المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

البحث عن الأخلاقيات في زمن الانفلات: قراءة موضوعية فى مشروع ميثاق الشرف الإعلامي

الإثنين 07/أبريل/2014 - 11:14 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. شريف درويش اللبان*

يمكن إجمال المبادئ الرئيسة التي اتفقت عليها مواثيق الشرف الإعلامي في مبادئ: الصدق، والدقة، والتوازن، والعدالة، احترام الخصوصية، الموضوعية، وتنحية الأهواء الشخصية، الالتزام بالمسئولية تجاه الصالح العام للمجتمع، احترام القانون، الالتزام بالآداب العامة، وجودة الأداء، إلا أن أغلب المبادئ التي تتضمنها مواثيق الأخلاقيات تُصاغ في عبارات عامة غامضة أو مبهمة، وخاصة فيما يتعلق بمبادئ الموضوعية والحيدة والصدق وحرية الإعلام، ورغم ذلك فأهمية المواثيق الأخلاقية المهنية ترجع إلى أنها تعد بمثابة توجيهات داخلية لقرارات الصحفي في مختلف المواقف التى تواجهه أثناء عمله المهني.

 أولا: أسس وضع مواثيق الشرف الإعلامية

وتنتظم المواثيق الأخلاقية في نمطين رئيسيين من حيث الالتزام بالتطبيق - كما ذكر د. عبده رمضان الصادق صقر، مدرس الصحافة بكلية التربية النوعية جامعة الزقازيق- الأول: أن يتضمن الميثاق مجموعة من المبادئ المثالية Ideals التي تسعى الجماعة المهنية إلى تحقيقها ، فهذا الشكل يهدف إلى تقديم الجماعة المهنية إلى المجتمع والتعريف بأهدافها، وتتسم صياغة المبادئ بالعمومية، إذ تتميز بأنها إعلانات مبادئ واسعة، ولا تتضمن هذه المواثيق أية عقوبات يمكن أن يتعرض لها الإعلامي الذي ينتهك هذه المبادئ.

وإشكالية هذا النمط من المواثيق أنه يجعل أحكام المواثيق واسعة لدرجة أنها لا تحدد مقاييس واقعية تختلف من حالة إلى أخرى، إضافة إلى المشكلة العامة التي تواجه الذين يكتبون أحكام المواثيق وهي أنهم لا يعرفون أين يقفون .

الثاني: يقوم على مجموعة من المعايير والأحكام Standards and rules والتي يجب على الإعلامي أن يطبقها، وهي معايير أكثر تفصيلًا ويمكن أن توفر إرشادات للإعلامي أثناء قيامه بعمله واتخاذه للقرارات، إضافة إلى أنها يمكن أن تشكل المضمون الذي تقدمه الوسيلة الإعلامية، والبعض من المواثيق التي صيغت بهذا الأسلوب تفرض نوعًا من العقوبات على انتهاك بعض ما تتضمنه من أحكام.

ويمكن أن يصلح هذا النمط من الصياغة بشكل أكبر لمواثيق الوسائل الإعلامية نفسها، ويعتبر الميثاق الذي أصدرته "لجنة معايير الإذاعة البريطانية" والميثاق الذي أصدره "مجلس الصحافة الألماني" من أفضل النماذج لهذا النوع من الصياغة، إلا أن معظم المواثيق تكون خليطًا من النمطين السابقين.

ويرتبط ما سبق بطريقة وضع الميثاق الأخلاقي أو ميثاق الشرف المهني، فهناك مواثيق يصوغها العاملون في وسائل الاتصال، ومن ثم تسعى لخدمة مصالحهم أكثر من خدمة مصالح الجمهور هذا من جهة، وهم ملتزمون بتنفيذها باعتبارها تنظيمًا ذاتيًا لهم من جهة أخرى، بينما هناك مواثيق تفرض على المهنة من غير العاملين بها، وتكون لها درجات مختلفة من الفاعلية، وهي في هذه الحالة تخدم بشكل أو بآخر الجمهور.

تتسم صياغة المواثيق بالعمومية، إذ تتميز بأنها إعلانات مبادئ واسعة، ولا تتضمن أية عقوبات يمكن أن يتعرض لها الإعلامي الذي ينتهك هذه المبادئ

ويتمثل القائمون على صياغة المواثيق الأخلاقية في الفئات الثلاث التالية :

(1) الإعلاميون :            

هناك رؤية تقوم على أن معظم المواثيق الأخلاقية التي صدرت حتى الآن كتبت بواسطة إعلاميين ممارسين للمهنة، إلا أن هناك حاجة إلى إجراء تعديل أساسي في تطور المواثيق الأخلاقية. وهذه الرؤية التي يتبناها كثير من الكُتَاب والصحفيين والإعلاميين ويتبناها أيضًا عديد من التنظيمات الإعلامية والصحفية عبر العالم تقوم على أن وضع المعايير الأخلاقية يجب أن يكون مسئولية الإعلاميين وحدهم دون أي تدخل خارجي.

وتقوم هذه الرؤية على أن المبادئ الأخلاقية لابد أن تكون نابعة من الإعلاميين أنفسهم حتى يستطيعوا الالتزام بها، لأنها أولًا وأخيرًا تعبر عن ضمائرهم المهنية، ولذلك فهم الأقدر على تصور مشكلاتهم ومواجهتها، فالميثاق الذي يدافع عن معايير مثالية لسلوك الإعلاميين ولا يربط هذه المعايير بما يقوم به الإعلاميون بالفعل يُعد أبعد ما يكون عن الممارسة الفعلية للإعلاميين، ومن ثم يصعب أن يؤثر على عملهم ، ولذلك فإن الميثاق الأخلاقي الذي يمكن أن يكون أكثر نجاحًا في التأثير على سلوك هؤلاء الإعلاميين وتحسين أدائهم والارتقاء به ضمن منظومة أخلاقية فاعلة لابد أن يبدأ من الممارسة الفعلية لهم.

وثمة مشكلة أخرى في صياغة المواثيق الأخلاقية وهى أن معظم المواثيق تُصاغ بطريقة سلبية، بمعنى أنها تحث الإعلاميين بعدم القيام بأي عمل غير أخلاقي، ولذلك فقد أصبحت بنود المواثيق عبارة عن قائمة من المحظورات الغامضة البعيدة عن الواقع، وأن هذه المواثيق تركز على المنع والحظر في ظل بنود تعكس مجموعة من الأوامر والنواهي، وهو ما أدى في النهاية إلى ظهور حركة ارتجاعية من قِبل الإعلاميين ترفض صياغة المواثيق بمثل هذا الأسلوب.

(2) الأكاديميون :

هناك من يرى أنه من الضروري أن يكون للأكاديميين دور في صياغة المبادئ الأخلاقية لوسائل الإعلام، فالمواثيق يجب أن يسبق إصدارها دراسات علمية للقيم المجتمعية والثوابت التى يقوم عليها المجتمع، وعلاقة وسائل الإعلام بالمجتمع والتطور الثقافي للمجتمع، والذي يمكن أن يؤثر على تشكيل المواثيق الأخلاقية، وبدون ذلك يمكن أن تصبح المواثيق الأخلاقية عملية استنساخ من مواثيق أخرى، تم تطويرها في دول أخرى، وهو ما يظهر جليًا في المواثيق الأخلاقية الحالية، وكيف تم تشكيل هذه المواثيق طبقًا للرؤية الغربية. ولا يعني هذا بحالٍ من الأحوال أن ينفرد الأكاديميون بصياغة مواثيق الشرف الإعلامية على أساس أنهم الأجدر في تحديد الجوانب الأخلاقية للإعلام، لأن الأكاديميين أنفسهم لم يختبروا هذه الأخلاقيات في الممارسة الإعلامية على أرض الواقع، وبالتالي لابد أن ينحصر دور الأكاديميين في تقديم النُصح والمشورة للإعلاميين عند صياغة مواثيق الشرف المتعلقة بمهنتهم، سواء تم ذلك من خلال جلسات استماع لبعض المتخصصين في أخلاقيات الإعلام وتشريعاته، أو من خلال تشكيل لجنة لهؤلاء الأكاديميين ضمن اللجان المختلفة التي تضم الإعلاميين القائمين على صياغة ميثاق الشرف الإعلامي، على أن تُناقش ما توصلت إليه لجنة الأكاديميين من مبادئ حاكمة للممارسة الإعلامية في جلسة أو جلسات عامة تكون أكثريتها من الإعلاميين الممارسين للمهنة.

(3) الجمهور :

لاشك أن الجمهور هو المستفيد النهائي من وجود ميثاق أخلاقي يشكل ضمانات وحقوق الجمهور من خلال المبادئ الأخلاقية التي تحكم عمل الإعلاميين، ومن ثم يجب أن يكون للجمهور دور في التأثير على تشكيل هذه المبادئ الأخلاقية. يُضاف إلى ذلك أن من أهم أهداف المواثيق الأخلاقية ضمان قيام علاقة متوازنة بين وسائل الإعلام والجمهور ولذلك فإنه يجب مشاركة الجمهور في صياغة المواثيق الأخلاقية.

وأسوأ من يُوكل إليه صياغة مواثيق الشرف الإعلامي هي الدول والحكومات لعديد من الأسباب أهمها: أن هناك حساسية من قِبَل الإعلاميين تجاه الدول والحكومات أو التنظيمات الصحفية أو الإعلامية  التي تتم السيطرة عليها بوسائل شتى، سواء بتعيين أعضائها أو دفع رواتبهم ومكافآتهم، وهو ما يؤدي إلى شعور الصحفيين والإعلاميين بتدخل الدولة السافر في شئونهم، وهو ما ينظرون إليه على أنه مساس صريح لا لبس فيه بحرية الإعلام، كما أن الإعلاميين ينظرون إلى هذه النوعية من مواثيق الشرف الإعلامية على أنها "حكومية" تحقق أهداف الحكومة وأبعد ما تكون عن قضاياهم المهنية.

ولعله لكل هذه الأسباب، فإن مثل هذه النوعية من المواثيق لا تلقَى احترامًا من قِبَل الصحفيين والإعلاميين، بل إن بعضهم يقول إن هذه المواثيق وُضعت لكي نخالفها بدعوى أن مجرد مخالفة هذه المواثيق هو كفاح للصحفيين والإعلاميين في مواجهة الحكومات للحصول على هامش أكبر من حرية الصحافة والإعلام التي تحاول الحكومات فرض القيود عليها تارةً بالتشريعات وتارةً بمواثيق الشرف الإعلامية التي تصدرها بمعزلٍ عنهم.

ومن موروثات مرحلة ما قبل ثورة يناير، أن الحكومات والأنظمة تسعى لفرض مواثيق الشرف الإعلامية في إطار سيعيها الحثيث للبحث عن الأخلاقيات في أزمنة وأوقات الانفلات، حدث هذا إبان عصر مبارك وتحديدًا في أوائل العام 1998، عندما نشرت صحيفة "النبأ" الخاصة صورًا لا تراعي الآداب العامة لراهبٍ مشلوح من الكنيسة الأرثوذكسية، مما كاد يتسبب في فتنة طائفية، وهو ما أدى إلى اجتماع الرئيس الأسبق مبارك بالمجلس الأعلى للصحافة لبحث هذه الأزمة، وهو الاجتماع الذي انتهى بالتوصية بإصدار ميثاق الشرف الصحفي، والتوصية بإعداد تقارير لتقييم الممارسة الصحفية لمختلف قطاعات الصحافة المصرية القومية والحزبية والخاصة والصادرة بتراخيص من الخارج والصادرة بلغات أخرى غير العربية.

كما حاول الإخوان المسلمون أيضًا أن يصوغوا ميثاقًا للشرف الإعلامي لمواجهة ما رأوه انفلاتًا إعلاميًا، وقد أوكلوا هذه المهمة إلى جهات ثلاث: كلية الإعلام جامعة القاهرة بالتعاون مع مؤسسة فريدرش إيبرت الألمانية ومشاركة بعض الإعلاميين ذرًا للرماد في العيون، إلا أن العيب الرئيس في هذا الميثاق الذي لم يخرج إلى النور هو الباعث السياسي على إصداره وليس الباعث المهني أو الأخلاقي، كما أن الإعلاميين كان دورهم هامشيًا فيه، كما أن معظم الأكاديميين الذين كانوا يشاركون في جلسات إعداده محسوبون على جماعة الإخوان المسلمين.

كما قام الإخوان بإصدار تقرير للممارسة الصحفية أوكلوا كتابته لأستاذ متخصص في العلاقات العامة، وقريب من الإخوان لم يمارس الصحافة قط، وصدر هذا التقرير لكي يشوّه الإخوان الصحف التي تقف لهم بالمرصاد، في أسلوب مكشوف للانقضاض عليها وانتهاك حريتها أو وجودها إذا حانت اللحظة المواتية، ونال هذا التقرير عديدًا من الانتقادات الحادة من قبل الصحفيين وشيوخ المهنة وأساتذة الصحافة.

ثانيا: الموقف من الميثاق المطروح

أعلن مجلس الوزراء برئاسة المهندس إبراهيم محلب، مساء الخميس 27 من مارس الماضي موافقته على مشروع مبدئي وليس نهائيًا تقدمت به د. درية شرف الدين وزيرة الإعلام لميثاق للشرف الإعلامي يصلح كنقطة بداية قابلة للنقاش والتعديل والإضافة والحذف. وبحسب بيان صادر عن مجلس الوزراء في اليوم نفسه، أوصى مجلس الوزراء بطرح مشروع الميثاق للحوار المجتمعي والنقاش عبر جموع الإعلاميين تمهيدًا للتوافق عليه وإصداره عن طريقهم.

وقد أثار هذا الميثاق لغطًا غير مسبوق في الساحة الإعلامية المصرية، فقد رفضه الإعلاميون ورموز نقابة الصحفيين والنقابات الإعلامية تحت التأسيس، وخبراء وأساتذة الإعلام وثوار ماسبيرو الذين ينتمون للمبني نفسه الذي تباشر منه وزيرة الإعلام عملَها، وللحقيقة فإن محاولات شتى بذلت لصياغة عديدٍ من مواثيق الشرف الإعلامية بعضها نجح بالفعل وبعضها الآخر لم يكلل بالنجاح، ولكن لم يُواجه إحداها بمثل هذه العاصفة من النقد الحاد والجدل الذي لا يزال محتدمًا حتى الآن.

فتُرى ما سرُ هذا الجدل والانتقاد الحاد لميثاق شرف الوزيرة الذي أقرته الحكومة كمشروع قابل للنقاش من قِبل الإعلاميين والجمهور؟

 إن سرَ هذا الجدل - من خلال استعراض عديدٍ من الكتابات والتغطيات الصحفية حول الموضوع- يتمحور حول النقاط التالية:

أولا: مواثيق الشرف المهنية ومدونات السلوك لا تصدرها الحكومات، وإنما يصدرها أصحاب الشأن، فالإعلاميون في الدول الديمقراطية يصدرون مواثيق الشرف الإعلامي من خلال نقاباتهم المستقلة، وبعد حوار مجتمعي يشارك فيه الإعلاميون والأكاديميون والجمهور.

ثانيًا: قالت د. درية شرف الدين، وزيرة الإعلام، إن فكرة إنشاء ميثاق الشرف الإعلامي جاءت امتثالًا لرغبة الرأي العام بعمل ميثاق شرف إعلامي، منوهة بأنها طرحت المشروع بشكل مبدئي، حتى يتسنى إسهام الإعلاميين بآرائهم، والسؤال هنا هو: هل أجرت الوزيرة دراسة على الرأي العام المصري حتمت نتائجها صياغة ميثاق شرف إعلامي في هذا التوقيت؟ ولماذا لم تطرح السيدة الوزيرة نتائج هذه الدراسة على الإعلاميين أنفسهم –باعتبارهم أصحاب المهنة- لكي تحفزهم على صياغة هذا الميثاق بضغطٍ من الرأي العام المصري ، وليس من وزارة الإعلام أو الحكومة.

ثالثًا: ذكرت د. درية أن مشروع ميثاق الشرف الإعلامي لم يوضع بشكل شخصي من وزارة الإعلام، وإنما عن طريق اطلاعها على عدد من مواثيق الشرف في دول عربية وإسلامية، وإن هذا المشروع جاء نتيجة عدم تقدم أحد من الإعلاميين بميثاق شرف، ونأمل في أن يتم العمل بهذا الميثاق في جميع المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة قبل انتهاء عام ٢٠١٤، نافية مشاركة أي شخصية من خارج مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون في المشروع.

وفي الحقيقة، فإن ما ذكرته الوزيرة يدين مشروع الميثاق أكثر مما يُحسب له كما أرادت الوزيرة، فمسألة اطلاعها على عدد من مواثيق الشرف في دول عربية وإسلامية قد تكون في الأساس لم تعرف الديمقراطية بعد، وقد يكون سجلها سيئًا في حرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام قد تكون محفوفة بالمخاطر للاسترشاد بها في صياغة ميثاق شرف إعلامي (حكومي) لدولة كبيرة كمصر ثارت مرتين من أجل الحرية، وقد يكون من المفيد هنا أن تُطالع السيدة الوزيرة مواثيق الشرف الإعلامية في الدول الغربية الديمقراطية، إذا كانت تؤمن حقًا أننا في مرحلة للتحول الديمقراطي.

أن المبادئ الأخلاقية لابد أن تكون نابعة من الإعلاميين أنفسهم حتى يستطيعوا الالتزام بها، لأنها تعبر عن ضمائرهم المهنية، ولذلك فهم الأقدر على تصور مشكلاتهم ومواجهتها

كما أنه، على ما يبدو، أن الوزيرة لا تعلم أن نقابات الإعلام (المستقلة) لديها مشروعات لمواثيق الشرف الإعلامي، إلا أن هذه النقابات لم ترَ النور، ووضعت أمامها العراقيل منذ عهد الإخوان وحتى الآن، كما أنه بفرض (عدم تقدم) (أحد) من الإعلاميين بميثاق شرف، ورغم ما تحمله هذه العبارة من تسلط وفردية لا تتناسب بحالٍ من الأحوال مع مواثيق الشرف المهنية التي تضعها (الجماعة) الإعلامية وبشكلٍ طوْعي، إلا أن هذا لا يقوم سببًا لقيام الوزيرة بطرح ميثاقٍ إعلامي. ، ناهيك عن تحديد موعد لإنفاذ هذا الميثاق والعمل به.

ورغم نفي الوزيرة مشاركة أية شخصية من خارج مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون في مشروع الميثاق، فإن هذا لا يُحسب له بل يُحسب عليه، لأن هذا يعني أنه ميثاق سلطوي حكومي بامتياز لم يشارك فيه إعلاميو ماسبيرو أنفسهم الذين أعلن ائتلافهم الثوري رفضه على صفحتهم على الفيس بوك، كما لم يشارك فيه الإعلاميون العاملون في القنوات الفضائية الخاصة، ولم يشارك فيه أساتذة وخبراء الإعلام، كما لم يشارك في صياغته الجمهور أو الرأي العام الذي أعطت الوزيرة لنفسها الحق أن تتحدث عنه دون أن تدرس اتجاهاته على الأرجح ودون تمثيله للتعرف على وجهة نظره.

رابعًا: إن دعوة المهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء، أصحاب القنوات الفضائية التليفزيونية الخاصة ومديريها دون حضور للإعلاميين أصحاب المهنة لمناقشة ميثاق الشرف الإعلامي لم تكن خطوة موفقة على الإطلاق في سبيل دعم الميثاق المقترح قد بعث برسائل خاطئة على مستويات عدة منها: أن سلطوية الحكومة في عرض المشروع على مجلس الوزراء والموافقة عليه يصب في التوافق مع سلطوية أصحاب القنوات الخاصة ومديريها لإنفاذ مشروع الميثاق، إن هذا الاجتماع نظر إليه البعض على أنه تزاوج جديد بين السُلطة ورأس المال، وهو ما حفَز عديد من كبار الإعلاميين ضد هذا الاجتماع وعلى رأسهم الإعلامي الكبير الأستاذ حمدي قنديل الذي كتب تغريدة حول هذا الاجتماع على تويتر في هذا الصدد.

خامسًا: رأى البعض من الإعلاميين وأعضاء مجلس نقابة الإعلاميين (تحت التأسيس) وائتلاف ثوار ماسبيرو وأساتذة وخبراء الإعلام أن إطلاق وزيرة الإعلام ميثاق الشرف الإعلامي أمر غير مرحب به، ويعتبر تدخلًا واضحًا منها في شئون تنظيم المهنة، وانتهاكا للدستور الذي ينص في المادة 77 منه عاى اختصاص النقابات بالمواثيق الشرفية والمهنية، بل ذهب البعض إلى أن وجود الوزيرة في حد ذاته مخالفًا للدستور الجديد، لذا فإن مشروع الميثاق صدر من غير ذي صفة، وكان يجب على الوزيرة أن تنتظر أن يتم تخليق الكيانات الجديدة التي نص عليها الدستور الجديد مثل المجلس الوطني للإعلام ، ليتعرض لمثل هذه النوعية من القضايا المتعلقة بمهنة الإعلام.

سادسًا: أن الدستور الجديد يمنع محاسبة الصحفيين والإعلاميين إلا من قبل نقابتهم أو القضاء فقط، وذلك على عكس ما أشارت إليه الوزيرة من البحث عن آليات للمحاسبة والعقاب. وأشار البعض إلى أن الحكومة التي تصدر ميثاق شرف تصبح حكومة سلطوية، وفي رأينا أن مثل هذه النوعية من المواثيق تُولد ميتة لا حياةَ فيها، ويُكتب لها الفناء، مثلما حدث مع مقترح تنظيم البث الإعلامي العربي وميثاق الشرف الإعلامي اللذيْن طرحهما أنس الفقي، آخر وزير إعلام في حكومات الحزب الوطني المُنحل، وصلاح عبد المقصود وزير الإعلام الإخواني.

 

ثالثا: قراءة موضوعية فى  نقد الميثاق شرف وزيرة الإعلام:

وعلى الرغم من تحفظ الإعلاميين وأساتذة وخبراء الإعلام على تدخل الحكومة بشكلٍ سافر في إصدار ميثاق شرف مهني يجب أن يقوم على إصداره كما أسلفنا الإعلاميون أنفسهم والاستعانة بمن يروْن من الأكاديميين أو الجمهور المستهدف بالمادة الإعلامية، فإننا نرى أنه من المفيد أن نقوم بقراءة تحليلية ونقدية لهذا الميثاق بُغية عرض الموضوع من مختلف جوانبه.

وفي البداية نقول أن مشروع الميثاق رغم اللغط والجدل الذي أُثير حول طريقة إصداره ليس سيئًا تمامًا، حيث توجد به بعض الجوانب الإيجابية التي يُمكن أن تؤخذ في الاعتبار في أيِ ميثاق يضعه الإعلاميين، ومن بين هذه الجوانب الإيجابية:

أولاً: ما ورد في المواد من المادة الثامنة وحتى المادة الثانية عشرة من باب الواجبات التي يجب أن يلتزم بها الإعلاميون، من حيث الامتناع عن التشهير أو التحريض على الكراهية أو العنف أو الإرهاب أو التمييز على أسس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو الأصل أو المستوى الاجتماعي، وهى مسألة مهمة في ظل الانقسام الذي تعيشه مصر في المرحلة الراهنة، وحالة الاستقطاب المتبادلة، علاوة على وجود ديانات ومذاهب مختلفة يجب أن تتعايش سويًا في نسيج وطني واحد. هذا علاوة على ضرورة البعد عن إثارة الشك والشائعات والأخبار الكاذبة و عدم إذاعة ما يدعو إلى الإحباط أو تثبيط الهمم والروح المعنوية للشعب، وهى الحرب النفسية التي يحياها الشعب المصري منذ فض اعتصامي رابعة والنهضة، بالإضافة إلى عدم تناول ما تتولاه سلطات التحقيق أو المحاكمة في الدعاوى الجنائية أو المدنية بطريقة تستهدف التأثير على صالح التحقيق أو سير المحاكمة، والالتزام بحق الرد والتصحيح، وعدم الترويج للسلوكيات الإجرامية والإغراء بتقليدها.

ثانيًا: يحث الميثاق الإعلاميين في مادتيه السابعة عشرة والثامنة عشرة من باب الواجبات على الارتقاء بالذوق الفني والجمالي العام وتنمية الملكات والمواهب، ونشر الوعي البيئي، وهى كلها أمور لا خلاف عليها، بل هي واجبة في ظل تردي الذوق العام المصري في الآونة الأخيرة.

ثالثًا: وثمة مادة مهمة وهي المادة (19) في باب الواجبات، وهي تمثل أرقًا دائمًا لضيوف ومشاهدي البرامج المختلفة ولاسيما برامج التوك شو، وهي مراعاة أصول الحوار وآدابه واحترام ضيوف الحوار وحقهم في تقديم أنفسهم وشرح آرائهم وكذلك حق المواطنين في المعرفة وعرض وجهات نظرهم على اختلاف توجهاتهم في الموضوعات الجماهيرية، حيث يفهم بعض مقدمي هذه النوعية من البرامج – للأسف الشديد – أن التوك شو معناه أن يستعرضوا مهاراتهم في الحديث لأطول وقت ممكن على حساب الضيوف.

رابعًا: كما أن المادة (20) من باب الواجبات والتي تقضي بالالتزام بمعايير الجودة المهنية والأمانة والحياد في المحتوى الإعلامي والالتزام بعنصري الحقيقة والعدالة في العرض مع التأكد من مصادر المعلومات وذكر المصدر كلما أمكن هي من صميم العمل الإعلامي الذي يتسم بالدقة والشفافية والنزاهة والمهنية.

خامسًا: كما أن المادتين (21) و (22) من باب الواجبات من حيث الامتناع عن بث المشاهد الخليعة أو الخارجة عن اللياقة والحشمة أو العبارات أو الإيحاءات أو الإشارات أو المعاني البذيئة أو الإباحية والجنسية الفجة التي تخرج عن الذوق العام، ومراعاة عرض الأفلام والمسرحيات والمواد الفنية مصنفة حسب الفئات العمرية حماية للأطفال والنشء، فهذا أيضًا لا خلاف عليه للحفاظ على أخلاقيات المجتمع وتقاليده، بالإضافة إلى أن عملية تصنيف الأفلام حسب مدى ملاءمتها للفئة العُمرية ووضع تنويه بهذا قبل عرض الفيلم يُعد تقليدً راسخًا في القنوات التليفزيونية الغربية، ولعلنا نلاحظ ممارسة إعلامية مثيلة على قنوات "شو تايم".

ورغم هذه الجوانب الإيجابية التي رصدناها في مشروع ميثاق الشرف الإعلامي، إلا أن هذا المشروع لم يخلُ من عديد من السلبيات التي ربما جاءت تكرارًا لما وقعت فيه مواثيق الشرف الإعلامي في الدول العربية والإسلامية التي اطلعت عليها د. درية شرف الدين عند إعداد هذا المشروع، أو ربما جاءت لتطالب الإعلاميين بما هو دورٌ أصيل للدولة تعمد دومًا إلى التغافل عنه:

أن الحكومات والأنظمة تسعى لفرض مواثيق الشرف الإعلامية في إطار سيعيها الحثيث للبحث عن الأخلاقيات في أزمنة وأوقات الانفلات

أولًا: الفقرة الأولى من مشروع الميثاق مثيرة للسخرية إلى حد البكاء كما هو الحال في الكوميديا السوداء، حيث تتحدث هذه الفقرة عن الإعلاميين المصريين في مجال الإعلام المرئي والمسموع العام والخاص، وهم الإعلاميون الذين لا يعرفون شيئًا عن ميثاق الوزيرة، وأعطت لنفسها حقًا غير مشروع للحديث بلسانهم، وكأن عملها السابق كإعلامية يجعلها تتحدث باسمهم دون الرجوع إليهم أو استشارتهم ، رغم اتساع الوسائل الإعلامية التي ينتمون إليها ، واختلاف رؤيتها الإعلامية.

ثانيًا: جاء مشروع الميثاق – كغيره من مواثيق الشرف الإعلامي، وكذلك تشريعات الإعلام في الدول السلطوية – حافلًا بالعبارات المطاطة، ولاسيما في باب المبادئ، ومن أمثلة هذه العبارات المطاطة: الأمن القومي المصري، وحدة الوطن، وسلامة أراضيه، وخدمة الشعب والوطن، مهنتنا ترتبط بضمير الشعب.

ثالثًا: جاءت المادة السابعة في باب المبادئ لتنص على حق الإعلاميين في الوصول الى المعلومات وتداولها وبثها، لأن ذلك هو صُلب مهنة الإعلام ومكونٌ أساسيٌ لقيامهم بدورهم، وقد أكدت المادة الثالثة في باب الحقوق على هذا الحق مرة أخرى ، حيث نصت على أن "للإعلاميين الحق في الوصول إلى الأخبار والمعلومات والإحصاءات والوثائق، والاطلاع عليها واستقاء ما يلزمهم منها بما يخدم عملهم الإعلامي ويضفى عليه المصداقية".

والحقيقة أن مسئولية الدولة تسبق مسئولية الإعلاميين في حق الوصول للمعلومات وتداولها وغير ذلك مما ورد في المادتين المشار إليهما سلفًا، فلقد بُح صوت الإعلاميين منذ أُخريات حكم مبارك وفي فترة ما بعد الثورة، وخلال حُكم الإخوان من أجل إصدار قانون لتداول المعلومات، وقدمت بعض منظمات المجتمع المدني مشروعات لمثل هذا القانون، كما حدثت مساجلات أثناء حُكم الإخوان حول هذا القانون الذين كانوا يريدون أن يُصدروه بمعزل عن الإعلاميين أو بمشاركة الإعلاميين الذين ينتمون إليهم بالأساس ومشاركة شكلية من سائر الإعلاميين. وعلى أية حال، لم يصدر مثل هذا القانون حتى الآن، فكيف إذن يتحقق هذا الحق للإعلاميين، وهو حقٌ تنكره عليهم الدولة.

أن الدستور الجديد يمنع محاسبة الصحفيين والإعلاميين إلا من قبل نقابتهم أو القضاء فقط

رابعًا: ما ورد في المادة الأولى من باب الواجبات من حيث احترام حقوق وكرامة الإنسان وحرمة الحياة الخاصة للمواطنين والامتناع عن انتهاكها بأي صورة من الصور، أغفل جانبًا مُهمًا فيما يتعلق بقضية الخصوصية، وهى أنه لا خصوصية للشخصيات العامة التي تشغل منصبًا عموميًا، ولا خصوصية للمُتهمين بالعمالة للخارج وتلقي الأموال من جهات لا تريد الخير لهذه البلاد، ولو تعاملنا مع هذا المبدأ على إطلاقه، لكان مُحرمًا على عبد الرحيم علي مقدم برنامج "الصندوق الأسود" أو على "جوليان أسانج" صاحب موقع "ويكيليكس" أن يذيعا ويبثا تلك التسريبات التي سلطت إضاءات ساطعة وكاشفة لبعض جوانب الصورة التي لم تكن الشعوب تراها فيمن كانت تنظر إليهم بالاحترام والتقدير وهم لا يستحقون ذلك.

خامسًا: لم أكن أود أن يخلط هذا الميثاق في مادته الرابعة من باب الواجبات بين الديني والدنيوي، فالإعلام والدين بينهما بعض علاقات الوصل وكثير من مساحات القطيعة. ومن هنا، فإن مواثيق الشرف المهنية (الأخلاقية) يجب ألا تخضع لتعاليم الدين من حيث الأوامر والنواهي، لا أقول ذلك من منطلق الاستباحة، ولكن أقوله من منطلق أن المواثيق مسألة أخلاقية قد يلتزم بها البعض ولا يلتزم بها البعض الآخر، لذا فمن الأفضل عدم الزج بأمور دينية في مواثيق هي في الأساس أخلاقية، كما أن الدستور والقانون يضع عقوبات محددة على من يسئ إلى الذات الإلهية أو الأديان أو الرُسل ومن يدعو إلى الإلحاد، وبالتالي فإن مثل هذه الأمور مفروغٌ منها في القانون ، فلماذا يتم تضمينها في ميثاق شرف أخلاقي. إن ثورتي يناير ويونيو قامتا من أجل دولة مدنية حديثة لا مجال فيها للخلط بين ما هو ديني وما هو دنيوي.

سادسًا: دعا مشروع الميثاق إلى الحفاظ على سلامة اللغة العربية باعتبارها قوام الثقافة العربية ورمز الهوية، وتعلقًا على ذلك أقول أن ثمة أخطاء لغوية وردت في هذا المشروع، ويبدو أن جهابذة ماسبيرو يثقون، إلى حد الغرور في مَلَكَاتِهم اللغوية، لدرجة عدم استعانتهم بمُصححٍ لغويٍ محترف.

سابعًا: يوجد ثمة توجيه غير مستحب في المادة السادسة من باب الواجبات، وهو المتعلق بتعزيز العمل العربي المشترك باعتباره ركيزة أساسية للتضامن العربي وتسخير إمكانات الإعلام كافة في خدمة المصالح العليا للأمة العربية، وهى رؤية عروبية قد يتبناها البعض وقد لا يتبناها البعض الآخر، ولا غضاضة في كلا التوجّهيْن إذا كانا يصُبان في النهاية في المصلحة الوطنية.

ثامنًا: تستخدم بعض عبارات المادتين (13) و(15) من باب الواجبات عبارات من قبيل: "القيم المثالية" و"الموعظة الحسنة" و"القيم النبيلة" ، وهي كلها تعكس انعزالًا عن قيم المجتمع على أرض الواقع، وربما لا توجد مثل هذه المثاليات سوى في عقول من صاغوا مثل هذه العبارات.

تاسعًا: إن إفراد المادة (23) من باب الواجبات للإعلانات التجارية ليس مكانه ميثاق شرف إعلامي، بل من الأفضل أن يكون جزءًا من ميثاق شرف إعلاني يقوم بصياغته ممثلون عن المعلنين ووكالات الإعلان ووسائل الإعلام المعلنة وخبراء وأساتذة الإعلان والجمهور المستهدف بهذه الإعلانات.

عاشرًا: قصر هذا المشروع على الإعلام المرئي والمسموع يوحي بأن هذا النوع من الإعلام هو الذي تستطيع الدولة السيطرة عليه، وهي رسالة خاطئة تُرسل بها الدولة للإعلاميين، وكان من الممكن إذا خَلُصَت النوايا أن يكون هذا المشروع ميثاقَ شرفٍ إعلاميٍ لكل الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمطبوعة والإلكترونية، إذا تم توسيع قاعدة الإعلاميين والأكاديميين والجمهور الذين سيناط بهم صياغة مثل هذا المشروع.

وفي النهاية، فإن تشكيل مجموعة مصغرة من إعلاميين مرموقين ومن شخصيات عامة تحظى بقبول شعبي تكون مهمتها تلقي شكاوى انتهاك الميثاق، طبقًا لمبادئه ومراجعتها لإقرار الانتهاك من عدمه، على أن تقوم هذه المجموعة أو اللجنة بتحديد عقوبات مسبقة لتوقيعها على المخالفين لميثاق الشرف، هو أسلوب للزجر والتهديد لا وجود له في مواثيق من المفترض أن تكون أخلاقية، يمثل الالتزام بها ضمير الإعلامي ومهنيته والتزامه أمام المجتمع.

إن ثورتي يناير ويونيو قامتا من أجل الحرية، والأسلوب والطريقة والإقصاء الذي صدر بها مشروع ميثاق الشرف الإعلامي لا ينم أننا في مسيرتنا الصحيحة نحو الحرية. إن الإعلام قام بدور مشهود لإسقاط حكم الإخوان، وكان معولًا فاعلًا في حكمهم الاستبدادي، فلا ينبغي أن نجعله كذلك بعد ثورتين ودستور يكفل حرياتٍ إعلامية غير مسبوقة لم ينعم الإعلام بأيٍ منها حتى الآن.

*أستاذ الصحافة وتكنولوجيا الاتصال كلية الإعلام – جامعة القاهرة

    

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟