف مؤقت لبضعة أشهر في مقابل سحب ملفها النووي من مجلس الأمن وإلغاء العقوبات، وكسبا للوقت حتى تتغير الأنظمة الحاكمة في الدول الغربية المعادية لها. لذلك يعتبر عامل الوقت مؤثرا بدرجة كبيرة في إدارة إيران لأزمتها النووية؛ وهو ما ترفض واشنطن وحلفاؤها منحه لطهران، في حين تراهن الأخيرة على كسب مزيد من الوقت لاستكمال برنامجها النووي من جهة، وإحداث تغير في الموقف الدولي المعادي لها من جهة أخرى يتلاءم ومصالحها.

وتعتبر التقنية عاملاً مؤثرًا -بل وفائق الأهمية- في إدارة إيران لأزمتها النووية. ذلك أن عمليات التخصيب تتطلب الاستمرار في متابعتها وإلا فقدت جدواها التقنية. فلو افترضنا أن إيران قبلت بالتوقف عن التخصيب مؤقتًا، فسيكون عليها البدء من الصفر في حال قررت العودة إليه لاحقًا، فقد سبق أن أوقفت طوعًا عمليات التخصيب في عام 2004، وعندما عادت إليها في عام 2006 وجدت نسبة كبيرة من آلات الطرد المركزي المستخدمة في عمليات التخصيب تعطلت وعلاها الصدأ. ورغم أن سلة الحوافز التي قدمتها مجموعة دول (5+1) تضم مزايا تكنولوجية واقتصادية وضمانات سياسية، يمكن وصفها بأنها أكبر ما عُرض على إيران منذ قيامها، فإن قبول هذا العرض سيعني إلغاء المكتسبات التكنولوجية التي حققتها طهران في تخصيب اليورانيوم، وهي المكتسبات الأكبر أيضًا في تاريخ إيران الحديث، ومن ثم ليس من السهولة على النظام الحاكم في إيران التنازل عن هذه المكتسبات في مقابل سلة حوافز غير مضمون تحقيقها، خصوصًا وأن تجربة كوريا الشمالية ماثلة أمام أعين صانع القرار الإيراني عندما تراجعت إدارة بوش عن تنفيذ الوعود التي قطعتها إدارة كلينتون بإمداد بيونج يانج بمفاعلات نووية تعمل بالماء الخفيف ووقود ومساعدات اقتصادية... الخ، في إطار المفاوضات السداسية عام 1994، لذلك ترفض إيران وبشدة فكرة الاعتماد على دول أخرى في استيراد تكنولوجيا نووية من دول أجنبية بأسلوب “,”تسليم المفتاح“,”، وتفضل في المقابل أن تصنع مكونات برنامجها النووي محليًّا، خاصة أجهزة الطرد المركزي، وحتى لا تتعرض في المستقبل لضغوط خارجية تتمثل في إيقاف إمدادها بالوقود النووي أو قطع غيار حيوية لأجهزتها أو سحب علماء أجانب؛ لهذا فهي تعتمد على علمائها ومهندسيها في كثير من جوانب برنامجها النووي، كما تصر على إنتاج الوقود النووي محليًّا.

(هـ) الأزمة الاقتصادية:

مما لا شك فيه أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها ثلاث قرارات من مجلس الأمن على إيران، في إطار المادة 41 من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، تعتبر هي الآلية الرئيسية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في إجبار إيران على تنفيذ قرارات مجلس الأمن، القاضية بوقف عمليات تخصيب اليورانيوم. وهي عقوبات متدرجة تم تنفيذها على مراحل، بدأت بمنع سفر عدد من المسئولين الإيرانيين، وحرمان إيران من الحصول على قروض واستثمارات أجنبية، ومنعها من استيراد احتياجات حيوية، وتخفيض التبادل الدبلوماسي. إلخ، وقد تنتهي بقرار رابع يفرض حظرًا على استيراد النفط الإيراني وحصار بحري يضرب حولها، وهو ما سترد عليه إيران بالطبع بمنع باقي دول الخليج من تصدير نفطها عبر الخليج بإغلاق مضيق هرمز، ويحرمها من المصدر الرئيسي للدخل القومي وتمويل مشروعاتها التنموية بشقيها الإنتاجي والخدماتي. كما أن حرمان سوق النفط العالمي من حوالي 40% من احتياجاته النفطية والغاز سيشعل بالتالي أسعار النفط مرة أخرى إلى حوالي 200 دولار للبرميل؛ وبالتالي ارتفاع أسعار السلع المنتجة في الدول المستهلكة للنفط إلى مستويات خيالية، مما قد يتسبب في أزمة اقتصادية عالمية أشبه بكارثة أخرى؛ لما لذلك من مردودات اجتماعية وسياسية ذات تأثير سلبي على كل مستوى العالم، وهو ما تراهن إيران على تخويف العالم من وقوعه إذا ما تعرضت لمزيد من العقوبات أو عمل عسكري معادي من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل.

وتنتج إيران أكثر من 4 مليون برميل نفط يوميًّا، وبما يضعها في المرتبة الرابعة بين أكبر منتجي النفط في العالم بعد المملكة السعودية وروسيا والولايات المتحدة، وقد بلغت الزيادة في دخل إيران من بيع النفط 200 مليار دولار. كما يشكل الإنتاج النفطي لها نحو 5% من الإنتاج النفطي العالمي، وهي نسبة يصعب على الاقتصاد العالمي الاستغناء عنها، خاصة، وأن الغالبية الساحقة من الإنتاج النفطي الإيراني تذهب إلى التصدير، الذي يشكل نحو 8.5% من الصادرات النفطية العالمية، ويشكل في ذات الوقت المصدر الرئيسي للدخل القومي الإيراني. إلا أنه رغم الوفرة المالية التي حققتها حقبة ارتفاع أسعار النفط، فإن إيران تعاني من أزمة اقتصادية شديدة، تمثلت في ارتفاع نسبة التضخم في إيران إلى نحو 26% طبقًا لأرقام البنك المركزي الإيراني في إبريل 2008، حيث يجد الإيرانيون أموالاً في أيديهم لكنها لا تشتري شيئًا. كما ارتفعت أسعار العقارات السكنية والسلع اليومية إلى مستويات غير مسبوقة، في حين يظل مستوى الدخل ثابتًا للفرد الإيراني بما يتراوح ما بين 300-450 دولارًا في الشهر، وارتفاع نسبة البطالة إلى 15%، وارتفاع أسعار البنزين والجازولين؛ مما أدى إلى حدوث ثورة شعبية واضطرابات كثيرة في المدن الإيرانية العام الماضي. فرغم أن إيران هي الدولة الرابعة في إنتاج النفط الخام، فإنها تستورد البنزين والجازولين، وتهدد العقوبات الدولية بحظر توريدهما لإيران في المستقبل. وبسبب العجز الذي تعانيه الحكومة في ميزانيتها، وهو يعادل 30 مليار دولار، فقد طلبت من البرلمان في شهر سبتمبر الماضي الموافقة على سحب 25 مليار دولار من صندوق الاحتياطي للعملة الصعبة لسد احتياجات الحكومة.

ومن مظاهر الأزمة الاقتصادية الخطيرة في إيران تراجع إنتاجها من النفط بنسبة 10%، ويرجع ذلك لعدة أسباب، أبرزها نضوب حقول النفط القديمة، حيث يتوقع توقف إنتاجها خلال 15 سنة، بالإضافة إلى عدم تأهيل وتطوير حقول النفط بسبب العقوبات الاقتصادية وتوقف الاستثمارات الأجنبية اللازمة لهذا التطوير. وقد أدى ذلك إلى زيادة الاعتماد على تصدير الغاز، والبحث عن النفط تحت مياه الخليج، إلى جانب الطمع في الاستيلاء على حقول نفط جنوب العراق؛ وهو ما يفسر الجهود التي تبذلها إيران لبسط نفوذها على منطقة البصرة وما حولها من مناطق إنتاج النفط في جنوب العراق، والذي يشكل 80% من إجمالي نفط العراق.

ولقد أصبح الأداء الضعيف للاقتصاد الإيراني مصدرًا لعدم الرضا الجماهيري. فمنذ 1979 -وبقدوم الثورة الإيرانية- مارس القادة الإيرانيون سياسات اقتصادية غير سوية؛ مما أثر على الاقتصاد الإيراني، وجعله أقل قدرة مما كان ينبغي له. ففي أثناء حكم رافسنجاني إبان الثمانينيات، كان لحكومته بعض العذر فيما حدث من تخلف اقتصادي بسبب حرب الثماني سنوات مع العراق. وفي ظل حكومة خاتمي، كانت التغيرات الاقتصادية بعد الحرب قد أسهمت في دفع عجلة النمو الاقتصادي، خاصة في القطاعات الأخرى من غير الطاقة، كما نما القطاع الخاص بسرعة أكبر من القطاع العام. أما في ظل حكومة أحمدي نجاد، فإن هذه التحديات التي كانت تهدف لتحرير الاقتصاد قد أصابها الركود. ونظرًا لأن أعدادًا كبيرة من الشباب الإيراني يدخلون في نطاق القوة العاملة سنويًّا، فإنهم ويبحثون عن وظائف لهم لا يجدونها؛ مما زاد من نسبة البطالة في إيران. وقد زاد من حدة الأزمة الاقتصادية، السياسة الاقتصادية غير الرشيدة التي يصر عليها نجاد شخصيًّا، والمتمثلة في الشعار الذي رفعه حول توزيع عائدات النفط على المواطنين وإثراء موائدهم، والذي ترجمه بضخ أموال في أيدي المواطنين بدون إنتاج حقيقي يوازي هذه الأموال، على نمط أشبه ما يكون بقائد حرب في العصور الوسطى يوزع الأموال على الجنود ليشتري ولاءهم قبل دخول المعركة. وقد أدى سحب نجاد الأموال من صندوق احتياطي النقد الأجنبي -الذي أنشأه خاتمي- إلى تقليص حصيلة هذا الصندوق من 143 مليار دولار إلى 7 مليار دولار فقط؛ مما أحدث صدمة في الشارع الإيراني. ويرجع هذا الانخفاض في رصيد الصندوق،الذي يعتمد في إيراداته على عائدات النفط، إلى الانفاق الاستهلاكي لحكومة نجاد، والإنفاق العسكري والنووي والاستخباراتي، وزاد من تفاقم المشكلة رغبة نجاد في استقطاع 15 مليار دولار من رصيد الصندوق لتسديد ديون الحكومة، وهو ما لم يوافق عليه محافظ البنك المركزي (طهماسب مظاهري)؛ مما أدى إلى إقالته من منصبه، خاصة وأن هذه الديون قيمة عمليات استهلاكية وليست مشاريع إنتاجية، فضلاً عن تراكم ديون الوزارات والمؤسسات الحكومية لصالح البنوك العامة والتي لا تسهم فيها الدولة إلا بقدر 8%، بينما بقية أرصدتها من مدخرات الأفراد.

وكانت المشكلة الثانية التي عانت منها إيران على الصعيد الاقتصادي -وكانت سببًا رئيسيًّا في ارتفاع نسبة التضخم- زيادة حجم واردات السلع الاستهلاكية في إيران إلى حد كبير، وحدوث تدافع نحو شراء سلع لم يكن الإيرانيون يشترونها من قبل في الطعام والملابس والأجهزة المنزلية، ساعدهم على ذلك رفع الحكومة للرواتب بشكل مفاجئ، ومن ثم ارتفعت قيمة السلع. وقد رفض نجاد توصيات البنك المركزي للسيطرة على سرعة إنفاق الإيرانيين، واستمر في سياسته القائمة على مفهوم أن دور البنوك هو ضخ أموال في جيوب المواطنين وبشكل مستمر وسريع، الأمر الذي عجز معه البنك المركزي عن تمويل المشروعات الإنتاجية، وبما أجبر أصحاب المصانع على الاقتراض من السوق السوداء ودفع فوائد تتراوح ما بين 40 - 60%؛ الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج، ومن ورائها معدلات التضخم.

ومن توصيات البنك المركزي التي رفضها نجاد رفع الرسوم الجمركية على الواردات، وتقليص دور مؤسسات اقتصادية ثورية، مثل مؤسسة القرض الحسن. فمن المعروف أن نظام حكم الملالي الذي أنشأ الحرس الثوري كقوة عسكرية موازية للجيش النظامي الرسمي، أنشأ مؤسسات اقتصادية موازية له لتخدم مشروعاته العسكرية والاستخباراتية، خاصة على الساحة الخارجية، وهي مؤسسات اقتصادية تفوق في قدراتها أحيانًا المؤسسات الحكومية، ومنها مؤسسة القرض الحسن، وهي مؤسسة تمنح قروضًا طويلة الأجل بفائدة شبه معدومة لحالات اجتماعية توسعت في عملها في السنوات الأخيرة، وشملت إقراض مشروعات استهلاكية وإنتاجية بمبالغ ضخمة، كانت في حقيقتها بمثابة عمليات غسيل للأموال تمارس من خلالها. هذا فضلاً عن قيام مؤسسة لجنة إمداد الإمام الخميني بممارسة الدور نفسه، وقيام بعض المؤسسات الاقتصادية التابعة للحرس الثوري بإصدار كروت ائتمان خاصة بدون رصيد أو ضمان؛ الأمر الذي أضر بالسياسة النقدية لإيران، وأحدث خللاً بها. لذلك لم يكن غريبًا أن يقوم نجاد بإقالة محافظ البنك المركزي (مظاهري)؛ لأن ما حاول الأخير المساس به يتعلق بمصالح المحافظين مؤيدي الرئيس، وأيضًا بجوهر النظام الإيراني ومؤسساته الداعمة للسياسة الاقتصادية للولي الفقيه، وليس سياسات الحكومة التي تتعامل مع الشعب.

ولذلك يتوقع المراقبون تفاقم الأزمة الاقتصادية الإيرانية في المستقبل القريب، خاصة مع الانخفاض المستمر في أسعار النفط، والذي يتوقع أن يصل إلى 50 دولار/ برميل، وهو ما يحرم حكومة نجاد من مليارات الدولارات، ويقيد حركتها في الاستمرار في سياسة الإنفاق الاستهلاكي الذي عودت الشعب على أنماطه، وبالتالي تفاقم النقمة الشعبية العارمة والمتصاعدة ضد نجاد وسياسته، ووصلت إلى حد تهديد النظام بدعامته الأساسية، وهم تجار البازار الذين أضربوا مؤخرًا لمدة يومين؛ احتجاجًا على “,”ضريبة المبيعات“,”. وهو الأمر الذي جعل المراقبين لحركة النظام الحاكم في إيران يؤكدون أن أركان هذا النظام أصبحوا يخشون من الأزمة الاقتصادية أكثر من الضربة العسكرية التي كثر الحديث عنها في الشهور الماضية.

(و) التعدد العرقي والطائفي في إيران:

تعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أكثر دول العالم اختلافًا عرقيًّا وطائفيًّا. فالفرس لا يشكلون سوى ما يزيد قليلاً عن نصف السكان (55%)، ويشكل العنصر (الأذري) ربع السكان (25%)، أما الجيلاك ( Gilaki )، والمازندراني ( Mazandarani ) ، والأكراد، والعرب، والبلوش، والتركمان فإنهم يشكلون جميعًا أقليات لها وزنها في حدود 5 -8% لكل منها. ولذلك فإن الاختلاف العرقي واللغوي في إيران أكثر نطاقًا عنه في جيران إيران العرب في ناحية الغرب.

ولكن على النقيض من الاختلاف العرقي فيها نجد أن إيران متجانسة نسبيًّا في المجال العقائدي، فهناك 89% من السكان من الشيعة، وأكبر كتلة سكانية غير الشيعة من المسلمين السنة، كانت جذورها بدرجة كبيرة آتية من الأكراد، والبلوشي، والتركمان، وأقلية من عرب إقليم خوزستان يعتنقون المذهب السني.

وفي الماضي، كان تداخل الهويات العرقية قد شكل تحديات سياسية للأنظمة الحاكمة في إيران، فعناصر الآذريين من الشيعة في الشمال، القريبين من جمهورية أذربيجان التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق، طالبوا بحريتهم الثقافية وبدرجة من الاستقلال الداخلي تجاه طهران، والبعض منهم يطالبون بالاندماج في جمهورية أذربيجان (الدولة الأم في الشمال). نفس الأمر بالنسبة للأكراد الإيرانيين في غرب إيران -و75% من السنة- الذين يسعون للاندماج مع إخوانهم أكراد العراق في الغرب، وأكراد تركيا في الشمال، لإقامة دولة كردستان الكبرى. وهاتان الجماعتان قد شكلتا كتلة جغرافية متماسكة، وفي الشرق يوجد البلوش وجميعهم من السنة، ويرتبطون بارتباطات مع إخوانهم في قبائل البلوش في أفغانستان وباكستان، ويسعون بدورهم للتوحد لإقامة دولة بالوشستان. وفي الجنوب يوجد العرب في إقليم خوزستان، وهم ذوو أغلبية شيعية، ولكن يريدون الانفصال لما يعانونه من اضطهاد بسبب عرقهم العربي، حتى إنهم يطلقون على إقليمهم الغني بالنفط عربستان دليلاً على انتمائه العربي القديم. وفي الشمال أيضًا يوجد الأقلية التركمانية وجميعها من السنة الساعين للانفصال والانضمام إلى دولة تركمانستان في الشمال.

والتاريخ السياسي الحديث لإيران مفعم بمحاولات لتقوية هوية إيرانية واحدة تطغى على النواحي العرقية والمذهبية والقبلية. ففي عهد الشاه حدث ذلك تحت برنامج للتحديث امتدت في ظله سيطرة الحكومة المركزية على المناطق الحدودية حيث تتواجد هذه الأقليات الكبيرة، وشجعت حكومات الشاه اللغة الفارسية والثقافة الفارسية، لكن الثورة الخمينية سلكت مسلكًا مختلفًا مؤكدة على الهوية العقائدية الإسلامية، وتمثل ذلك في الرد العنيف للخميني على الاضطرابات التي وقعت في هذه المناطق للمطالبة بحقوق لهذه الأقليات العرقية، حيث قال آنذاك: “,”فيما يتعلق بالإسلام فلا مجال للقول بحقوق للأكراد أو البلوش أو العرب أو اللور أو التركمان، فلكل امرئ الحق في التمتع بحماية الإسلام“,”. كما نشر النظام الحاكم قوات للحرس الثوري في هذه المناطق لإخماد الاضطرابات التي نشبت فيها بسبب سوء معاملة هذه الأقليات، والتمييز بينهم وبين الإيرانيين ذوي الأصل الفارسي، وتدني الخدمات الاجتماعية، وضعف وسوء حالة المرافق في المناطق التي يعيشون فيها، والتي تزداد فقرًا يومًا عن يوم، رغم ما تحصل عليه حكومة إيران المركزية من عائدات مالية من إنتاج هذه المناطق النفطية والزراعية والصناعية، حيث أكثر من 30% في مناطق الأكراد والآذريين يعيشون تحت خط الفقر، كما أن نسبة 70% وأكثر من بلوشستان أيضًا تحت خط الفقر.

وقد رصدت الأمم المتحدة أعلى معدل وفيات أطفال، وأدنى نسب تعلم القراءة والكتابة في هذه المناطق الحدودية، ووجود تفاوت واسع في التنمية داخل إيران، بما يفرض الحاجة إلى مزيد من التوزيع العادل للمصادر الاقتصادية. وقد مارست قوات الحرس الثوري أساليب قمع وحشية في إخماد الانتفاضات في هذه المناطق؛ مما زاد من حالة السخط بين سكانها ضد نظام الملالي في طهران، كانت من مظاهر ذلك اغتيال عناصر مدنية وعسكرية تابعة لحكومة طهران، وتفجير منشآت وخطوط النفط، ومهاجمة مراكز السلطة، وقطع الطرق، بل ومحاولة اغتيال نجاد نفسه.

وإبان حكم الرئيس السابق محمد خاتمي، خفت حدة الثورة والاضطرابات في المحافظات الحدودية؛ نتجية حركة التصحيح التي قام بها، حيث خفف من استخدام الدولة للإسلام كأداة للضغط على حقوق الأقليات. كما قام بجهد منظم للتغاضي عن طموحات “,”غير الفارسيين“,” وغير الشيعة، حيث سمح لهم باستخدام لغاتهم، بل ووزع عليهم مطبوعات بلغاتهم كما أجرى إصلاحات اقتصادية واجتماعية في مناطقهم، خاصة على الأصعدة الخدماتية والإنتاجية: مثل التعليم والصحة والمرافق العامة -المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق- وبذلك امتص غضب معظم الأقليات في المحافظات الحدودية.

إلا أن أساليب القهر والاضطهاد والقسوة التي تعامل بها الحرس الثوري مع سكان هذه المناطق في عهد حكومة أحمدي نجاد، جددّت الثورة والانتفاضات في هذه المناطق، وبرزت منظمات مسلحة ذات توجهات انفصالية واضحة، لم يقتصر نشاطها فقط على الدعوة للانتفاضات الشيعية ومقاطعة النظام والعصيان المدني، مثل الامتناع عن المشاركة في الانتخابات، ولكن شملت أيضًا شن هجمات مسلحة ضد مراكز سلطة النظام وكوادره، وليس فقط في مناطقهم، بل نقلوا أيضًا أنشطتهم المسلحة داخل العمق الإيراني والعاصمة طهران. ومن المنظمات التي برزت في هذا الشأن “,”الحزب الديمقراطي الكردي“,”، والذي حتى اليوم تقوم القوات الإيرانية بقصف مواقعه بالمدفعية بالقرب من الحدود العراقية التركية، و“,”حركة الصحوة الوطنية في أذربيجان الجنوبية“,”، ومنظمات معارضة مماثلة أخرى في إقليمي خوزستان، وبلوشستان.

وكان من البديهي والمتوقع أن يستغل أعداء إيران -خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل- نقطة الضعف هذه في النظام الحاكم في إيران، والمتمثلة في الاضطرابات السائدة في المحافظات الحدودية، بتكثيف علاقاتها ودعمها للمنظمات الانفصالية في هذه المحافظات، سواء بالأموال أو بالسلاح؛ لزيادة ضغوطها على النظام الحاكم في طهران. ووصل الأمر إلى تجنيد عناصر من هذه الأقليات للقيام بعمليات تخريبية واستخباراتية ضد النظام الحاكم، لا سيما فيما يتعلق بالمنشآت النووية في إيران، ومن المتوقع في حالة نشوب علميات عسكرية ضد إيران بواسطة الولايات المتحدة أن تشتد الاضطرابات في هذه المحافظات بدعم ومساندة وتخطيط الولايات المتحدة وإسرائيل لتشتيت جهود الحكومة والسلطات والقوات الإيرانية على عدة جبهات، وخلق بؤر توتر في أجناب النظام الإيراني تستنزفه سياسيًّا وماديًّا، خاصة وأن نشاط الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية شمل العناصر المعارضة الإيرانية داخل إيران، والتي تشمل الطلبة والعمال والمثقفين وكوادر الإصلاحيين المطالبين بإحداث تغيير جذري في هياكل النظام الحاكم، يستهدف إبعاد رجال الدين عن الحكم وإقامة حكم ديموقراطي حقيقي في البلاد.

· التطورات الأخيرة، وتأثيرها على القرار الإيراني:

تؤثر التطورات السياسية والأمنية الأخيرة، التي وقعت في الساحتين الإقليمية والدولية بدرجة كبيرة على تقديرات الموقف التي يجريها صانعو القرار في طهران، منها ما هو إيجابي في صالح إيران مثل دعم موسكو لنظام بشار الأسد في سوريا، الحليف الرئيسي لإيران في المشرق العربي؛ مما أدى إلى استعادة روسيا جزءًا من نفوذها وهيبتها على الساحة الدولية بعد أن كانت قد فقدتها عقب تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وانتهاء فترة الحرب الباردة، حيث عاد التنافس السياسي والإستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى تراجع اهتمامات الغرب بالملف النووي الإيراني مؤقتًا، وزاد من اقتراب روسيا لإيران، والاستجابة لبعض طلباتها فيما يتعلق باستكمال إمداد مفاعل بوشهر بالوقود النووي وتشغيله، وتنفيذ عدد من صفقات الأسلحة الدفاعية، وإن كان الجدل لا يزال قائمًا حول استجابة موسكو لطلب إيران الخاص بالحصول على نظام الدفاع الجوي S-300 (سام - 20)؛ بسبب ضغوط مضادة من إسرائيل والولايات المتحدة.

كما أن الأزمة المالية التي وقعت فيها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وما نتج عنها من فوضى اقتصادية عالمية، والتورط الأمريكي في المستنقع العراقي والأفغاني، ورفض الإدارة الأمريكية برئاسة أوباما في عهد ولايته الثانية فكرة قيام إسرائيل بشن ضربة عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، كل ذلك أبعد اهتمامات دول الغرب مؤقتًا عن إيران، وأعطت انطباعات لدى البعض باستبعاد توجيه عملية عسكرية أمريكية أو إسرائيلية ضد إيران. وقد استغلت القيادة الإيرانية كل هذه العوامل الإيجابية في دفع برنامجها النووي خطوات إلى الأمام، والتسريع في تنفيذ خططه، رغم ما تعرض له هذا البرنامج من إدانة في التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة النووية.

ورغم تراجع الحديث في واشنطن وتل أبيب عن الحرب ضد إيران فإنه لوحظ حرصٌ إسرائيلي وأمريكي على إبقاء سيف الحرب الإسرائيلية مسلطًا فوق رأس إيران، وتعزيز مصداقيته، تارة من خلال نصب رادارات “,”إكس باند“,” الأمريكية في إسرائيل، بالإضافة لهوائيين عملاقين بارتفاع 400م في ديمونة؛ لخدمة الإنذار في باركلي بولاية كولورادو بأمريكا، ومركز الإنذار في جنوب تل أبيب في وقت واحد، هذا إلى جانب الإعلان عن توقيع صفقة بيع مقاتلات “,” F-35 “,” الأكثر تطورًا لإسرائيل، وتزويد إسرائيل بقنابل أعماق أمريكية GBU-36 لضرب المنشآت النووية الإيرانية المتواجدة تحت الأرض حتى عمق 30 مترًا.

ويبدو أن تسريب خبر الفيتو الأمريكي على خطة إسرائيل لضرب إيران، ورفض الأمريكيين فتح الأجواء العراقية أمام الطائرات الإسرائيلية، لم يؤد إلى طمأنة إيران. وحتى النفي الذي أعلنه إيهود باراك وزير الدفاع الإسرائيلي لأي خطة إسرائيلية لضرب إيران إثر عودته من واشنطن، لم يقنع الإيرانيين، بل على العكس زاد من مخاوفهم. حيث أشارت المعلومات التي حصلت عليها المخابرات الإيرانية عن تفاصيل زيارة باراك لواشنطن، جاءت تصب في خانة ضرب إيران. لأنه أكد على أنه في شهر يونيو القادم 2013 سيكون لدى إيران كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 90% التي تمكنها من صنع سلاح نووي (25 كجم)، وهو ما لن تسمح به إسرائيل. وفيما يتعلق بروسيا، ورغم أن موسكو قد تعهدت للمسئولين الإسرائيليين بتجميد صفقة الصواريخ S-300 المضادة للصواريخ لإيران وسوريا، فإن المسئولين الإسرائيليين أبلغوا الروس صراحة أن تزويد إيران بهذا النظام الدفاعي الجوي المتطور، القادر على اعتراض وإصابة أكثر من 30 صاروخًا وطائرة في وقت واحد وعلى بعد 120 كم؛ سيمنح إسرائيل الضوء الأخضر للإسراع بضرب إيران قبل تركيب هذه الصواريخ، مهما كان الاعتراض الأمريكي على ذلك.

وتشير التقديرات الإسرائيلية والأمريكية والروسية والأوروبية إلى أن أفضل النتائج المتوقعة للضربة الجوية الإسرائيلية أنها ستؤدي فقط إلى تأخير الجهود الإيرانية لإنتاج السلاح النووي، وليس منع تصنيعه، بل قد تتسبب الضربة في إعلان إيران عن تصميمها للحصول على السلاح النووي دفاعًا عن نفسها وردع أعدائها، بدلاً من اتباعها حاليًّا استراتيجية الردع بالشك.

كما تراهن إسرائيل على أن إيران لن تجرؤ على الرد بقوتها الصاروخية، ولا بصواريخ حزب الله، بعد أن هددت إسرائيل بأن ردها على ذلك سيتمثل في قصف إيران بصواريخ كروز النووية المسلح بها الثلاث غواصات الإسرائيلية (دولفين)، والتي مخطط أن تنتشر في هذه الحالة في خليج عمان قرب إيران، وهو ما يعني ليس فقط تدميرًا شبه شامل للأهداف الإستراتيجية والبنية الأساسية الإيرانية، ولكن وهو الأخطر في الرؤية الإسرائيلية والأمريكية سقوط نظام حكم الملالي في إيران، وهو ما يسعى حكام إيران لتجنبه بعدم إعطاء إسرائيل هذا المبرر، وذلك بالامتناع عن قصف إسرائيل بالصواريخ شهاب. ولكن المشكلة التي ستواجه صانع القرار الإيراني في هذه الحالة هو فقدان إستراتيجية الردع الإيرانية مصداقيتها، بعد أن أعلن قادتها عدة مرات أنهم مصممون على قصف إسرائيل بالصواريخ إذا ما تعرضت إيران لعمل عسكري من قبل إسرائيل أو أمريكا، وهو ما سيؤثر بالتالي سلبًا على هيبة إيران في المنطقة، والتي حاول قادتها زرعها خلال العقدين الماضيين، لا سيما بعد أن كثرت تصريحات القادة السياسيين والعسكريين الإيرانيين في المناورات العديدة التي أجرتها قوات الحرس الثوري على استعداد إيران لإبادة إسرائيل، وضرب الوجود البحري الأمريكي في الخليج.

كما لن يكون بقدرة حكام طهران أن يلعبوا في هذه الحالة بورقة حزب الله، كما حدث في صيف 2006 عندما قصفت صواريخ حزب الله المستعمرات الإسرائيلية في الجليل وأهدافًا عسكرية وإستراتيجية أخرى في شمال ووسط إسرائيل حتى حيفا، وكذا في حرب غزة عام 2012. وذلك بعد التهديدات العنيفة التي صدرت مؤخرًا عن مسئولين عسكريين إسرائيليين بتدمير لبنان وغزة، خصوصًا تهديد قائد المنطقة الشمالية “,”جادي إيزنكوت“,” بتدمير كل قرية لبنانية يطلق منها حزب الله صاروخًا، وتسريب معلومات عن خطة عسكرية إسرائيلية ضد لبنان تعتمد شعار “,”إستراتيجية الضاحية“,” في الحرب المقبلة، أي تدمير لبنان على طريقة ما فعلت الطائرات الإسرائيلية من تدمير شبه كامل في الضاحية الجنوبية لبيروت معقل قيادة حزب الله هناك أثناء حرب يوليو 2006.

وفي هذا الوقت برزت مؤشرات عسكرية أخرى زادت من قلق حكام إيران من الضربة الإسرائيلية، منها ورود معلومات عن استمرار اختراق إسرائيل لمنطقة القوقاز؛ بما يوحي بأن هذه المنطقة تعتبر ضمن الخيارات العسكرية الإسرائيلية لضرب إيران. فبجانب المعلومات التي انكشفت إبان أزمة جورجيا حول وجود قاعدتين جويتين في جورجيا لتنطلق منها الطائرات الإسرائيلية لضرب إيران (قيل إن القاذفات الروسية دمرتهما في الحرب الأخيرة، تحدثت تقارير مخابراتية جديدة عن عدم التزام إسرائيل بتعهدها للروس بالخروج العسكري من القوقاز، وبذلك تكون إسرائيل قد تقدمت أكثر في اتجاه الحدود مع إيران بهدف محاصرتها، والاقتراب من الهدف من عدة اتجاهات. هذا إلى جانب قيام إسرائيل بعقد اتفاقية عسكرية مع أذربيجان بمئات ملايين الدولارات لبيعها أسلحة ومعدات حربية وصواريخ متنوعة ومعدات اتصال، هذا إلى جانب تعزيز التعاون الاستخباراتي بين البلدين، والذي انعكس في وصول عشرات من ضباط الموساد والخبراء العسكريين الإسرائيليين إلى أذربيجان، وهو ما ينبغي أن يتحسب له صانع القرار الإيراني بالعمل على سد هذا الاختراق الإسرائيلي في بلدان آسيا الوسطى.

ولم تقتصر مفاجأة صناع القرار في إيران بهذا الموقف فقط من جانب الولايات المتحدة، بل فوجئوا أيضًا بمفاجأتين أخريين: تتمثل الأولى في انتقال الأمريكيين وحلفائهم في الناتو الذين يحاربون في أفغانستان من خط محاربة الإرهاب، والمتمثل هناك في طالبان والقاعدة، إلى إستراتيجية الحوار والتفاوض مع طالبان، والعمل على عقد صفقة تسوية لإشراكهم في الحكم في كابول، ووصول الأمر إلى حد قيام حميد قرضاي بدعوة الملا عمر العدو اللدود للإيرانيين إلى كابول. وبسرعة فهم الإيرانيون الرسالة، وكانت صدمتهم عنيفة، إلى حد مسارعة علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى إلى تحذير واشنطن والدول الغربية من مغبة ما اعتبره “,”تواطؤ الغرب مع طالبان“,”. أما المفاجأة الأخرى التي لم تكتشف أبعادها بعد، فهي مشروع أمريكي- أوروبي لتسليح قوى المعارضة في سوريا للإسراع بإسقاط نظام بشار الأسد، وهو ما يعني في المحصلة النهائية -إذا ما ربطنا ما يجري في أفغانستان من محاولات التفاوض مع الملا عمر، مع ما يجري في سوريا من جانب أمريكا وحلفائها- وجود مخطط لمحاصرة إيران واستهداف المشروع الإيراني بإخراج إيران من لبنان وسوريا، وهو ما ردَّت عليه طهران بإظهار انفتاح أكبر على الحوار مع الولايات المتحدة والتعاون مع مجموعة الدول الست والمجتمع الدولي في قضية الملف النووي الإيراني، وإعطاء إشارات على استعداداها لإجراء تجميد مؤقت لتخصيب اليورانيوم بنسبة 20% مقابل تجميد العقوبات وسحب الملف النووي من مجلس الأمن وإعادته إلى الوكالة الدولية للطاقة النووية. وقد برز هذا الموقف الإيراني الجديد بموافقة إيران على فتح مكتب رعاية مصالح أمريكية في طهران، وإطلاق مسئولين إيرانيين، أثناء عقد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، تصريحات سلمية تجاه إسرائيل، والتي بلغت حد الإعلان عن الاستعداد للاعتراف بها عبر الحديث عن قبول إيران بما يقبل به الفلسطينيون.

إلا أنه رغم هذا الانفتاح الإيراني تجاه إسرائيل والولايات المتحدة؛ فإن الأخيرة تجاهلت عن عمد هذا الانفتاح، حتى أنها لم تعد مهتمة بفتح مكتب رعاية مصالح في طهران، وبالتالي إنجاز الصفقة التي يرعاها أوباما الذي لم يعد يهمه سوى الحفاظ على الوضع القائم، والعمل على تحسين الأوراق التفاوضية مع إيران، وهو ما يعني أن واشنطن قد اختارت استئناف إستراتيجية “,”احتواء إيران“,” والضغط عليها عسكريًّا عبر إسرائيل، وسياسيًّا عبر التلويح بإعادة الملا عمر إلى أفغانستان، وإضعاف نفوذها في لبنان، إضافة إلى الاستمرار في رفض المطالب الإيرانية في العراق.

وإزاء هذه المعادلة المتجمدة التي تعكس عمليًّا حربًا صامتة بين واشنطن وطهران برزت مجموعتان من الأسئلة يتعين على صانعي القرار في إيران أن يطرحوها على أنفسهم، المجموعة الأولى تتعلق باحتمالات الجانب الأمريكي، والثانية حول الخيارات المتاحة أمام إيران:

1. مجموعة الأسئلة الأولى (قدرات الخصوم ): إلى أي مدى يمكن أن تذهب واشنطن في حوارها مع طالبان، وبعضهم متحالف مع إيران ومتسلح منها؟ وأيضًا إلى أي حد ستذهب واشنطن مع سوريا الحليف الإستراتيجي لإيران؟ وكذلك إلى أي حد سيكون في قدرة واشنطن أن تمنع إسرائيل من ضرب إيران، في وقت يلح فيه تيار واسع داخل إسرائيل وفي اللوبي الصهيوني في الكونجرس على منحها الضوء الأخضر لضرب إيران، بل وتقديم المعاونة العسكرية لها في هذا الشأن، والتي قد تصل إلى حد المشاركة في ضرب إيران بدعوى الدفاع عن أمن إسرائيل باعتباره ضمانًا أمريكيًّا معروفًا؟ وهل يمكن لإيران أن تستمر في الرهان على رغبة أوباما في تجنب نشوب حرب أخرى في الشرق الأوسط؟ وأن تراهن أيضًا على عقد صفقة متكاملة مع إيران تشمل جميع الملفات، وتمهد لإقامة علاقات طبيعية بين البلدين؟ وهل سيكون بإمكان أوباما حقًّا أن يحقق ذلك في ظل الضغوط التي ستمارس عليه من قبل اللوبي الصهيوني في الكونجرس والضغوط الإسرائيلية؟ وما هو الثمن المقابل الذي سيتعين على إيران أن تدفعه في هذه الحالة؟

2. مجموعة الأسئلة الثانية (الخيارات الإيرانية): ما هي الخيارات المتاحة أمام إيران للرد على هذه الجهود الأمريكية، سواء فيما يتعلق بمساعي إعادة الملا عمر إلى السلطة في كابول، أو إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، وإنهاء نفوذ حزب الله في لبنان، وتمكين إسرائيل من ضرب حزب الله في لبنان، وهو ما يعني نزع كثير من الأوراق التفاوضية التي كانت في أيدي إيران، وخسارتها مواقع كثيرة في المشرق العربي، لن تقتصر فقط على أفغانستان وسوريا ولبنان والساحة الفلسطينية، بل ستشمل أيضًا -وبالتداعي- تقليص نفوذ إيران في منطقة الخليج بدءًا بالعراق، ثم الدول الخليجية، وهو ما يعني في المحصلة النهائية تكريس عزلة إيران إقليميًّا ودوليًّا، ناهيك عن تكثيف العقوبات الدولية ضدها، وإحكام الحصار حولها، وما ينتج عن ذلك من أزمات اقتصادية واجتماعية واشتعال ثورات واضطرابات داخلية تؤدي في النهاية إلى إسقاط نظام حكم الملالي في إيران.

· رؤية تحليلية:

مما لا شك فيه أن عملية صنع القرار السياسي في إيران لا تزال في أيدي المحافظين المتشددين من رجال الدين وقيادات الحرس الثوري، الذين لا يزالون يراهنون على نجاح المشروع الإيراني الذي برز مع الثورة الإيرانية، وكان قد تعرقل مؤقتًا بفعل حرب الثماني سنوات مع العراق، ثم استؤنف في السنوات الأخيرة مع سيطرة المحافظين المتشددين برئاسة نجاد على مراكز صنع القرار، وإمكانية تحقيق أهدافه في بسط الهيمنة الإيرانية -فارسية الهوية- على المنطقة من خلال غطاء ديني. كما يراهنون أيضًا على إمكانية نجاح البرنامج النووي في الوصول إلى أهدافه العسكرية قريبًا بامتلاك سلاح نووي يدعم إستراتيجية الردع، ويعزز النفوذ الإيراني في المنطقة، واعتمادًا على أذرع إيران الطويلة الممتدة في لبنان وسوريا وغزة وأفغانستان. وليس من المتوقع أن يفرط هؤلاء المحافظون فيما حققوه من مكاسب ونفوذ، سواء في الداخل، من خلال سيطرتهم على مراكز صنع واتخاذ القرار، أو في الخارج، بما حققوه من نفوذ في البلدان المشار إليها. ولذلك فإن المحور الرئيسي الذي يجتمع عليه صناع القرار في إيران -رغم اختلافاتهم- والذي يحكم ويفسر كل سياسات وسلوكيات النظام، هو المحافظة على قوة وثبات وصلابة نظام الحكم الديني القائم في إيران، والتصدي مبكرًا وبكل القدرات والإمكانات المتاحة والممكنة في الداخل والخارج لتحقيق هذا الهدف، حتى وإن أدى ذلك إلى الدخول في حروب وصراعات مسلحة قد تكلف الشعب الإيراني الكثير.

والمتابع للسياسة الإيرانية على مدى سنوات طويلة يكتشف قدرًا هائلا من التناقضات وانقلاب المواقف وتغييرها، وأن الإيرانيين يحرصون على إظهار ما لا يؤمنون به، ويقولون ما لا يفعلون، ويتصرفون بطريقة تبدو غامضة، وليس هذا بغريب على من يتبعون مبدأ “,”التقية“,” في سياساتهم وسلوكياتهم مع غيرهم. ولعل أقرب تلك التناقضات الموقف الإيراني المؤيد للتوجهات الأمريكية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، حين حدث تعاون إستراتيجي واستخباراتي كامل ومباشر مع الولايات المتحدة في غزوها لأفغانستان، ثم بعد ذلك في غزوها للعراق، وهو دور لا تنكره أمريكا ولا إيران. ثم انقلبت السياسة الإيرانية بعد ذلك رأسًا على عقب عندما دعمت إيران القوى المعادية لأمريكا في العراق وأفغانستان.

ومع زيادة التوتر بين طهران وواشنطن بسبب الملف النووي؛ وظَّفت إيران القضايا العربية لخدمة مصالحها في مواجهة الضغوط الأمريكية، وهو ما أدى إلى انزعاج الدول العربية من تدخل إيران في الشئون العربية بهذه الجرأة، خصوصًا مع اتباع النظام الإيراني سياسة حافة الهاوية؛ بالوصول بالمنطقة إلى احتمالات نشوب حرب تستخدم فيها أسلحة دمار شامل بين إيران وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، تحول المنطقة كلها إلى جحيم لا ينجو منه أحد، وهو ما يؤكد أن إيران تدير سياستها الخارجية بذكاء، فترفع مستوى التوتر السياسي في المنطقة إلى أقصاه، ثم تنزل بهذا المستوى إلى أدني درجة حينًا آخر، وعلى النحو الذي نراه مؤخرًا مع اقتراب وصول قادم جديد إلى البيت الأبيض في واشنطن.

وهنا يبرز سؤال يفرض نفسه، وهو: هل تملك إيران القدرات التي تجعلها تستمر في لعب أدوارها الإقليمية إلى الأبد، والسعي لتحقيق مصالحها على حساب الآخرين بلا توقف؟ حقيقة الأمر أن إيران ليس لديها مصادر بلا حدود، كما أن الدور الذي تلعبه إيران في المنطقة محكوم أيضًا بالموقف الدولي والعلاقات الإيرانية - الأمريكية المتوترة بصفة دائمة لتعارض الأهداف والمصالح، وهو ما يشكل قيدًا كبيرًا على تنفيذ السياسات الإيرانية الطموحة في المنطقة. ومن ثم يمكن تفسير كل السياسات الإيرانية في المنطقة العربية ووسط وجنوب أسيا، باعتبار أن إيران تقوم بعملية تجميع أوراق تضغط بواسطتها في القضايا الإقليمية استعدادًا إما لمواجهة قادمة وحاسمة مع الولايات المتحدة، أو لإبرام صفقة شاملة معها. بمعنى أن إيران تدفع الأمريكيين لإدراك حجم ما يمكن أن تتعرض له المصالح الأمريكية في مناطق كثيرة من العالم
-بما فيها الداخل الأمريكي نفسه- وبما يمنع الولايات المتحدة من الدخول في مواجهة مع إيران تتضرر منها جميع الأطراف، بل ويدفعها أيضًا للاعتراف بدور إقليمي لإيران. وفي هذه الحالة سيكون التاريخ قد أعاد نفسه في ظل ظروف دولية مغايرة. فكما هو معروف أن إيران في عهد الشاه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كانت تلعب دور الشرطي في المنطقة لحساب أمريكا والغرب. وهي اليوم تسعى لتمارس نفس الدور ولكن لحسابها الخاص ومشروعها الثوري، وربما مستقبلاً لحساب روسيا، بعد اقتراب رياح الحرب الباردة مرة أخرى بينها وبين الولايات المتحدة؛ حيث تسعى إيران للعب على التناقض في المصالح بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى؛ لأجل إنجاح مشروعها في المنطقة.

وهذا أيضًا جانب من الحسابات الخاطئة لصانع القرار الإيراني؛ لأن الرهان على قبول إدارة أوباما لإيران نووية، في مقابل تسهيل مهمة الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، هو رهان خاسر. لأن إدارة أوباما -كما ذكرنا آنفًا- المحكومة بضغوط من جانب اللوبي الصهيوني وإسرائيل الرافضين بشكل قطعي ونهائي لفكرة “,”إيران نووية“,”، يشاركهم في ذلك الحلفاء الغربيين، من الممكن أن تقبل هذه الإدارة الأمريكية بتقديم حوافز أكثر لإيران، وتقديم تنازلات لها في مجالات عديدة، باستثناء المسألة النووية.

ومن ثم فإنه من المتوقع أن تمارس إيران لعبتها المفضلة في تكرار المفاوضات تلو المفاوضات لإطالة زمنها بهدف كسب الوقت اللازم لاستكمال برنامجها النووي، والتصرف وكأن مراكز القرار متعددة لتشتيت أذهان الخصوم، والتصرف أيضًا وكأن صانع القرار الإيراني غير عقلاني؛ لإجبار الخصم على أن يكون عقلانيًّا أكثر، مع استخدام انتشار القوة Force Projection كأسلوب للتصعيد، إلى جانب الاستخدام المكثف لوسائل الإعلام في إدارة حملة الدبلوماسية العلنية.. إلى غير ذلك من الأساليب الإيرانية التي أصبحت معروفة جيدًا، ولكنها لن تفلح في إثناء إدارة أوباما وحلفائه في أوروبا وإسرائيل عن تحديد موعد نهائي لوضع حد للعبة المفاوضات، ومطالبة إيران برد واضح وقاطع وصريح على سؤال مهم: هل ستقبل بإيقاف تخصيب اليورانيوم بشكل نهائي وليس مؤقتًا، وتخضع جميع منشآتها النووية لرقابة مستمرة من جانب الوكالة الدولية للطاقة أم لا؟ فإذا ما كان رد إيران إيجابيًّا على هذا السؤال، تكون قد تجنبت ويلات حرب مدمرة تقضي على الأخضر واليابس في إيران، أما إذا فضَّلت “,”التذاكي“,” على المجتمع الدولي، والاستمرار في ممارسة لعبة المناورات السياسية والإعلامية التي دأبت عليها منذ عام 2004؛ فإنها ستعرض نفسها لضربة عسكرية حتمية من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، ولن تكون هذه الضربة محدودة، بل ستتصاعد وتيرتها حتمًا في ضوء الفعل ورد الفعل بين الطرفين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، وسيزداد الأمر سوءًا إذا ما أخطأت إيران الحسابات والتقديرات وأقدمت على مغامرة بحرية ضد الأسطول الأمريكي في الخليج، أو قامت بضرب إسرائيل برؤوس صواريخ كيماوية، حيث سيكون الرد حتمًا نوويًّا من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل.

ومن المتوقع أن تعطي إسرائيل فرصة زمنية حتى نهاية صيف 2013 لإدارة أوباما ليمارس مفاوضاته مع إيران لعلها تقبل بالصفقة المعروضة عليها من مجموعة الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا (5+1)، مقابل إيقاف التخصيب لمستوى 20%، والقبول بتفتيش الوكالة الدولية المستمر على منشآتها النووية، طبقًا للبروتوكول الإضافي لاتفاقية الحد من الانتشار النووي. ومع انتهاء هذه المهلة من المتوقع أن يكون هناك قرار إسرائيلي بالتوجه للخيار العسكري إذا ما فشلت الخيارات الأخرى. أما إذا ما توجهت إيران نحو تنفيذ السيناريو الباكستاني، بفرض نفسها نوويًّا على المجتمع الدولي، فإنها تكون قد عجلت بلجوء إسرائيل والولايات المتحدة إلى الخيار العسكري.

وهنا يبرز سؤال أخر هو: هل سيفرض المشروع السياسي الديني على إيران خيارها لتجنب المواجهة والتصعيد من أجل كسب المستقبل؟ وبلغة أخرى: هل بإمكان إيران أن تفرض الحرب الباردة على الغرب بدلاً من افتراض المواجهة وانتقال الصراع إلى حرب مباشرة ساخنة من أجل تحقيق أهدافها البعيدة؟

فمن المعروف -في ضوء امتلاك كل طرف في الصراع القدرة المحتملة للتدمير والردع- أن يتحول الصراع إلى ما يعرف بالحرب الباردة، فيما تعني من مفاهيم تخوف كل طرف من الطرف الآخر (توازن الرعب)، بل والخوف من أن يفلت عقال هذه القوة التدميرية بسبب حسابات خاطئة من أحد الأطراف، أو تحرش لم تحسب عواقبه، فلا يعرف أحد مدى نهايتها وامتداداتها، وهذا ما عايشه العالم في الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وحتى سقوط حائط برلين عام 1989 وانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي، وبالتالي سقوط المشروع الشيوعي الذي كان يشكل قطب القوة الآخر في مواجهة قوة الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة.

واليوم نرى تطابقًا بين ما كان يحدث في هذا التاريخ القريب، وبين الحرب الباردة الجارية حاليًّا بين الولايات المتحدة وإيران. بل نرى تطابقًا في عناوين الخطاب السياسي بين ما كان يقوله لينين وستالين وحتى بريجنيف في الاتحاد السوفيتي السابق، وبين الخطاب السياسي الإيراني منذ الخميني وحتى نجاد، والذي يدور حول مبادئ أيديولوجية تبشر بنهاية الغرب وإسرائيل. بل أن هناك تطابقًا أيضًا حتى في التوجه لبناء القوة العسكرية الضخمة ببعديها التقليدي والنووي، وتوزيع الأموال هناك وهناك، واستقطاب الأحزاب والدول، بل وصنعها وتأسيسها.. الخافي منها والمعلن. كذلك توظيف الأحداث والقوى والتيارات لصالح إيران، ولكن بالطبع مع اختلاف الإمكانات والقدرات بين الاتحاد السوفيتي وإيران، وكلها دلائل تشير -بل تؤكد وتنبئ- أن إيران سائرة إلى نفس المصير، خصوصًا مع تعدد العرقيات والمذاهب والطوائف المتواجدة فيها، ومعظمها ذات نزعات انفصالية. ولكن المتابع والمحلل يجد أن التجربة تتكرر بشكل مصغر، خاصة مع غرور القوة المصاحبة للخطاب السياسي الإيراني وتضخيمها على حساب التنمية والعلاقة مع الآخرين.

وإذا كان الاتحاد السوفيتي قد اعتمد الفلسفة الماركسية الشيوعية كأيديولوجية سياسية واقتصادية في نشر مشروعه للسيطرة على العالم، فإن إيران تُحوِّل الدين إلى أيديولوجية سياسية ورؤية للعالم وفق مبادئ راديكالية، تجعل منها دولة صاحبة رسالة أيديولوجية سياسية عالمية. وهو ما سيجعل الغرب ينظر إليها بنفس النظرة التي نظر بها ليس فقط إلى الاتحاد السوفيتي السابق، وسعى إلى تفكيكه وهدمه خلال فترة الحرب الباردة لاستحالة القبول بتوسع ونشر أيديولوجيته الشيوعية، ولكن سينظر الغرب إلى الأيديولوجية الدينية السياسة الإيرانية -وهو الأخطر- بنفس النظرة التي ينظر بها إلى تنظيمات دينية متطرفة إرهابية مثل القاعدة، رغم اختلاف المذهب الإيراني الشيعي عن المذهب السني السلفي الذي تعتنقه القاعدة وفروعها في العالم الإسلامي. الأمر الذي يجعل الغرب يضعهم جميعًا في صف واحد وكفة واحدة، ويتم التعامل معهم من جانب الغرب باعتبارهم -إيران الشيعية والقاعدة وفروعها السنية- يمثلون التيار الإسلامي المتطرف الإرهابي، والساعي إلى التسلح النووي لتحقيق أهدافهم.

ورغم ما أدت إليه الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي إلى تفكك وسقوط الأخير لصالح الغرب؛ فإن الإيرانيين الذين يسعون لإشعال حرب باردة جديدة بينهم وبين الغرب يبدو أنهم مقتنعون بأن الحرب الباردة الجديدة والطويلة الأمد ستؤتي أكلها لصالح مشروعهم السياسي، بعد أن استفادت إيران من تجربة الاتحاد السوفيتي، ويراهنون في ذلك على اتباع منهج “,”التقية“,” في التعامل مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، من خلال السعي لعقد صفقة كاملة وشاملة تؤمن لإيران تحقيق أهدافها وتأمين مصالحها في مقابل تقديم تنازلات تكتيكية لا تؤثر على تحقيق جوهر المشروع الإيراني الرئيسي في المنطقة، من ذلك القبول بتجميد تخصيب اليورانيوم مقابل تجميد العقوبات وإقامة علاقات طبيعية.. إلخ. إلى جانب سياسة عصا التخويف وجزرة التفاهم، وتوزيع الأدوار بين القادة الإيرانيين لتشتيت ذهن المفاوض الغربي معهم، وهم مقتنعون بجدوى هذه السياسة في ترسيخ المشروع الإيراني على الأقل في داخل إيران، ونشره في البيئة الإقليمية المحيطة بها.

إلا أن إيران لا تدرك حقيقة مهمة، وهي تراهن على شن الحرب الباردة، واتباع منهج “,”التقية“,” وسياسة العصا والجزرة لتحقيق أهدافها. وهذه الحقيقة تتمثل في أنه مهما نجحت إيران في هذه السياسة، وما يمكن أن تؤدي إليه من تطبيع في العلاقات بينها وبين الغرب، إلا أن الأخير، وعلى رأسه الولايات المتحدة وإسرائيل، لن يقبلوا أبدًا ببروز إيران نووية في المنطقة ذات طموحات توسعية تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة، كما تهدد وجود وبقاء إسرائيل في المستقبل. وهذا الموقف المبدئي الغربي
-والأمريكي الإسرائيلي على وجه الخصوص- لا يختلف حوله الجمهوريون والديموقراطيون في الولايات المتحدة. بل ربما يكون الديموقراطيون أشد شراسة في الدفاع عن أمن إسرائيل من الجمهوريين؛ إذ يتبارى الجميع في الدفاع عن إسرائيل ومساندتها في قضاياها، وأبرزها ما أطلقوا عليه التهديد النووي الإيراني.

وقد يكون لدى أوباما استعدادًا -كما أعلن- للدخول في مفاوضات شاملة مع النظام الحاكم في طهران لبحث جميع الملفات العالقة، وقد يكون مستعدًا لإعطاء ضمانات بعدم تهديد الولايات المتحدة لأمن هذا النظام، وبأن يكون لإيران دور في الترتيبات الأمنية الإقليمية، وأن يعمل على رفع العقوبات، ورفع الحجز على أموال إيران المجمدة في البنوك الأمريكية، وبإقامة علاقات طبيعية بين البلدين، ولكن في مقابل ماذا؟ ما هو الثمن الذي سيطالب به أوباما إيران أن تدفعه في المقابل؟ عليها أولاً أن تجمد نهائيًّا -وليس مؤقتًا- عملية تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، وأن تُخضع منشآتها النووية لتفتيش دائم من قبل الوكالة الدولية للطاقة، وأن توقف تدخلها نهائيًّا في العراق وأفغانستان، وأن توقف دعمها العسكري والمالي والسياسي لعملائها في لبنان وغزة ودول الخليج، وألا تعمل ضد خطة السلام العربية - الإسرائيلية.

هذه هي أجندة أوباما عند استئناف المفاوضات بين الإدارة الأمريكية، وإيران، فإذا ما قبل حكام طهران بهذه الشروط الأمريكية، فماذا يعني ذلك؟ يعني انحسار المشروع الإيراني الثوري الذي وضع أساسه الخميني، ويرعى خامنئي ونجاد وغيرهما من المحافظين المتشددين في إيران خطة تنفيذه، والقائمة على مبدأ تصدير الثورة الإيرانية، وبناء قوة عسكرية تقليدية ونووية إيرانية ضخمة تساهم في تنفيذه عند اللزوم، إذا ما فشلت أساليب الإغراء السياسي والمالي والإعلامي التي يمارسها حكام طهران وعملاؤهم في المنطقة من أجل تنفيذها. فهل يقبل ملالي إيران والمحافظين المتشددين هناك بهذا الانحسار لثورتهم؟ وأن يفرض عليهم أوباما التقوقع داخل حدود إيران؟ أغلب الظن أن الإجابة لا، وأنهم سيستمرون في سياستهم التي اعتادوا ممارستها حتى اليوم في المنطقة، معتمدين على أسلوب “,”التقية“,” في محاولة خداع أوباما وإدارته واللعب على عامل الوقت حتى يستكمل البرنامج النووي أهدافه. إلا أنهم بذلك يتجاهلون أمرًا مهمًّا في شخصية أوباما، وهو أنه رغم هدوءه فهو يقرر بحذر وبعمق المعارك التي يريد أن يخوضها، وحين يخوضها يكون واضحًا في التمسك بأهدافه وبالخطوط الحمراء التي يعلنها في مواجهة خصومه، كما أنه في مفاوضاته يؤيد اللجوء إلى الدبلوماسية الصارمة التي تستند إلى قوة ردع أمريكية صلبة وناعمة، وعندما يحاول الخصم اختبار قدرته على تنفيذ ما يلوّح به أوباما من تهديدات بوسائل الردع، فإنه لا يتردد في تنفيذها؛ تحقيقًا وتأكيدًا لمصداقية سياسته المعلنة. لذلك فإن السياسة الواضحة المستندة إلى القوة التي يمارسها أوباما، قد تكون أكثر خطورة بالنسبة لإيران من سياسة سلفه بوش المتأرجحة، والتي لم تستند لدراسة واضحة الأهداف والمعالم، ففشلت وهو ما استغلته إيران للمضي قُدمًا في عهده في تنفيذ مشروعها الطموح في المنطقة.

ومن ثم فإن الحرب الباردة التي تراهن إيران أن تكون طويلة، وبما يتيح لها الوقت لاستكمال برنامجها النووي، وترسيخ نفوذها في المنطقة من الممكن أن تتحول في لحظة تخطئ فيها إيران الحسابات إلى حرب ساخنة لا تبقي ولا تذر. وتعرف الولايات المتحدة وإسرائيل متى ستجيء هذه اللحظة، وهي التي سيصل فيها البرنامج النووي الإيراني إلى مرحلة اللاعودة، وذلك من حيث تعدي نسبة تخصيب اليورانيوم 50%، وقبل أن تتكون كتلة يورانيوم مخصبة بنسبة 90% زنتها 25 كجم، عند ذلك ستتحول الحرب الباردة إلى ساخنة بالضرورة.

وإذا ما كانت إيران تراهن في هذه الحالة -تحول الحرب الباردة إلى ساخنة- على ما يمكن أن تلحقه قوتها العسكرية من أضرار بالقوات الأمريكية في العراق والخليج وإسرائيل، فإن هذا الضرر سيكون مؤقتًا، حتى وإن كان بحجم الضرر الذي ألحقته اليابان بالولايات المتحدة عندما دمرت جزءًا كبيرًا من الأسطول الأمريكي في قاعدة بيرل هاربور في جزر هاواي عام 1941، وهي الحادثة التي تسببت في دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية ضد اليابان وتدميرها بالقنبلة النووية في أغسطس 1945، وسقوط النظام الياباني الفاشيستي في طوكيو، بل وتحول اليابان بعد هزيمتها العسكرية إلى حليف قوى للولايات المتحدة في شرق آسيا. وهو نفس المصير الذي ينتظر إيران إذا ما استمر رهانها على الحرب الباردة، وإمكان صمودها عندما تتحول إلى حرب ساخنة، ففي ذلك نهاية نظام الحكم الديني في إيران، بل وتدمير إيران نفسها وعودتها إلى ما لن يقل عن خمسين سنة إلى الوراء. ومن ثم إذا كانت الحرب الباردة التي تفرضها إيران على دول الغرب ودول المنطقة، هي في نظر ملالي طهران وقم، وقادة الحرس الثوري، وجبهة المحافظين المتشددين، هي الحل الأمثل في نظرهم لإتاحة الفرصة لتدوير الزوايا وكسب الوقت والمضي في ترسيخ الفكر السياسي والأيديولوجي لإيران في بلدان المنطقة، وبما يخلق واقع جديد في المستقبل، فإنهم واهمون؛ لأن الدائرة ستدور عليهم في النهاية، وهذا ما تعكسه دروس التاريخ التي يبدو أن صناع القرار في إيران لم يتعلموها ولم يدركوها.

إن لدى إيران رجال أذكياء وحكماء يدركون خطورة التورط في سيناريو الحرب الباردة؛ ولذلك من المتوقع أن تتراجع إيران في اللحظة المناسبة، كما فعلت من قبل، ولكن يرجو الجميع ألا تكون لحظة التراجع متأخرة مثلما فعل صدام حسين حاكم العراق السابق، فجلب النكبة على بلده وشعبه. لذلك فإن أهم ما هو مطلوب من رجال إيران الأذكياء والحكماء أن يوجهوا صانعي القرار في بلدهم إلى تفادي الحسابات الخاطئة عندما يصنعون قراراتهم المتعلقة بمصير بلدهم والمنطقة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟