المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

شهدت عدة مناطق في العراق، أبرزها العاصمة بغداد، تظاهرات حاشدة في الأسابيع القليلة الماضية، ترافقت مع ارتفاع درجات الحرارة إلى أكثر من 50 درجة مئوية

الأسباب والمسارات: الأزمات الداخلية في العراق

الأحد 30/أغسطس/2015 - 01:28 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. يسري العزباوي
شهدت عدة مناطق في العراق، أبرزها العاصمة بغداد، تظاهرات حاشدة في الأسابيع القليلة الماضية، ترافقت مع ارتفاع درجات الحرارة إلى أكثر من 50 درجة مئوية. وطالب المحتجون بتحسين الخدمات العامة، لا سيما المياه والكهرباء، ومكافحة الفساد ومحاسبة المقصرين في دوائر الدولة. وتلقت هذه المطالب جرعة دعم مهمة، مع دعوة المرجعية الأعلى آية اللـه على السيستاني، الذي يتمتع بتأثير كبير، رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي إلى أن يكون "أكثر جرأة وشجاعة" ضد محاربة الفساد، وذلك عبر اتخاذ "قرارات مهمة وإجراءات صارمة في مجلس مكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية".

أزمات متكررة ... وعوامل مختلفة
في الواقع الفعلي، يعيش العراق منذ عام 2003 أزمات متتالية ليست فقط على الصعيد السياسي ولكن على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية. إلا أن المظاهرات التي عمت إرجاء المدان العراقية مؤخرًا مختلفة كليًا عن المظاهرات التي سبقتها، وذلك لعدة عوامل، أهمها: أولا: الطابع الشعبوي، خاصة وأنها غير مسيّسة وعابرة للحزبية والطائفية أو العشائرية، وليست من طائفة ضد طائفة أخرى، كما أنها في مختلف المدن والمحافظات العراقية. ثانيا، أنها تتسم بأنها مظاهرات واحتجاجات ذات صفة مطالبية محددة من آلاف العراقيين، حيث طالب المحتجين رئيس الوزراء بالمزيد من الإجراءات لمحاسبة المقصرين وتحسين الخدمات العامة.
 ثالثا، تأييد المرجعيات الدينية، حيث تحظى المظاهرات بقبول واسع من قبل كل المرجعيات الدينية في العراق دون استثناء، والتي طالبت بضرورة الضرب من حديد على المفسدين ومحاسبتهم، بغض النظر عن مناصبهم السابقة أو الحالية، وتفعيل دور الهيئات والمؤسسات الرقابية، خاصة هيئة النزاهة. وأخيرًا، وجدت صدى واستجابة سريعة، لم يتوقعهما أحد، من قبل الحكومة، الذي اتخذ حزمة من القرارات المهمة التي ربما تظهر نتائجها بشكلا جليًا على الموازنة العامة للدولة في عام 2016، خاصة مع دمج بعض الوزارات، وتخفيض عدد الحراسات المقررة لكبار المسئولين في الدولة، وإلغاء بعض المناصب التي ساعدت على تكريس الطائفية، ولم تستفيد منها الدولة العراقية.  

أسباب متعددة للاحتجاجات
من الأهمية القول؛ إن أسباب قيام الاحتجاجات لا تتوقف فقط عند مسألة انقطاع التيار الكهربائي إثر موجة الحر التي عصفت بالبلاد، ولكن لأسباب عديدة يلمسها المواطن العراقي، الذي يئن من أوضاع اجتماعية واقتصادية في غاية الصعوبة. ونشير فيما يلي إلى عدة أسباب حقيقية لهذه المظاهرات، وهي:
1- تنامي الفساد الإداري والمالي:  يعتبر الفساد الإداري والمالي من أهم المشاكل التي يعاني منها العراق، وذلك لأسباب تتعلق بانعدام سلطة القانون وتدني مستوى الرقابة في المؤسسات الحكومية، ووجود الحماية الضمنية داخل المؤسسات للمفسدين. حيث يلجأ بعضهم إلى استغلال مناصبهم من أجل تحقيق مكاسب مادية، عن طريق تقديم تسهيلات لبعض رجال الأعمال في القطاع الخاص  للحصول على قروض من البنوك الحكومية بفوائد منخفضة وبدون ضمانات مقابل حصولهم على جزء من القرض كرشوة أو عمولة. كما نشطت في الآونة الأخيرة عمليات تهريب الأموال التابعة للمسئولين والتى حصلوا عليها بطرق غير مشروعة إلى البنوك التابعة للدول الأجنبية لاستثمارها، مقابل فوائد عالية، أو قيامهم بشراء عقارات خارج بلدانهم.
اللافت للنظر، أنه لم يدخل العراق في جدول مدركات الفساد في العالم إلا بعد العام 2003 بسبب استحالة الوصول إلى المعلومة في ظل النظام السياسي السابق. وهو ما دفع منظمة الشفافية الدولية إلى استبعاده من مؤشرات مدركات الفساد في تقاريرها السنوية قبل هذا التاريخ. وفي عام 2011 احتل العراق نسبة عالية في مدركات الفساد. ففي عام 2004 حصل على التسلسل 129 من بين 145 دولة ضمن التقرير بوصفه الأكثرًا فسادًا بموجب المدركات. وفي عام 2010 جاء تسلسله 175 ضمن جدول الدول البالغ عددها 178 دولة. وفي عام 2011 تحسن وضع العراق تحسنًا طفيفا من حيث درجة المؤشرات من دون المرتبة. فقد أصبحت درجة تقرب من 2 من 10 عن السنة السابقة عليها، حيث كانت تزيد على درجة وربع الدرجة من مقياس 10 درجات التي تعتمدها المنظمة، وهي زيادة غير مشجعة لمدركات الفساد. وهو ما يؤكده رئيس هيئة النزاهة الأسبق في بغداد القاضي رحيم العكيلي، الذي أكد على أن الفساد في العراق له أسباب كثيرة، أبرزها انحراف النظام السياسي وعدم تطبيق مبادئ الديمقراطية الحقيقية وانعدام المساءلة وانعدام الشفافية، إضافة إلى أن الجهات الرقابية لم تتمكن من العمل، لأنه حينما تكون القيادات السياسية والتنفيذية والقضائية مشاركة ومتورطة في الفساد فكيف تعمل هذه الجهات؟ وكشف العكيلي عن وجود آلاف المشروعات الوهمية والفاشلة التي تقدر قيمتها بنحو 228 مليار دولار، تخصم من ميزانية العراق.
2- تباطؤ النمو واختلال هيكل الاقتصاد العراقي: وقد ترتب على ذلك ظهور آثار سلبية تمثلت في تعزيز مشكلة التضخم والبطالة وحجم المديونية الخارجية. وبطبيعة الحال، فإن الآثار الاقتصادية قد ولدت آثارًا اجتماعية من خلال تدني مستوى القطاع التعليمي والصحي وكذلك توسيع حجم التفاوت بين دخول فئات المجتمع وتزايد حالات الفقر وتأثيراته على معدلات الجريمة. وهنا يمكن القول إن العراق أصبح بلدَا مستهلكًا من الطراز الرفيع، ولم تستطيع صادراته من النفط أن تلبي احتياجاته، وارتفعت نسبة الفقر، وهو ما أكدت عليه وزارة التخطيط العراقية والتي أكدت أن نسبة الفقر في العراق بلغت 22.5% بزيادة 7% على عام 2012.
كما تحمل الاقتصاد العراقي أعباء كبيرة تمثلت بحجم المديونية الكبيرة لصالح الدول الأجنبية والعربية التي أثقلت كاهله وأصبحت من أهم المعوقات التي تواجه عملية التنمية في العراق، فبعد أن كان يحتل المرتبة الرابعة من حيث حجم الفوائض المالية على الصعيد العربي أصبح الآن يحتل مراتب متقدمة في حجم المديونية المترتبة عليه لصالح العالم الخارجي.  
3- فشل خيار المصالحة الوطنية: على عكس المتوقع، فقد أدت الإطاحة بصدام حسين،  إلى تعزيز الهوية الضيقة، والانقسام والفرقة، والنزاع الداخلى، والعنف المذهبى. وقد أظهرت الانتخابات الوطنية التي أجريت كيف تصوت المذاهب الدينية والمجموعات الإثنية ككتلة في هذا النظام للوائح المرشحين الذين يدعمهم القادة القبليون والدينيون.  كما أدى تعثر العملية السياسية في العراق إلى تعثر في عملية المصالحة الوطنية، وتأخير حسم الإصلاحات الدستورية أو على الأقل حل أم الأزمات في العراق وهي مشكلة كركوك.
4- تكلفة الحرب على داعش: فلا شك في أن فاتورة الحرب على تنظيم داعش الإرهابي كلفت الحكومة المركزية في بغداد عدة مليارات من الدولارات، التي كانت بحاجة إليها البنية الأساسية والخدمات العامة. فضلاً عن الاعتمادات الإضافية من الموازنة العامة للدولة للجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي. أضاف إلى هذا بأن هناك أكثر من 17% من الموازنة العامة للدولة تذهب إلى إقليم كردستان الذي لا يسهم بأي شيء في إيرادات الموازنة، وكأنها رشوة للإقليم لكل يظل ضمن حدود الدولة العراقية.

در فعل الحكومة وموقف الكتل السياسية
في مفاجأة غير متوقعة للكثيرين، تحركت الحكومة العراقية بسرعة فائقة، وتدرج محسوب، ومرونة تحسد عليها، بعيدًا عن الحسابات الطائفية الضيقة، وفي محاولة منها للاستجابة إلى المطالب المشروعة للمتظاهرين، حيث أقدم رئيس الوزراء على اتخاذ حزمة من الإصلاحات التي ساعدت، بشكل أو بآخر، امتصاص غضبة الشارع العراقي الذي خرج في تظاهرات عارمة شهدتها 8 مدن عراقية، بدأت في محافظة البصرة الجنوبية ثم لحقتها بقية المحافظات العراقية.
 وقد تمثلت الحزمة الأولى من الإصلاحات في إلغاء مناصب عليا كان قد تمتع بها ساسة البلاد منها: إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء وتقليل أعداد الحراسات الخاصة، وكذلك المخصصات المالية لكبار القادة والشخصيات والمستشارين.  وعلى الرغم من ذلك ازدادت وتيرة المظاهرات يومًا بعد آخر، وكذلك المطالب التي ارتفع سقفها ليصل إلى المطالبة بإلغاء مجلس النواب أو تشكيل حكومة إنقاذ مؤقتة تمهيدًا لانتخابات نيابية مبكرة. مما أدي بالحكومة إلى الدفع بالحزمة الثانية من الإصلاحات، والتي تمثلت في إلغاء عدد من الوزارات ليحتفظ بـ 22 وزيرا فقط . فضلا عن إبعاد جميع المناصب العليا من هيئات مستقلة ووكلاء وزارات ومستشارين ومديرين عامين عن المحاصصة الحزبية والطائفية، على أن تتولى لجنة مهنية يعينها رئيس مجلس الوزراء اختيار المرشحين على ضوء معايير الكفاءة والنزاهة بالاستفادة من الخبرات الوطنية والدولية في هذا المجال، وإعفاء من لا تتوفر فيه الشروط المطلوبة.
ولا جدال في أن مشروع رئيس الوزراء العراقي الإصلاحي حظي بتأييد شعبي وبرلماني واسع، وأجبر حتى الكتل السياسية المتضررة منه على إعلان تأييدها له، خوفًا من أن يؤدي رفضها إلى انحسار، وربما انهيار، شعبيتها، لا سيما وقد جاء الإصلاح بعد دعوة المرجعية الشيعية إليه. وفي إشارة إلى دعم العبادي، حمل متظاهرون صورًا له كتب عليها "كل الشعب ويّاك"، ورددوا هتافات مؤيدة منها "يا حيدر سير سير (امض امض)، كلنا وياك في التحرير". كما أقر مجلس النواب بإجماع 297 نائبًا حاضرًا من أصل 328، حزمة اقتراحات حكومية لمكافحة الفساد وتحسين مستوى الخدمات، إضافة إلى حزمة إصلاحات برلمانية.
أما الأطراف السياسية المختلفة، فقد عقدت أغلبها اجتماعات سريعة لمناقشة الأمر، وباركت فيها حزمة لإصلاحات المقدمة من قبل رئيس الحكومة. فعلى سبيل المثال عقد التحالف الوطني (الشيعي) اجتماعا برئاسة إبراهيم الجعفري، وبحضور قادة الكتل الرئيسية فيه، وبحضور العبادي والمالكي ورئيس المجلس الأعلى الإسلامي عمار الحكيم والأمين العام لمنظمة بدر هادي العامري ووزير التعليم العالي والبحث العلمي حسين الشهرستاني، ومستشار الأمن الوطني فالح الفياض والقيادي في كتلة الأحرار أمير الكناني ورئيس كتلة الفضيلة النيابية عمار طعمة والنائب عن ائتلاف دولة القانون خالد الأسدي، وقد أيد المجتمعين الإصلاحات والإجراءات التي يتخذها العبادي.

مسارات الأزمة
تتوقف مسارات الأزمة العراقية الناشئة على عدة عوامل منها، على سبيل المثال وليس الحصر، أولًا: قدرة الحكومة على الاستمرار في الإصلاحات وفرضها على جميع الكتل السياسية بدون استثناء، خاصة قدرة على تطبيق الأحكام في قضايا الفساد المالى والإداري والسياسي. ثانيًا، قدرة الحكومة على تحقيق أية نجاحات في محاصرة الإرهاب والقضاء على تنظيم داعش سواءً  أكان ذلك بمساعدة التحالف الدولي أم منفردة. ثالثًا، القدرة على تحييد التدخلات الخارجية في الأزمات العراقية أو على الأقل المناورة وتقليل حجمها في هذه الأزمة. وبناء عليه، فإن هناك أكثر من مسار محتمل لهذه الأزمة، كما يلي:
المسار الأول: وهو الأكثر تفاؤلا، والأقرب إلى التحقق، ويتمثل في انحصار التظاهرات وعودة الهدوء إلى المدن العراقية، وهو ما يعني ضخ حزمة من الإصلاحات الخدمية بالأساس، والتي لا بد أن تنعكس بسرعة على حياة المواطن العراقي. وهو ما سوف يؤدي إلى تقوية الحكومة ليس فقط أمام الكتل السياسية، ولكن أمام العام الخارجي أيضًا، وهو المرجو في الفترة القادمة.
المسار الثاني: وهو السيناريو الوسط، ويتمثل في استمرار المظاهرات إلى فترة ليست بالقصيرة، وهو ما يعني الضغط على الحكومة لحين إجبارها على الاستجابة لجميع مطالب المتظاهرين، وهو ما قد يستفد منه تنظيم داعش وغيره من التنظيمات الإرهابية في العراق. وقد تستغرق إصلاحات الحكومة فترة تزيد على عام، وهو ما يجعلها على صفيح ساخن طوال هذه الفترة، وربما تفقد الحكومة التأييد الشعبي الذي لقيته في الشارع العراقي.  
المسار الثالث: وهو الأكثر تشاؤمًا، ويتمثل في فشل الحكومة في إجراءات الإصلاحات، وهذا يعني استمرار المظاهرات، بل ربما يزداد الوضع سوءًا، لأنها سوف توفير بيئة مناسبة لنمو داعش، وعودة ظاهرة التنظيمات الطائفية المسلحة، ورفع شعارات "التقسيم هو الحل" مرة أخرى بعدما تراجعت مثل هذه الشعارات في الفترة السابقة.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟