المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الحاضنة الإقليمية.. تركيا والجماعات الدينية المتشددة

الإثنين 24/فبراير/2014 - 03:30 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
محمد عبد القادر خليل*
"هجرة الراديكالية" إلى تركيا لم تقتصر على "هجرة رأسية" من دول عربية وشرق أوسطية، وإنما شملت "هجرة عكسية" من دول غربية إلى تركيا

كانت الفكرة الرائجة خلال سنوات خالية أن ثمة ملاذات آمنة يمكن للجماعات الدينية الراديكالية أن تتواجد فيها وأن تتحرك عبرها بسهولة نسبية، لارتباطها بالعديد من الدول الغربية وفق معادلة أمنية سمحت لأجهزة الأمن في هذه الدول باختراق هذه الجماعات مقابل السماح لها بحرية الإقامة وعقد اجتماعات تنسيقية طالما تقيدت باحترام القوانين المحلية وعدم تشكيل أية تهديدات تمس سلامة الأوضاع الداخلية في أي من هذه الدول.

لكن ثمة تحولات طرأت على خريطة تحركات العديد من عناصر التنظيمات الدينية المتطرفة، لتغدو تركيا "عاصمة ضباب" الشرق الأوسط الجديدة ومركز تواجدها وقاعدة تحركاتها، وذلك بعد أن استضافت العديد منها وطورت علاقات متشابكة مع من يعمل منها في بيئات إقليمية مجاورة مثل ليبيا وسوريا والعراق ومصر، على نحو جعلها تشكل على أرض الواقع "الحاضنة الإقليمية" الجديدة للتيارات الدينية المتشددة على مسرح عمليات الإقليم.

تطورات كاشفة:

إن "هجرة الراديكالية" إلى تركيا لم تقتصر على "هجرة رأسية" من دول عربية وشرق أوسطية أو من دول مجاورة مثل باكستان وأفغانستان والشيشان، وإنما شملت "هجرة عكسية" من دول غربية إلى تركيا، كونها من ناحية تشكل "محطة" أقرب إلى ميادين الصراع المتعددة داخل الدول العربية، ومن ناحية أخرى بسبب الأجندة الإقليمية التي باتت تناصر تيارات الإسلام السياسي بتفريعاته وتسانده، لتشابهات أيديولوجية واضحة سهلت القدرة على التشبيك مع الحلقات المختلفة لجماعات بعضها يعبر عن تيارات الإسلام السياسي كجماعة الإخوان المسلمين وبعضها الآخر يتمثل في تيارات السلفية الجهادية كالجماعات التي ترتبط بتنظيم القاعدة أو تتبني أيديولوجيته وأفكاره.

وتبرز في هذا السياق أزمتان أساسيتان كاشفتان، وليستا منشئتين، لنمط وطبيعة العلاقات المتشابكة بين تركيا والتيارات الدينية في المنطقة، ارتبطت الأولى منها بالثورة المصرية (30 يونيو) وما أسفرت عنه من إسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين، حيث بدا واضحاً أن العلاقات المتشابكة بين الطرفين أفضت إلى تحول تركيا إلى ملاذ آمن لكافة عناصر الجماعة التي تمركز نشاطها، وتوجد العديد من عناصرها، داخل المدن التركية، لتعقد اجتماعات دورية هدفها تأجيج الوضع الأمني في مصر، كما تورطت جهات تركية في عمليات تصدير شحنات من الأسلحة المختلفة عبر الموانئ البحرية، التي ضبط جميعها بواسطة قوات الأمن المصرية.

وقد شكلت الأراضي التركية نقاط تمركز وموضع تنسيق الأنشطة الإعلامية الهادفة إلى تشويه صورة مصر خارجياً سواء من خلال القيام بتأسيس قناة "رابعة" والمستهدف انطلاقها بالعديد من اللغات الأخرى غير العربية (كالتركية والإنجليزية) أو من خلال دعم استخباراتي لأنشطة عناصر الإخوان لمحاصرة مصر وعزل قادتها إقليمياً ودولياً.

هذا فيما ارتبطت الأزمة الثانية بسوريا، حيث اندفعت تركيا إلى دعم أنشطة التيارات الجهادية وتحولت الأرضي التركية إلى نقاط عبور إلى الداخل السوري، الأمر الذي تبعه انتشار لتيارات تتبنى أفكار السلفية الجهادية داخل تركيا ذاتها، خاصة أن معظم أدبيات القاعدة قد ترجمت إلى التركية، ومنها كتب للقيادي "أبو محمد المقدسي". وقد أسفر ذلك عن قيام عناصر محلية مرتبطة بتنظيم "دولة الإسلام في العراق والشام" (داعش) أو تنظيم النصرة بالإعلان عن عملياتها باللغة التركية في أشرطة مصورة، ارتباطاً بكون أكثر من نحو 1200 مواطن تركي يقاتلون إلى جانب التنظيمات الجهادية في سوريا.

ترتب على ذلك أن أشار الكاتب البريطاني روبرت فيسك في مقالة بـ "الإندبندنت" أن تركيا تحولت إلى معبر للسلاح ومركز للراحة والاستجمام للجهاديين، مشيراً إلى أنها غدت كباكستان بالنسبة لطالبان أو القاعدة بالنسبة لأفغانستان، هذا فيما أشار تقرير أصدرته منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أن المساعدات التركية تقف وراء كافة المنظمات الإسلامية المتطرفة في سوريا.

هذا في وقت قام فيه رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية العميد أفيف كوخابي بالكشف عن أن خارطة قواعد تنظيم القاعدة في الشرق الأوسط تتضمن ثلاث قواعد تدريب في تركيا وتتمثل في قاعدة كارامان (مدينة يبلغ عدد سكانها 150 ألف نسمة) بالقرب من اسطنبول، وقاعدة عثمانية جنوب تركيا (وهى منطقة ذات أهمية خاصة من الناحية الأمنية بالنظر إلى تواجد قاعدة سلاح الجو الأمريكي - التركي قرب أدانا ومرافئ النفط الذي يصل من العراق ووسط أسيا إلى البحر المتوسط في جيهان)، وقاعدة أورفا الواقعة جنوب شرق تركيا (مدينه يبلغ عدد سكانها نحو نصف مليون نسمه) وتضم مقاتلين شيشان.

قام رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية العميد افيف كوخابي بالكشف عن أن خارطة قواعد تنظيم القاعدة في الشرق الأوسط تتضمن ثلاث قواعد تدريب في تركيا

سياسات ممنهجة لدعم القاعدة:

على الرغم من أن تركيا تعرضت للعديد من العمليات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة، غير أنها باتت تغامر بتبني سياسات غض الطرف عن تحول العديد من المدن التركية إلى "استراحات" ومناطق عبور للجماعات الإرهابية التي أصبحت تتحرك ذهاباً وإياباً من وإلى سوريا، وهى عمليات تشمل عبور شاحنات تنقل الأسلحة إلى المعارضة الجهادية السورية عبر الأراضي التركية. وقد ترتب على ذلك انتقادات واسعة من أحزاب المعارضة لحكومة رجب طيب أردوغان، لا سيما بعد التقارير التي أشارت إلى إطلاق العديد من العناصر الإرهابية التي كانت داخل السجون التركية، ويأتي في مقدمتها أعضاء في تنظيم القاعدة تورطوا في هجمات تعرضت لها مدينة اسطنبول في عام 2003، ومن هؤلاء من قتل بالفعل داخل الأراضي السورية، خلال العامين الخاليين.

وبينما تستخدم الحكومة التركية بعض العمليات التي تقوم بها بعض التنظيمات الجهادية حيال معسكرات أمنية تركية على الحدود مع سوريا لقصف بعض مواقعها داخل الأرضي السورية، غير أنها تُوظف علنياً في غالب الأحيان لمواجهة الضغوط الغربية عبر تأكيد أنها لا تدعم التنظيمات الجهادية في سوريا، وللتغطية فعلياً على استراتيجيتها الخاصة بدعم الجماعات المسلحة في سوريا. وثمة تقارير تشير إلى أن قيام السلطات التركية، في يناير الماضى، باستهداف مواقع للقاعدة داخل سوريا جاء للتغطية على سفينة أسلحة قدمت من ليبيا إلى سوريا وتم توقيفها في ميناء الإسكندرونة عدة أيام قبل أن تصل إلى التنظيمات الجهادية في دمشق.

وعلى الرغم من قيام قوات الأمن التركية بالكشف عن العديد من عناصر القاعدة داخل المدن التركية، كعملية اعتقال نحو 25 شخصاً على صلة بالقاعدة، بالإضافة إلى إيقاف قافلة في مدينة غازي عنتاب (جنوب تركيا) لاحتوائها على أسلحة مضادة للطائرات، غير أن السلطات التركية قامت بإطلاق سراح العديد من المقبوض عليهم ومنحت العديد من عناصر الشرطة التي اضطلعت بتنفيذ هذه المهمات "أجازات إجبارية" مفتوحة، بما يؤكد أن سياسات الحكومة التركية تتأسس على فكرة مركزية لدعم العناصر الجهادية والمتطرفة في المنطقة.

وتؤدي إيران دوراً بارزاً في توظيف الدعم التركي للتيارات الجهادية في المنطقة وإن كان ذلك وفق أهداف مختلفة، ففيما تسعى أنقرة لإسقاط نظام الأسد بما يصب لصالح الإخوان المسلمين في سوريا (الفصيل الأكثر تنظيماً داخل المعارضة)، فإن طهران بدورها تبغي استمرار نظام الأسد من خلال تأكيد أنه يقاتل القاعدة في سوريا وأن سقوطه سيجعل التيارات المتطرفة تسيطر على المشهد الإقليمي، وهو الأمر الذي تعمل عليه طهران من خلال عمليات منظمة لنقل عناصر جهادية من باكستان إلى سوريا عبر تركيا.

وكانت وزارة الخزانة الأمريكية قد فرضت عقوبات في فبراير 2014 ضد أحمدوفيتش صادقييف، والذي قالت إنه يعمل لصالح السلطات الإيرانية، ويدير شبكة مسئولة عن نقل الأموال والمقاتلين إلى سوريا عبر تركيا، وبحسب القرار، فإن صادقييف، واسمه الحركي "جعفر الأوزبكي"، عضو في جماعة "اتحاد الجهاد الإسلامي" ويوفر الدعم اللوجستي والتمويل للقاعدة، كما أنه على صلة بشخصيات أخرى في تنظيم القاعدة على لائحة المطلوبين لواشنطن، ومن بينهم "ياسين السوري".

هذه التطورات في مجملها تشير إلى أن تركيا باتت تلعب دوراً أساسياً في تصعيد أدوار التنظيمات الإسلامية المتطرفة في العديد من دول المنطقة، وذلك من خلال التحول إلى لعب دور "شرطي المرور" الذي يسهل حركة تنقلات التنظيمات الجهادية وعملية إمداد عناصرها بالسلاح.

التداعيات المحتلمة للراديكالية التركية:

قد تواجه تركيا، على الصعيد الداخلي، مشكلات أمنية كبيرة ستسمح بتعرضها لضربات أمنية كبرى من قبل ذات التنظيمات التي تدعمها، كونها قد تعمل على استغلال التوتر السياسي والاضطراب الأمني التي باتت تعاني منه أنقرة، الذي ينعكس في مشكلات أمنية منخفضة الحدة من قبيل استهداف سياسيين على أيدي مسلحين، وقتل مستشار من حزب الحركة القومية، وتوجيه تهديدات بالقتل إلى مليح غوكشيك عمدة بلدية أنقرة عن حزب العدالة والتنمية، وإطلاق نيران على مكاتب مرشح حزب الشعب الجمهوري لبلدية اسطنبول ساري غول، واغتيال أحد مرشحي حزب العدالة لعضوية مجلس إدارة بلدية "بيليك دوزو" وسط اسطنبول بعد أن وجهت أعيرة نارية مجهولة إلى رأسه مباشرة، فضلاً عن تعدد عملية اكتشاف إقدام بعض أعضاء الأحزاب اليسارية على تصنيع عبوات ناسفة بدائية الصنع.

هذا بالإضافة إلى تصاعد عنف الشرطة حيال المعارضة، ليغدو من المعتاد سقوط قتلى في المظاهرات السياسية لأحزاب المعارضة، بما يعني انتقال الصراع إلى ساحة المجتمع في ظل سياسات التعبئة وشحذ المناصرين عطفاً على تصاعد وتيرة الاستقطاب السياسي، بما قد يفضى إلى مشكلات وشروخ اجتماعية عميقة عشية انتخابات بلدية وبرلمانية مصيرية بالنسبة للحزب الحاكم وكذلك لأحزاب المعارضة، التي يسعى أردوغان وصحبه إلى رفع الحصانة البرلمانية عن قياداتها لمحاكمتهم جنائياً من جراء تصريحات ومواقف مناقضة لسياساته، وهو أمر قد يؤدي إلى مشكلات عميقة في مجتمع يضم جماعات عرقية وأيديولوجية ودينية متنوعة.

هذه التوترات السياسية والاضطرابات الأمنية المتصاعدة باتت تنعكس بدورها بصورة مباشرة في تقارير أمنية تشير إلى حدوث اختراقات كبيرة من قبل تنظيم القاعدة للعديد من المدن التركية، حيث إن هناك أكثر من 20 انتحارياً يتواجدون داخل تركيا بإمكانهم استهداف المنشئات التركية أو المصالح الغربية في تركيا، وذلك عبر سيارات تركية مسروقة، وقد ضبطت بالفعل سيارتان كانتا مجهزتين للتفجير بالقرب من منشآت حيوية تركية.

التحديات الأمنية الداخلية قد يكون لها ارتدادات خارجية عنيفة، خصوصاً أن العناصر الجهادية الموجودة داخل تركيا أو تمر إلى سوريا من خلالها يمكنها القيام بعمليات إرهابية داخل العديد من المدن الأوروبية، لا سيما أن "الجهاديين الغربيين" يتخذون من أنقرة طريقاً إلى سوريا وسبيلاً للخروج منها، وهو ما يعني أن دولاً أوروبية معرضة لتهديدات أمنية كبيرة بسبب مواقف واتجاهات واحدة من الدول المرشحة للعضوية الأوروبية وتمثل أحد أعضاء حلف الناتو.

كما أن دول أسيا الوسطى قد تواجه تحديات وتهديدات أمنية مماثلة، لا سيما في ظل الاتصالات التي جرت، وكشف النقاب عنها، بين عناصر جهادية تركية وحركات جهادية في آسيا الوسطى، ولهذه التطورات تداعيات سلبية أيضاً على علاقات تركيا بالعديد من دول الشرق الأوسط، التي ينظر بعضها إلى تركيا كدولة تمارس سياسات عدائية حيال دول مجاورة عبر دعم عناصر وتيارات إسلامية راديكالية.

 هذه التطورات تتزامن مع احتلال تركيا مرتبة متقدمة على قائمة الدول التي لا تتخذ تدابير أمنية كافية لمواجهة التنظيمات الإرهابية، وذلك من قبل الهيئة الدولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب (FATF)، وذلك على نحو أضحى يهدد علاقاتها حتى مع الولايات المتحدة، حيث سبق ووجه الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، انتقادات لاذعة للسياسات التركية في حضور رئيس وزرائها في البيت الأبيض في مايو الماضي، باعتبارها تقدم دعماً إلى الطرف الخطأ داخل المعارضة السورية، وهى تطورات تؤشر، في مجملها، إلى أن تركيا التي استثمرت في "الريح" طويلاً قد يتعين عليها تحمل عواقب "الإعصار" قريباً.

  باحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟