المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

الفائدة السلبية: أزمة السيولة في مصر

السبت 02/يناير/2016 - 11:04 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم نوار
وهو يغادرنا ترك لنا العام 2015 وراءه أزمة سيولة حادة. سيولة الموارد العامة بالعملة المحلية لم تعد قادرة على تشغيل الجهاز الإداري للدولة وملحقاته، تحلها الحكومة بزيادة الاقتراض من القطاع المصرفي، مما يدفع أسعار الفائدة المحلية إلى أعلى ويبعد القطاع الخاص عن المنافسة في سوق النقد المحلي. يضاف إلى ذلك نقص حاد في السيولة بالعملات الأجنبية، تواجهه الحكومة بالحصول على مساعدات مجانية أو مدفوعة الثمن بالعملات الأجنبية من الخارج. وقد سجلت السنوات الأخيرة توسعا كبيرا في محاولات الاقتراض بالعملات الأجنبية، بعد فترة من سياسة اقتصادية متحفظة جدا فيما يتعلق بالاقتراض من الخارج. ووسط الأمواج المتلاطمة في بحر السيولة فإن المواطن يدفع ثمنا فادحا كل يوم في صورة موجات ارتفاعات حادة في الأسعار، لا سند لدى المواطن العادي يساعده على مواجهتها.
وقد أسفرت محاولات الاقتراض من الخارج عن ترتيب قروض من البنك الدولي (3 مليارات دولار) وبنك التنمية الأفريقي (1.5 مليار دولار) إضافة إلى قروض أخرى من بنك الاستثمار الأوربي وصناديق التنمية العربية. وتجدر الإشارة إلى أن الإدارة المصرية ظلت شديدة التحفظ تجاه الاقتراض من المؤسسات الدولية حتى يناير 2013، حين كانت قيمة إجمالي الدين الخارجي لمصر تبلغ نحو 38.8 مليار دولار. وعلى الرغم من أن الديون الخارجية المستحقة على مصر قفزت في يوليو 2013 إلى 43.2 مليار دولار فإنها لم تتجاوز الـ 50 مليار دولار  حتى يوليو 2015 (48 مليارا)، لكن الأشهر الأخيرة من العام 2015 سجلت تحولا مفاجئا بزيادة الميل للتوسع في الاقتراض من مؤسسات التمويل الدولية بعد أن ازدادت صعوبة الحصول على التمويل الخارجي المجاني أو مدفوع الثمن من الدول العربية الخليجية التي أصبحت هي الأخرى تعاني من انخفاض فوائضها المالية بسبب تدهور أسعار النفط الخام والإنفاق على الحرب في اليمن.
إن قيمة الديون الخارجية الرسمية المستحقة على مصر قد كسرت حاجز الـ 50 مليار دولار

أولا- خطورة زيادة الديون الخارجية

وبعد "نجاح" الحكومة في ترتيب قرضين، أحدهما من البنك الدولي والآخر من بنك التنمية الأفريقي فإن قيمة الديون الخارجية الرسمية المستحقة على مصر قد كسرت حاجز الـ 50 مليار دولار، وهو رقم خطير بالنسبة لاقتصاد عاجز عن أن ينمو بمعدل يلاحق سرعة الزيادة في المطلوبات الخارجية بالعملات الأجنبية.

جدول (1) تطور قيمة إجمالي الدين العام الخارجي

(رصيد نهاية الفترة)

الشهر

القيمة (مليار دولار أمريكي)

يونيو 2010

33.69

يونيو 2011

34.9

يونيو 2012

34.38

يونيو 2013

43.23

يونيو 2014

46.06

ديسمبر 2014(ربع سنوي)

41.32

يوليو 2015*

48.06

  المصدر: وزارة المالية، التقرير المالي الشهري. أكتوبر 2015
* البنك الدولي:(tradingeconomics.com)

وسوف نلاحظ فيما بعد أن هناك علاقة قوية بين زيادة الدين العام الخارجي وبين قيمة الجنيه المصري. فزيادة قيمة الدين الخارجي تعني مباشرة زيادة المطلوبات الخارجية بالعملات الأجنبية. وحيث إن قدرة الاقتصاد على توفير هذه المطلوبات لا تزال محدودة جدا، فإن ذلك يولد ضغوطا على العملة المحلية، التي لم تجد الدولة  إلا أن تضحي بجزء من قيمتها في مقابل الحصول على الموارد اللازمة بالعملات الأجنبية بغرض سداد المستحقات المطلوبة لسداد فوائد وأقساط الديون الخارجية. 

ثانيا- العجز التجاري والجنيه

وتضاف إلى ذلك خطورة الزيادة المضطردة في العجز التجاري على الرغم من التراجع الكبير في أسعار النفط والغاز اللذين تستوردهما مصر. ويبين الجدول التالي تطور العجز في ميزان التجارة السلعية.

 

جدول (2) تطور العجز في الميزان التجاري (بالمليار دولار أمريكي بالأسعار الجارية للدولار)

السنة

العجز التجاري

2008

26.5

2009

20.72

2010

25.68

2011

30.7

2012

41.84

2013

37.17

2014

46.27

المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء

ومن الواضح أن قيمة العجز التجاري التي قفزت من 25 مليار دولار إلى 46 مليارا بين عامي 2010 و2014 أي بنسبة زيادة بلغت نحو 80% تعكس في جانب منها خطورة تحويل الدخل المحلي إلى الخارج في صورة مدفوعات للواردات تحرم الاقتصاد المحلي من فرص للاستثمار وتوفير العمل للعاطلين. إن العجز التجاري ليس مجرد أرقام بليدة، وإنما يمثل خسارة حقيقية للاقتصاد الوطني ونزحا لفرص الادخار والاستثمار والتكوين الرأسمالي إلى الخارج، وحرمان الاقتصاد المحلي منها. وهناك نوع آخر من الخطورة في حال مصر، يتمثل في جلب التضخم من الخارج في صورة مبالغة في أسعار تصريف الواردات في السوق المحلي بواسطة الاحتكارات التجارية التي تسيطر على الأسواق في كل المجالات تقريبا.

وقد لفت نظري في تصريحات السيد محافظ البنك المركزي وزملائه من أعضاء لجنة السياسة النقدية بعد انعقاد اللجنة في يوم الخميس 24 ديسمبر أن هناك تضاربا في أرقام الواردات التي يعلنها كل من البنك المركزي المصري وهذه التي تعلنها مصلحة الجمارك. وطبقا للجمارك فإن قيمة الواردات في السنة المالية 2014/2015 بلغت 60 مليار دولار. بينما أعلنت مصلحة الجمارك أن قيمة الواردات حسب إحصاءات المنافذ الجمركية بلغت 76 مليار دولار. وهذا يعني أن هناك فرقا بقيمة 16 مليار دولار أي ما يعادل 128.5 مليار جنيه مصر بسعر البنك (136 مليار جنيه بسعر السوق السوداء على اساس دولار= 8.5 جنيه مصري). ولم يحاول أي من المسئولين عن السياسة النقدية في مصر تفسير هذا التباين بين الرقمين، وهو تباين خطير، أو بيان خطورته على الاقتصاد الوطني.

إن قيمة ومعدل نمو العجز التجاري في مصر يمثل خطرا  داهما يهدد قيمة الجنيه بالنزول المتواصل ويهدد بانقراض معدلات الادخار والاستثمار السقيمة السائدة الآن في الاقتصاد.

ولا تتوقف خطورة الضغوط التي تتعرض لها العملة المحلية حاليا عند ذلك فقط، وإنما هي تهدد الإقتصاد كله بالدخول إلى دائرة مفرغة جهنمية، ربما تقود إلى المزيد من تعقيد فرص النمو والخروج من نفق العجز المالي والتجاري إلى فضاء النمو وتحسن فرص العمل ومستويات المعيشة. إن هذا الفارق بين قيمة التمويل المصرفي للواردات عن طريق البنك المركزي وبين قيمة الواردات المسجلة في المنافذ الجمركية يعني أن بعض الواردات تتم تسوية مدفوعاتها في الخارج بدون المرور على البنك المركزي. وهذا من شأنه أن ينببه السلطات النقدية إلى خطورة عودة انتشار عمليات المقاصة بالجنيه الممصري في الخارج وتجميع مدخرات المصريين في منطقة الخليج على وجه الخصوص عن طريق تجار العملة هناك، وسداد مستحقاتهم في مصر بالعملة المحلية، أو حتى سداد قيمة المدخرات بالعملة المحلية في الخارج. فقد أظهرت تقارير المنافذ الجوية زيادة كبيرة في محاولات تهريب النقد المحلي إلى الخارج في الأشهر الأخيرة.

إن العجز الفعلي في ميزانية العام المالي 2014/2015 يتجاوز العجز الذي كان متوقعا في مشروع الميزانية (279.4 مليار جنيه مقابل 255.4 مليار عام 13/2014)

ثالثا- أسعار الفائدة السلبية

يعتقد واضعو السياسة النقدية في مصر بشكل عام بسهولة الإحلال بين الاقتراض المحلي والاقتراض من الخارجي. وهم في ذلك يقيسون الأمور في العادة بتكلفة الاقتراض، مفترضين أن القدرة على السداد لا تختلف في الحالتين. وهذا يمثل اعتقادا خاطئا يمكن أن يتسبب في كارثة نقدية يصعب تفاديها. ولقد لاحظنا أن السلطات النقدية استسهلت لفترة طويلة الاقتراض من السوق المحلي، وفضلت ذلك على الاقتراض من الخارج. وكان هذا الاستسهال نابعا من أن الحكومة تجد من الأسهل بالنسبة لها تحميل المستهلكين بشكل عام تكلفة اقتراض أجهزتها من المصارف، عن طريق تمويل تكاليف السداد بوسائل مختلفة تتضمن فرض "سعر فائدة سلبي" على مدخرات المصريين في البنوك. وتتمثل قيمة سعر الفائدة السلبي في الفرق بين سعر الفائدة على الودائع وبين معدل التضخم السنوي. وتوسعت المصارف في الوقت نفسه في إصدار أوعية ادخارية تقدم فوائد شهرية أو ربع سنوية تمنح دخلا إضافيا للمودعين يعينهم على مواجهة ارتفاع الأسعار بدون الأخذ في الاعتبار تآكل قيمة الأصل الرأسمالي المولد للدخل.

وعلى الرغم من أن لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري في اجتماعها بتاريخ 24 ديسمبر 2015 قررت زيادة أسعار الفائدة بنسبة نصف من واحد في المائة فإن أسعار الفائدة على الإيداعات لا تزال أقل من معدل التضخم السنوي.

وطبقا للزيادة الأخيرة فإن سعر الفائدة على الإيداع زاد إلى 9.25% في حين أن معدل التضخم السنوي في نهاية شهر نوفمبر بلغ 11.08% أي بفارق (- 1.83%) سنويا. ويعيش أصحاب الودائع المصريون تاريخيا على سعر فائدة سلبي يبلغ في المتوسط نحو 2% وهم يتعايشون معه نظرا لضآلة فرص الاستثمار في الاقتصاد وبسبب الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية الذي يحول بين أصحاب المدخرات وبين اسثمار أموالهم مباشرة في مشاريع جديدة أو في مشروعات قائمة.

ويبين الجدول التالي متوسط العائد على أذون الخزانة التي يصدرها البنك المركزي لصالح وزارة المالية وتستخدم إيراداتها لتمويل العجز الحكومي.

 

جدول (3) العائد على أذون الخزانة

تاريخ العطاء

الأجل

متوسط العائد %

20/12/2015

91 يوما

11.176

24/12/2015

364 يوما

11.628

21/12/2015

10/11/2025

15.365

المصدر: البنك المركزي المصري

ويوضح الجدول تباين العوائد على أذون الخزانة مع سعر الخصم الرئيسي للبنك المركزي المعلن بعد الزيادة في 24 ديسمبر 2015 والذي يبلغ 9.75%. وبينما يقترب متوسط معدل العائد على أذون الخزانة في الأجل القصير (91 يوما) من معدل التضخم السنوي، فإنه  يزيد على سعر الخصم بقيمة 1.426% تاركا للمصارف هامشا كبيرا للربح في عمليات إقراض القطاع الخاص مع ضمان تحقيق  أرباح أيضا من استخدام السيولة لإقراض الحكومة عن طريق الاكتتاب في شراء أذون الخزانة الحكومية. إن هذه المنافسة بين الحكومة وبين القطاع الخاص للحصول على السيولة من البنوك، حيث تزيد تكلفة قروض القطاع الخاص عن 14% في معظم الأحوال أدت إلى خلق سوق مصرفية غير عادلة تتميز فيها الحكومة على القطاع الخاص. وبالتالي فإن هذه السوق المصرفية غير العادلة أدت إلى عجز القطاع الخاص عن التوسع وعن تمويل استثماراته، وأصابته أحيانا بالعجز عن سداد التزاماته المستحقة عليه للمصاارف.

كما تجدر الإشارة هنا إلى أن تقديرات الميزانية العامة للدولة والتي كانت تتوقع عجزا أقل للميزانية أصابت صناع السياسة النقدية بحالة من الإحباط. إن العجز الفعلي في ميزانية العام المالي 2014/2015 يتجاوز العجز الذي كان متوقعا في مشروع الميزانية (279.4 مليار جنيه مقابل 255.4 مليار عام 13/2014) حسب تقديرات وزارة المالية (التقرير المالي الشهري- نوفمبر 2015) وذلك على الرغم من تخفيض دعم المواد البترولية والكهرباء والغاز وزيادة الضرائب على السجائر والكحوليات والوقود.

كذلك فإن التقديرات المتفائلة التي عرضتها وزارة المالية في مشروع ميزانية العام الحالي يبدو إنها بعيدة تماما عن الواقعية، وهو ما قد يعقد  الموقف بالنسبة للاحتياطي من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي المصري. ويقدر صندوق النقد الدولي (أكتوبر 2015) إجمالي قيمة العملات القابلة للتحويل لدى البنك المركزي المصري بنحو  7.3 مليار دولار فقط وهو ما لا يغطي نسبة 10%  (9.6%) من الواردات السنوية لمصر حسب إحصاءات الجمارك للسنة المالية الماضية. ومن المتوقع أن يبلغ عجز الحساب الجاري للسنة المالية 14/2015 ما يصل إلى 20 مليار دولار.

رابعًا- خسائر الجنيه

في العام 1981 كسر الدولار الأمريكي حاجز الجنيه المصري لأول مرة في التاريخ. وكانت قيمة الدولار الأمريكي مستقرة عند 20 قرشا مصريا طوال الفترة من 1885 وحتى بداية الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الدولار رحلة صعود بطيئة أمام الجنيه المصري، خصوصا مع تراجع الجنيه الإسترليني مقابل الدولار. وقفز بنسبة 25% خلال فترة الحرب العالمية الثانية حتى منتصف القرن العشرين، ثم بنسبة 44% منذ قيام ثورة 23 يوليو حتى حرب 1967. ومنذ ذلك الحين تسارعت معدلات تقدم الدولار على الجنيه المصري حتى كسر حاجز الجنيه في يوليو 1981 (كان أقل من ذلك بعدة قروش في السوق الرسمية لكنه لم يكن متاحا في المصارف).  وخلال تاريخه تعرض الجنيه المصري لصدمات شديدة مقابل الدولار، فقد خسر أكثر من نصف قيمته فيما يقل عن 12 شهرا (بين عامي 1990 و1991) ليحقق بعد ذلك قدرا من الاستقرار خلال التسعينيات، لكنه تعرض منذ ذلك الحين لخسائر شديدة منذ عام 2000 وحتى الآن. ولا يجد الجنيه المصري في الأجل المنظور ما يمكن أن يحميه من خطر التدهور المستمر. ولا تظهر السياسة النقدية أي قدر من الاستجابة الخلاقة لأزمة الجنيه المصري لوقف تآكل قيمته يوما بعد يوم. وقد سجل العام الحالي 2015 (حتى أكتوبر) تراجعا لقيمة الجنيه بنسبة 11% داخل الجهاز المصرفي وما يقرب من 16% في السوق السوداء (الإيكونوميست في 24 أكتوبر 2015). وقد عمد محافظ البنك المركزي السابق هشام رامز (2013- 2015) إلى تخفيض قيمة الجنيه 3 مرات في محاولة لتقريب الفارق بين السوقين المصرفية والصيرفية للعملة، كما قام بتوسيع الهامش بين سعري البيع والشراء إلى 10 قروش، وفرض قيودا على الإيداع النقدي بالدولار (10 آلاف دولار في اليوم بحد أقصى 50 ألف دولار في الشهر)، وقيد التحويلات للخارج بحد أقصى 100 ألف دولار في السنة.

وبشر السيد هشام رامز الجمهور بأن هذه الإجراءات ستقضي على السوق السوداء، لكن هذه الإجراءات فشلت في تحقيق الأهداف التي سعى إليها المحافط. ومع تدهور الأوضاع النقدية في آخر شهرين من العام زادت الخسائر في قيمة الدولار داخل الجهاز المصرفي إلى نحو 13.7% وأكثر من 20% في السوق السوداء للدولار، واتسعت الفجوة بين سعر المصارف وسعر السوق السوداء إلى نحو 9.6% وهو ما ينذر بانهيارات متتالية في سعر الدولار في السوق خلال عام 2016 إذا بقيت الأوضاع على حالها.

وأعتقد أن البنك المركزي المصري لن يجد بديلا عن رفع أسعار الفائدة عدة مرات في العام 2016 بغرض حماية قيمة الجنيه المصري من التآكل. وتظهر المتابعة التاريخية لأسعار الفائدة على الجنيه متوسطا يبلغ 11.4% سنويا خلال الفترة من 1991 وحتى عام 2015. ولذلك فإن سعر الحصم الحالي على الجنيه والبالغ 9.75% يعتبر منخفضا عن المتوسط التاريخي لأسعار الفائدة على الجنيه خلال الربع قرن الأخير.  

إن تحقيق أكبر قدر ممكن من المنافسة لن يتحقق بدون كسر احتكارات التجارة والقضاء على فساد الأجهزة الإدارية المشرفة على التجارة الداخلية والخارجية

خامساً- عناصر السياسة النقدية

يكشف البيان الصادر عن اجتماع لجنة السياسة النقدية برئاسة السيد طارق عامر المحافظ الجديد للبنك المركزي المصري مساء يوم الخميس 24 ديسمبر، والذي كان قد تأجل أسبوعا عن موعده الدوري، الملامح التالية لأهداف السياسة النقدية:

1-    مواجهة الضغوط التضخمية

2-    تحقيق استقرار في الأسعار وتجنب تفاقم التضخم

3-    تخفيض العجز التجاري

4-    تسريع وتيرة الإصلاحات الاقتصادية

هذه تقريبا أهم أهداف السياسة النقدية التي تم الإعلان عنها، وهي إجمالا أهداف شديدة العمومية، ولا يمكن الحكم على مدى فاعليتها إلا بفحص الإجراءات التي يتم وضعها كإطار تنفيذي للسياسة النقدية.

وقد أطلق عدد من المسئولين عن السياسة النقدية بمن فيهم محافظ البنك المركزي ونائبه عددا من التصريحات التي ترافقت مع الاجتماع. وقد حملت هذه التصريحات معلومات غير جديدة كان قد أعلنها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء من قبل (خصوصا المعلومات المتعلقة بالتجارة الخارجية)، لكنها حملت أيضا عددا من الإشارات شديدة الخطورة التي تترك علامات استفهام ضخمة حول مقدار الرشادة والشفافية في إدارة الاقتصاد.

ومن المعلومات التي تم التركيز عليها وتدويرها بقوة ما يلي:

-         أن العجز في الميزان التجاري بلغ في السنة المالية المنتهية في يونيو 2015 بلغ 38.8 مليار دولار. وهذا الرقم يختلف عن الرقم المعلن من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الذي يبلغ 46.27 مليار دولار. ولم يقدم المسئولون تفسيرا لهذا التباين بين الرقمين.

-         بلغت تحويلات العاملين المصريين في الخارج 19 مليار دولار في السنة المالية 14/2015. وهذه حقيقة لكن المسئولين عن السياسة النقدية في البنك المركزي تجاهلوا حقيقة أن ما يتراوح بين 10% إلى 15% فقط من هذه التحويلات يتم تداولها عبر الجهاز المصرفي، وأن الوسطاء وشركات الصرافة تستحوذ على ما يقرب من 90% من هذه التحويلات لأنها تبيع وتشتري بسعر السوق الذي يزيد كثيرا على السعر الرسمي للدولار.

-         ذكر محافظ البنك المركزي أن الجهاز المصرفي تولى توفير نحو 8.3 مليار دولار لتمويل احتياجات التجارة ورجال الأعمال خلال الشهرين الأخيرين، لكن السيد المحافظ لم يعلن المصادر التي حصل منها على هذه الأموال وهو ما يمثل نقطة سوداء في إجراءات السياسة النقدية، فلا بد من الكشف عن مصادر التمويل المستديمة والطارئة التي تسهم في تدوير الاقتصاد.

-         كشفت أرقام التجارة التي أعلنها المسئولون عن تباين هائل في قيمة الواردات تبلغ نسبته 26.6% (16 مليار دولار) من قيمة الواردات بين إحصاءات البنك المركزي وبين إحصاءات الجمارك. وليس من المعلوم بدقة حتى الآن كيف حدث هذا التباين في حسابات التجارة الخارجية، الأمر الذي يمكن أن يخلف شكوكا في إحصاءات التجارة الخارجية المصرية في جملتها، وليس الرقم الخاص بالواردات فقط.

-         كشف محافظ البنك المركزي عن حزمة من الإجراءات المرتقبة لتحفيز المصانع الصغيرة على الاقتراض بقيمة 100 مليار جنيه مصري، لكنه لم يوضح كيف سيتم تدبير هذا المبلغ وما إذا كان الإقراض لقطاع الأعمال الصغير سيتم من خلال صندوق خاص ضمن هذه الإجراءات، أو سيتم من خلال البنوك بشكل عام أو من خلال الحكومة.

إن ما كشفت عنه لجنة السياسة النقدية وما أعلنت عنه من إجراءات أهمها رفع سعر الفائدة على الجنيه بمقدار نصف نقطة مئوية لا يقترب كثيرا من قلب المشكلة الحالية التي يعاني منها الاقتصاد ككل، والتي تظهر أعراضها على قيمة الجنيه المصري. وفي اعتقادي أن قصور الحلول الاقتصادية أو فشلها ربما يفتح الباب أكثر فأكثر إلى تبني "الحلول الأمنية" للمشاكل الاقتصادية، وهو ما سيؤدي إلى المزيد من تعقيد الأمور.

ويبقى أن نقول إن تحقيق أكبر قدر ممكن من المنافسة في أسواق التصدير والاستيراد لن يتحقق بدون كسر احتكارات التجارة والقضاء على فساد الأجهزة الإدارية المشرفة على التجارة  الداخلية والخارجية. وسوف تحقق المنافسة الحقيقة تخفيضا في الأسعار لصالح المستهلكين. كما أن تصحيح الخلل في الأسواق يتطلب أيضا قدرا أكبر من الفاعلية في تدخل الدولة بشرط أن يبعد ذلك عن إجراءات يمكن وصفها بأنها "برنامج لعسكرة الاقتصاد" تقوم فيها أجهزة وزارتي الدفاع والداخلية بالسيطرة أسواق الزيت والسكر واللحوم والدواجن والأسماك. وجود منافذ السلع التموينية التابعة للجيش والداخلية مطلوب، لكن في إطار إستراتيجية واضحة لتصحيح الخلل في العرض والطلب هيكليا بأدوات اقتصادية طويلة الأجل وليس من خلال إجراءات نعرف يقينا أنها طارئة ولن تستمر. فالجيش ليست مهمته توزيع اللحوم والمواد التموينية والشرطة ليست مهمتها منافسته أو معاونته في ذلك.

إن اقتصادا يقوده الاستهلاك العام والخاص لن يستطيع أن ينافس لا في الداخل ولا في الخارج. ومن هنا فمصر في حاجة إلى اقتصاد يقوده الادخار والاستثمار. وإذا كانت السياسة الاقتصادية قد فشلت حتى الآن في وضع آليات لزيادة الميل الطوعي للادخار والاستثمار لدى الأفراد والمؤسسات، فعلينا أن نبحث عن الآليات المؤسسية وغير الطوعية لرفع معدل الإدخار والإستثمار على المستوى الوطني من خلال وضع نظام شامل للتأمينات والمعاشات يتجاوز حالة "الهلهلة" التي تعاني منها أنظمة التأمينات والمعاشات القائمة حاليا والتي لا تقوم على أساس اجتماعي أو اقتصادي أو مالي سليم. ومن ثم فيجب وضع نظام موحد للتأمينات والمعاشات يسهم في بنائه ظل من الأفراد والمؤسسات العامة والخاصة، يحقق قدرا أكبر من الرفاهية للأفراد ومن الاستقرار للاقتصاد.

إن مصر تحتاج إلى برنامج ضخم لإعادة بناء الصناعة وإقامة الصناعات المتقدمة. وفي تقديري أن بعض المسئولين يستسهلون اللجوء إلى شعارات غبية ومضللة ومستهلكة مثل الحد من الواردات الاستهلاكية أو الحد من استيراد سلع توصف بأنها كمالية. ومن يعود إلى أرقام الصادرات والواردات سيجد أن بعض تلك السلع مثل العطور أو الكافيار أو المكسرات لا تمثل في حقيقة الأمر رقما كبيرا مسئولا عن العجز التجاري. وفي حقيقة الأمر فإنني أثبتت في دراسة سابقة أن واردات السلع الهندسية وحدها مسئولة عن 40% تقريبا من العجز في ميزان التجارة السلعية غير البترولية. ومن هنا فإن الميل للاستيراد سيستمر في الزيادة بمعدلات مقلقة طالما بقيت المصانع مغلقة أو معطلة جزئيا أو متعثرة.

وفي الختام أقول إن السياسة النقدية الرشيدة يجب أن تنبع من رؤية اقتصادية للمستقبل، وهذا ما يفتقده الموظفون الحكوميون الذين يعتقدون أنهم يعرفون عن السياسة! وأخشى ما أخشاه أن تندفع الحكومة إلى الاقتراض من الخارج فتكون مثل صبي لا يعرف شيئا عن السباحة ويغامر بالقفز في مياه عميقة...إنه سيتعرض للغرق..أو سيغرق لا محاله ما لم ينقذه منقذ....يا منقذ يارب.

*رئيس الوحدة الاقتصادية المركز العربي للبحوث والدراسات

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟