المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

ذروة منافسة وبداية صراع: قراءة فى نتائج الانتخابات البلدية التركية

الأحد 06/أبريل/2014 - 10:48 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د.أحمد موسى بدوي*

ذكرنا في خاتمة دراسة سابقة كيف أننا بصدد حالة جديدة في المشهد السياسي التركي، ناتجة عن صراع إسلامي- إسلامي (حزب العدالة والتنمية – حركة فتح اللـه جولن). وتوقع الجميع أن هذا الصراع سوف يؤثر سلبيًا على حظوظ حزب العدالة في الانتخابات البلدية الأخيرة، دون أن يفقد الحزب موقع الصدارة، ثم حملت النتائج شبه النهائية، ما يشبه المفاجأة، فقد حقق الحزب تفوقا كبيرًا، مقارنة بالانتخابات البلدية في دورتي 2004، 2009، حيث حصل الحزب في الأولى على ما يقرب من 42% من المقاعد البلدية بمستوياتها المختلفة، ثم تراجع في 2009 بعد حصوله على أقل من 39% من المقاعد، ثم يتجه الحزب في 2014، مخالفًا التوقعات، إلى تحقيق نسبة تزيد أو تنقص قليلا عن 45%.

والسؤال هنا، هل كان حزب العدالة والتنمية الرابح الوحيد في هذه الانتخابات، أم أن الأحزاب الثلاثة الكبرى، تحسّنت مراكزها مقارنة بالانتخابات البلدية في 2009؟ وهل يمكن فهم الفلسفة أو الرؤية التي دفعت الناخب التركي، لتعزيز قوة حزب العدالة والتنمية، في الانتخابات الرئاسية القادمة؟ ولماذا لم يظهر تأثير حركة جولن في هذه الانتخابات، بعد الضجة الإعلامية التي أثيرت حولها؟  

تثير نتائج الانتخابات البلدية التركية أسئلة لا تنتهي، غير أننا نود بداية أن نقطع للقارئ بأمرين: الأول أنه لا تأثير للموقف العدائي الذي اتخذه أردوغان من مصر والدول العربية المناصرة لها في أعقاب ثورة 30 يونيه، و لا علاقة بين هذا الموقف والفوز الكبير الذي حققه حزبه في الانتخابات البلدية، فالناخب التركي الذي ذهب لصناديق الاقتراع من أجل أن يختار عمدة القرية أو الحي (المختار) أو لكي ينتخب مجلس البلدية ورئيسها في الريف أو الحضر التركي، لم يذهب لكي يؤكد  للعالم أنه يناصر أردوغان في معركته الخارجية، وإنما الأمر يرتبط بشئون الحياة الداخلية هناك. وما يتعلق بها من عوامل تقليدية (عشائرية، عرقية، ثقافية، جهوية، دينية). وهنا أيضا لابد من إضافة تساؤل على الأسئلة السابقة، ما دام الأمر كذلك، فكيف جاءت النتائج على عكس المتوقع، خاصة بعد ما شهدته تركيا من مظاهرات واحتجاجات ضد الحكومة طوال العام الماضي، وما شهدته من  قضايا فساد متهم فيها قيادات العدالة والتنمية، وأخيرًا الإجراءات التعسفية التي أقدمت عليها الحكومة ضد كبار ضباط الشرطة، وضد مؤسسة القضاء. 

الأمر الثاني: أن الارتكان إلى فكرة التزوير التي تروّجها بعض وسائل الإعلام، لا يمكن الاطمئنان إليها، لسبب بسيط، وهو أن نسبة حضور الناخب التركي، هي بصفة عامة نسبة مدهشة في كل الاستحقاقات الانتخابية، فعلى سبيل المثال نجد أن نسبة التصويت في آخر انتخابات بلدية (2004، 2009، 2014) لم تقل  عن 75% ممن لهم حق الانتخاب. وهي نسبة حضور، تمنع الحزب الحاكم من التلاعب بالنتائج، حيث إن تزوير إرادة هذا الحجم من الجماهير، له عواقب وخيمة لا يمكن تحملها.

 

الناخب التركي ذهب لصناديق الاقتراع من أجل أن يختار عمدة القرية أو الحي، ولم يذهب لكي يؤكد للعالم أنه يناصر أردوغان في معركته الخارجية

أولا: الأحزاب الكبيرة في تركيا

وقبل محاولة الإجابة عن التساؤلات السابقة، نعرض تعريفًا بالأحزاب الأربعة الكبيرة في تركيا، لأنه سوف يقودنا إلى حل بعض الألغاز التي صنعتها هذه النتائج.

1-حزب العدالة والتنمية: الحزب الحاكم في تركيا، والوريث الشرعي، لمجموعة الأحزاب الإسلامية التي ظهرت واختفت قسريًا بسبب حكم قضائي أو انقلاب عسكري، (حزب النظام الوطني (1970-1971)، حزب السلامة الوطني (1972-1980)، حزب الرفاة (1983-1998)، حزب الفضيلة (1998-2001). بعد حل حزب الفضيلة في عام 2001، انقسم أعضاء الفضيلة إلى تيارين: تيار الشيوخ الذين أسسوا (حزب السعادة)، وهو من الأحزاب الضعيفة في تركيا الآن، أما التيار الثاني فيمثل الشباب بقيادة رجب طيب أردوغان، عبد اللـه جول، وأحمد داود أغلو، وأسس هذا التيار حزب العدالة والتنمية في نفس العام، ويتصدر الحزب الوليد أول انتخابات يخوضها في عام 2002، فيشكل الحكومة، منذ ذلك الحين وحتى الآن. تمكن الحزب من إحداث تنمية اقتصادية غير مسبوقة في تركيا، كما أنه نجح في إجراء العديد من التعديلات الدستورية والقانونية التي تقوّض سلطة المؤسسة العسكرية في تركيا.

2-حزب الشعب الجمهوري: تأسس في عام 1923 تحت اسم "الفرقة الشعبية"، وتحول اسمه إلى  "الفرقة الشعبية الجمهورية" ثم إلى حزب الشعب الجمهوري في عام 1935. ولد هذا الحزب من رحم الحركة الوطنية التي تأسست في أنقرة أعقاب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، واحتلال أجزاء كبيرة من الإمبراطورية. وقد نجح جيش الحركة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، في تخليص تركيا من الاحتلال، ثم انتزاع الاعتراف بالجمهورية التركية في عام 1923، وإنهاء  السلطنة، ثم  إنهاء نظام الخلافة، ومنذ ذلك الحين صارت تركيا دولة جمهورية علمانية،  وظل حزب الشعب الجمهوري الحزب الأوحد في تركيا حتى 1945. على الرغم من إنجازات الحزب ودوره التاريخي في تأسيس الجمهورية التركية، فإن توجهاته العلمانية الصريحة، وسياسات طمس الهوية الدينية الإسلامية، صنعت بينه وبين قطاع كبير من المسلمين الأتراك (98% من الأتراك مسلمين)، عداوة تاريخية، بقيت حتى الوقت الراهن،  وبالمثل سعى الحزب إلى  تكريس القومية التركية، ما أدى إلى صناعة عداوة تاريخية بينه وبين  قطاع كبير من الأكراد (في شرق تركيا)، لا تزال هي الأخرى باقية ومؤثرة إلى اليوم. على أية حال فالحزب راهنًا يمثل ثاني أكبر الأحزاب التركية، ومنطقة نفوذه التقليدية هي الساحل الغربي التركي. 

3-حزب الحركة القومية: يمثل هذا الحزب الفكرة القومية التركية، وقد ظهر بمسميات مختلفة منذ بدأت التعددية الحزبية في تركيا عام 1946، وكان انضمام السياسي القومي ألب أرسلان توركيش إليه، أثرا كبيرا في تجميع كافة القوى السياسية المؤمنة بفكرة القومية، وقبلت هذه القوى في عام 1969 إطلاق اسم الحركة القومية على "حزب الأمة الريفي الجمهوري"، ولم يستطع الحزب تحقيق نتائج كبيرة إلا في انتخابات 1999 حيث حل ثانيًا بعد حزب اليسار الديمقراطي، وشارك في تشكيل الحكومة آنذاك، وله موقف علماني متشدد، يقترب في ذلك مع الشعب الجمهوري، إلا أنه يرفض منح حقوق اجتماعية أو ثقافية للأكراد، وله موقف معارض من الانضمام للاتحاد الأوربي.

4-حزب السلام الديمقراطي: وهو الحزب الممثل للأكراد في تركيا، وقد تأسس في عام  2008، عقب حل المحكمة الدستورية التركية لحزب المجتمع الديمقراطي بعد إثبات صلته بحزب العمال الكردستاني المحظور والمصنف كتنظيم إرهابي في تركيا. وبطبيعة الحال، فإن مركز نفوذ هذا الحزب هى الولايات الشرقية، التي يقطنها الأكراد، وينادي الحزب باستعادة الحقوق التاريخية للأكراد، في ظل الدولة التركية، وقد استطاع أردوغان في فترة سابقة الاتفاق مع عبد اللـه أوجلان، زعيم الأكراد، على التخلي عن حلم الانفصال، مقابل ضمان حقوق الأكراد دستوريا، وهو الأمر الذي لم يحدث إلى الآن.

يلاحظ القارئ من الوهلة الأولى أن لدينا حزبين من الأربعة، الحركة القومية والسلام الاجتماعي، لا يمكن أن يتمددا خارج نطاق نفوذهما التقليدي، (المؤمنين بالفكرة القومية التركية أو الكردية)، لأن ذلك من شأنه أن يؤجج صراعًا ثقافيا وعرقيا لا يتلاءم مع الحالة الحضارية التي يعيشها الأتراك في الوقت الراهن، وعليه فإن من المنطق ألا ينجذب الناخب التركي العادي إلى مناصرة أي من الحزبين، إلا في أحوال التصويت العقابي. ويبقى الحزب الشعب الجمهوري، المنافس الحقيقي للعدالة والتنمية، رغم العداء التاريخي الذي يكنّه قطاع من المسلمين والأكراد لهذا الحزب كما ذكرنا.

 

لو استمر أردوغان المنتصر في ذات النهج العدائي مع قوى المعارضة، فسيكون الشارع بديلا لها لكي تمارس ضغطها على الحكومة ورئيسها

ثانيا: قراءة أولية في نتائج الانتخابات:

من الوهلة الأولى لإعلان النتائج يمكن ملاحظة عدة امور فى غاية الأهمية، وهى:

أولا- ذروة منافسة وبداية صراع: لا شك أن المنافسة بين الأحزاب التركية (25 حزبًا مشاركا) قد بلغت ذروتها في هذه الانتخابات، ما أدى إلى ارتفاع نسبة التصويت إلى مستوى قياسي جديد، فقد بلغ عدد الحضور 45,9 مليون ناخب من 52,8 مليون ناخب يحق لهم التصويت، أي أن نسبة المشاركة بلغت نحو 88,5%. مقارنة بانتخابات 2009 التي بلغت نسبة المشاركة نحو80%. كما تتضح المنافسة، وعصبية التصويت، من خلال الخسائر البشرية يوم الانتخاب (تسعة قتلى في 2014 مقابل خمسة قتلى في انتخابات 2009). وهذه المؤشرات ذات دلالات عديدة، منها أنها تعبر فعلا عن حالة احتقان سياسي، ما دفع بكل الأحزاب إلى حشد شبه كامل لكتلته التصويتية، والمرجح أيضًا، أن نصيب العدالة والتنمية من هذه الزيادة، كان أكبر من بقية الأحزاب، بحسب وزنه النسبي في الشارع التركي، ولأن المؤيدين للحزب وقعوا تحت تأثير خطاب دعائي غير مسبوق من أردوغان (بسبب طموحه في الترشح للرئاسة في أغسطس)، فكأنه كان يلعب دورين في الحملة الانتخابية: دور لصالح حزبه، ودور لصالح مجده الشخصي. ولو استمر أردوغان المنتصر في ذات النهج العدائي مع قوى المعارضة التركية، فسيكون الشارع بديلا لهذه القوى لكي تمارس ضغطها على الحكومة ورئيسها.

ثانيا- الخسارة للأحزاب الصغيرة: مقارنة بنتائج بلدية 2009، نلاحظ أن الأحزاب الأربعة الكبرى حققت مجتمعة تفوقًا على بقية الأحزاب بتسع نقاط مئوية تقريبا، ويمكن القول إن الحشد الذي صاحب الحملة الانتخابية، والسياق السياسي الذي تمت فيه، والظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها تركيا خلال عام 2013، قد دفعت الناخب التركي إلى  المراهنة على الحزب القوي، القريب من قناعاته وطموحاته، والعزوف عن التصويت للأحزاب الصغيرة. ويمكن تفسير التراجع الطفيف لحزبي الحركة الوطنية والسلام الديمقراطي، بذات السبب، فحزب الشعب الجمهوري، يمكن أن يستفيد من كتلة الحركة الوطنية، للتقارب الفكري بين الحزبين، وكذلك يمكن للعدالة والتنمية أن يستفيد من كتلة السلام الديمقراطي، فالأكراد غالبتهم العظمي من المسلمين المحافظين.

الحزب

نتيجة انتخابات 2009 (%)

نتيجة انتخابات 2014 (%)

العدالة والتنمية

38,99

45,56

الشعب الجمهوري

23,23

27,91

الحركة الوطنية

16,13

15,16

السلام الديمقراطي

5,41

4,01

بقية الأحزاب

16,24

7,36

 

تمثل إسطنبول وأنقرة وإزمير، معركة ذات طابع خاص، فالذي يحصل على مجموع هذه المدن الثلاث يستطيع الفوز بكامل الانتخابات التركية

ثالثا- معركة المدن الثلاث الكبرى: تمثل إسطنبول وأنقرة وإزمير، معركة ذات طابع خاص، فالذي يحصل على مجموع هذه المدن الثلاث يستطيع الفوز بكامل الانتخابات التركية، ولم يحدث تغير نوعي في نتيجة هذه المدن، مقارنة بانتخابات 2009، فقد بقيت إزمير في قبضة الشعب الجمهوري، وظلت إسطنبول وأنقرة في قبضة العدالة والتنمية، إلا أن متغير كمي يمكن أن يكون له دلالات في المستقبل، وهو التقارب الشديد في النسبة التي حصل عليها كلا الحزبين في اسطنبول وأنقرة، بينما انفرد الشعب الجمهوري بأغلبية مريحة في إزمير. وهو الأمر الذي يفسَّر لصالح القوة المتنامية للشعب الجمهوري في الفترة القادمة، خاصة إذا استطاع أن يقدم خطابًا سياسيا غير تقليدي، يمكّنه من عبور الفجوة الرقمية بينه وبين العدالة والتنمية.

رابعا- أين فتح اللـه جولن: أوضحت النتائج أنه من الخطأ التعويل على حركة فتح اللـه جولن لتغيير المعادلة السياسية في تركيا، فلا يمكن تحميل هذه الحركة أكثر من إمكاناتها الحقيقية، فمؤسسات جولن ذات تأثير اجتماعي وثقافي بالدرجة الأولى، وهي جزء صغير من الحركة النورية (نسبة إلى بديع الزمان سعيد النورسي مؤلف رسائل النور)، وبالتالي فإنها لا تعبر عن جميع الإسلاميين في تركيا، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى راهن جولن في الانتخابات البلدية على حزب الشعب الجمهوري، وهو العدو التقليدي للتيار الإسلامي المحافظ، وربما دفع أتباع جولن والمتمتعين بخدمات مؤسساته الخيرية والتعليمية، إلى العزوف عن التصويت أو التصويت الاضطراري للعدالة والتنمية، وربما أيضا لو أن جولن وجّه أتباعه للتصويت لحزب السعادة الإسلامي، كتصويت عقابي للعدالة والتنمية، لكانت النتائج مختلفة.

خامسا- فوز بنكهة الانتخابات العربية: من قبيل الحذر، إرجاء الحكم على الانتهاكات التي شابت العملية، غير أن القارئ العربي، ربما ينتابه شعور، بأن هذه الانتخابات قد أجريت في أجواء تماثل أجواء بعض الانتخابات العربية المشبوهة، مثل التضييق على عمل الإعلاميين والمراقبين للعملية الانتخابية، والشكوى من انقطاع التيار الكهربائي في 20 مدينة تركية أثناء عملية فرز الأصوات، واستباق رجب طيب أردوغان الإعلان عن النتيجة لفرض الأمر الواقع– كما فعل مرسي في مصر- قبل إتمام فرز الصناديق وقبل إعلان النتائج الرسمية، وغيرها من الانتهاكات والمخالفات التي تفصل فيها اللجنة العليا للانتخابات الآن.

 على أية حال، فإن الحقيقة سوف تنجلي مع ظهور النتائج النهائية للانتخابات، وتكون القراءة المتأنِّية لهذه الانتخابات المهمة، أمرًا ضروريًا لفهم اللحظة الراهنة التي تمر بها تركيا.

*خبير بالمركز العربى للبحوث والدراسات

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟