المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
أ.د. وانغ قوانغدا - لُجين سليمان
أ.د. وانغ قوانغدا - لُجين سليمان

"مبادرة الحضارة العالمية": حصيلة لتجارب الأمة الصينية

الأربعاء 07/يونيو/2023 - 05:51 م
المركز العربي للبحوث والدراسات

مقدمة

أصبح التقدم التقني والتكنولوجي الحاصل في عالم اليوم، وما يرافقه من تأخر في التبادل الثقافي والمعرفي والحضاري مثار جدل، إذ كيف يصل العالم إلى ما هو عليه من تقدّم في العلم في الوقت الذي يتراجع فيه التواصل بين الأمم والشعوب، وهو ما أطلق عليه البعض مفردة "الفراغ الحضاري".حول هذا الأمر كتب الكاتب اللبناني "أمين معلوف" في كتابه "غرق الحضارات" مايلي: "للمرة الأولى في التاريخ، لدينا الوسائل الكفيلة بإنقاذ الجنس البشري من جميع الويلات التي تجتاحه، للانتقال به بهدوء إلى عصر من الحرية والتقدم الذي لا تشوبه شائبة، والتضامن الكوكبي والرخاء المشترك، ومع ذلك هانحن ننطلق بسرعة فائقة في الاتجاه المعاكس" ]1[، فما هي العوائق التي تمنع الدول  من كسر الحواجز وتحطيم القيود، والتواصل على مبدأ البناء المشترك لتقديم الأفضل للعالم أجمع، ألا يحتاج العالم اليوم إلى صيغ جديدة من التعاون في مجال التواصل الحضاري؟

الحاجة إلى مبادرة الحضارة العالمية

من المعروف أنّ العالم مترابط ومتواصل، وعلى الرغم من أنّ لكل دولة مشاكلها الخاصة النابعة من خصوصيتها، إلا انّ تلك الدول التي تتشارك العيش معا على هذه الأرض تواجه مشاكل جديدة لم تكن موجودة في السابق، من بين هذه المشاكل والتحديات العالمية التي لا نهاية لها، ليس هناك فقط مشاكل الأمن الغذائي والتعليم والعمالة والعوائق الطبية والصحية التي يمكن أن يتصورها الناس حقًا، ولكن أيضًا المشاكل التي تثيرها شعارات "القيم" و "الحضارة" و "الإيديولوجيا" [2]، وعلى الرغم من التقدم في العديد من الحقول المعرفية والثقافية إلا أن تلك المشكلات لم تزل مستعصية على الحل، وهو ما يُفضي بطريقة أو بأخرى إلى حاجة للتواصل بين الأمم لإيجاد حلول مبتكرة وجديدة، وهو ما قد يحتاج إلى نوع جديد من التواصل، قد يكون تواصلا حضاريا لم تشهده الأمم في السابق، فحاجة الحضارات إلى أن تتواصل  على مبدأ المنفعة المشتركة كي تستفيد الأمم من تجارب بعضها البعض دفع إلى إنشاء مبادرة الحضارة العالمية، وهو ما يكرّس مبدأ  أن التواصل بين الأمم هو حاجة وليس رفاهية.

لحل المشاكل في العالم، يجب أن نبدأ من فهم حقيقة هذا العالم، فالحقيقة الأساسية هي وجود أنظمة متنوعة، وكذلك ديانات متعددة، وعادات مختلفة، بما في ذلك الحضارات المتنوعة، وغالبا ما تُبنى الحضارات المختلفة من خلال التبادلات والتفاعلات، ولكل حضارة جانبها الجميل الذي من الممكن مشاركته مع حضارات أخرى، مشاركة تقوم على التفاهم بعيدا عن الفرض أو إثارة نزعات التفوق القائم على العرق والانتماء، فالاختلافات بين الحضارات لا تعني وجود خلاف، والاختلافات هي من الأمور الطبيعية، فلا حياة حقيقية عندما تذوب الفروقات بين الأمم . وهو ما لفت إليه الرئيس الصيني "شي جينغ بينغ" في خطابه في مقر الأمم المتحدة في جنيف، إذ قال إنه "لا يوجد تمييز بين الحضارات بحيث تكون واحدة متفوقة وأخرى متأخرة، فقط الاختلافات في الخصائص والمناطق. لا ينبغي أن تكون الاختلافات في الحضارات هي مصدر الصراعات العالمية، بل يجب أن تكون القوة الدافعة وراء تقدم الحضارة الإنسانية".  وقد أظهر تاريخ تطور الحضارة الإنسانية أنه من الحماقة الاعتقاد بأن عرق المرء وحضارته متفوقة على حضارة أو عرق الآخرين، فالإصرار على تحويل أو حتى استبدال الحضارات الأخرى، سوف يؤدي ذلك إلى طريق مسدود وهو ما وصلت إليه البشرية اليوم من خلال المعاناة من عدد من المشاكل. وهو ما قد يجعلنا نتجه إلى احترام حقيقة تنوع الحضارات العالمية وقانون تطور تنوع الحضارات البشرية، فهو ما سيمكننا من توليد شعور بالمساواة بين الحضارات، وبالتالي تساوي في حقوق الإنسان مهما كان عرقه أو دينه أو لغته أو جنسه.

العلاقة بين الحضارات

أثارت نظرية "صراع الحضارات" لـ "صامويل هانتينغتون"]3[ جدلا كبيرا عند صدورها عام 1993، والتي تجادل بأنّ الصراعات بين النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي المهيمن والدول الإسلامية والصين، التي تتأثر بعمق بالثقافة الكونفوشيوسية، أمر لا مفرّ منه. وهو ما دفع كثير من العلماء إلى الحكم على هذه النظرية أنها بمثابة رؤية عنصرية للحضارات، في الوقت الذي يجب فيه النظر من زاوية أخرى أكثر سلاما، فالحضارات تتكامل وتتواصل، وعندما ترتقي حضارة فهذا لا يعني سقوط للأخرى، إنما للأمر زاوية أكثر اتساعا تقوم على مبدأ أن التواصل والحوار بين الحضارات، من شأنه أن يفضي بطريقة أو بأخرى إلى منع سقوط إحداها، وهو ما يعبّر عن وجهة النظر الصينية التي عبرّ عنها الرئيس الصيني "شي جينغ بينغ" بقوله: "أفضل سبيل لتحفيز الابتكار والإبداع لدى الناس، يتمثّل في التواصل مع مختلف الحضارات، ورؤية نقاط القوة لدى الآخرين والاستفادة منها".

أما اليوم فقد انطلقت مبادرة عالمية للحضارة من أقصى الشرق من الصين،  ولهذه المبادرة أهمية كبيرة جدا، فالصين دولة لم تستورد حضارتها من أحد، بل صنعت نموذجا صينيا خاصا، ولم تعمم هذا النموذج على الدول الأخرى، بل دعت كل دولة إلى خلق نماذج تنموية تناسبها وتناسب ظروفها. فما هي مبادرة الحضارة العالمية؟

أطلقت الصين مؤخرا عددا من المبادرات منها: مبادرة التنمية العالمية، مبادرة الأمن العالمي وكذلك مبادرة الحضارة العالمية، تُعدّ المفاهيم النظرية لتلك المبادرات سابقة الذكر بمثابة حزام وطريق لعالم أكثر تنمية وأمنا وحضارة.

في 15 مارس من العام الحالي2023، حضر الرئيس الصيني "شي جين بينغ" حوارا بين الحزب الشيوعي الصيني والأحزاب السياسية العالمية في بكين،  وألقى كلمة رئيسية بعنوان "السير معا على طريق التحديث"، واضعا الأسس النظرية لمبادرة الحضارة العالمية. وقد وصف الرئيس الصيني عملية التنمية بأنها: "عملية مليئة بالصعود والهبوط، فرحلة البلدان التي تستكشف طريق التحديث مليئة بالمصاعب، خاصة أنه في عالم اليوم تتشابك التحديات والأزمات" وأضاف: " إنّ تعافي الاقتصاد العالمي أمر صعب، وها هي فجوة التنمية تستمر في الاتساع، وكذلك فإنّ البيئة تستمرّ في التدهور، فعملية تحديث المجتمع البشري قد وصلت مرة أخرى إلى مفترق طرق تاريخي ."وهو ما يعني أنّنا اليوم نحتاج إلى مفاهيم جديدة قادرة على معالجة المشاكل الجديدة التي تتعرّض لها البشرية.

تدعو مبادرة الحضارة العالمية إلى عدّة نقاط رئيسية منها:

احترام تنوع الحضارات في العالم، الالتزام بالمساواة والتعلم المتبادل والحوار والتسامح بين الحضارات، استخدام التبادل بين الحضارات للتغلب على الحواجز بين مختلف الدول، الدفاع بشكل مشترك عن القيم المشتركة للبشرية. إقامة السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية، الدفاع بشكل مشترك عن أهمية التراث الحضاري والابتكار مع الاستفادة من القيم التاريخية للدول، والدعوة بشكل مشترك إلى تعزيز التبادلات والتعاون بين الشعوب والثقافات الدولية.

كما تسعى إلى تقديم حلول للحوكمة العالمية والعلاقة بين الدول والثقافات، يأخذ الحوار السياسي إلى مستوى جديد بما يؤدي إلى استكشاف القضايا الفلسفية العميقة الجذور، مثل هدف الأمم والحضارات، وطرق التعايش السلمي للبلدان ذات الثقافات المختلفة، والتاريخ، والأديان، وأساليب الحياة، والنظم السياسية والاجتماعية، ففي الوقت الذي ينقسم فيه العالم بشكل خطير، أعادت مبادرة الحضارة العالمية إحياء التفاؤل الذي يعد بوضع حد لأوهام "صراع الحضارات" و "نهاية التاريخ"]4[.

الأسس النظرية للمبادرة

تقوم الأسس النظرية لمبادرة الحضارة العالمية على فكرة مفادها أنّ مستقبل الدول يرتبط ارتباطا وثيقا ببعضها البعض، وهو ما تمّ تشبيهه بالجلوس في القارب نفسه، ولذلك يجب على البشرية كلها الركوب عبر العواصف، والتشارك معا في السراء والضرّاء، وبذل الجهود لبناء الكوكب الذي ولدنا وترعرعنا فيه لتحويله إلى عالم متناغم.

كما تدعو المبادئ النظرية إلى استكشاف مسار التحديث لكل بلد، فلكل دولة جذورها الحضارية الخاصة، وكذلك فإنه للدول النامية الحق باللحاق بالدول المتقدمة،  ولذلك يجب أن يضمّ محتوى التحديث بشكل أساسي عملية التصنيع، لأنها خطوة الانتقال الأولى نحو عالم أكثر تطورا، ولكن بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التحديث يجب أن يشتمل أيضًا على العديد من المحتويات الجديدة في جوانب أخرى مثل: الفكر السياسي، ومفهوم الحياة، والإنجاز الثقافي، وهو ما سينتج مفاهيما جديدة  ستكون بجزء كبير منها ناتجة عن التغيير الكبير في مفهوم التصنيع. وهو ما يعني أنه بمجرد أن تبدأ عملية التحديث، فإنها ستغير حتماً اتجاه الحضارة القائمة في البلاد.

أما عن تقليد النماذج الموجودة وعدم وضع نموذج خاص لكل بلد فقد نصّت المبادئ النظرية لتلك المبادرة على أنه:  إذا تم تقليد النموذج الغربي على نحو أعمى، والاستغناء عن ارتكاز اتجاه التحديث على الظروف والخصائص والحقائق الوطنية للبلد، فإنها ستؤدي بلا شك إلى كارثة حضارية. فالبلدان النامية تتمتع بالحق على استكشاف مساراتها الفريدة الخاصة بها لتبني عملية التحديث بشكل مستقل بناءً على ظروفها الوطنية.  وما فعلته الصين في هذا الإطار  يمثّل نموذجا لباقي الدول النامية، فالصين عملت على استكشاف التحديث على الطراز الصيني المتجذّر بعمق في التربة الخصبة للحضارة الصينية التي استمرت لأكثر من 5000 عام، مصرّة على اعتبار أنّ التنمية هي أساس القوة، بالإضافة إلى تفعيل القوة الذاتية لكل بلد، والتي تبرز من خلال اعتماده على ذاته. وانطلاقا من هنا فإن الصين تدعو من خلال هذه المبادرة إلى  المساواة والتعلم المتبادل والحوار والتسامح بين الحضارات، واستكشاف تاريخ وثقافة مختلف البلدان بشكل كامل.

وفي طريق السعي إلى مجتمع الرفاه المشترك، والذي هو أيضا مصطلح صيني فيجب على أي دولة أن تتمسك بمفهوم الوحدة والتعاون والتنمية المشتركة، وأن تسلك طريق البناء المشترك، ومع هذا فإنّ المساعدة الخارجية من قبل الدول الأخرى ضرورية ولا غنى عنها. وقد أشار الرئيس "شي" إلى أن "إطفاء مصابيح الآخرين لن يجعلك أكثر إشراقًا ؛ إن سد طريق الآخرين لن يجعلك تذهب إلى أبعد من ذلك."  وبذلك فإن تنمية الدول وتطورها عبارة عن مزيج من الاعتماد على الذات وتشارك الخبرات مع الدول الأخرى، لا سيما الدول التي تملك تجارب غنية في المجالات التنموية.

ولعلّ أهم ما تنص عليه مبادرة الحضارة العالمية هو  اعتبار أن المساواة والإنصاف والعدالة، هي قيم مشترك سعت إليها الأمم عبر تاريخها الطويل، وبالتالي فهي قيم مطلوبة، ولكنها لا تحتاج إلى براءة اختراع من أحد الدول، لتقول أنها متفوّقة بذلك على دولة أخرى]5[.

المبادرات حصيلة لتجارب الصين

قبل أن تقوم الصين بإطلاق هذا النوع من المبادرات اعتمدت على ذاتها، مستفيدة من تجاربها وأخطائها وعثراتها، ومرّت بصعوبات كثيرة ولم تزل، وعلى الرغم من أن التحديات كبيرة إلا أن الفرص أيضا كثيرة، فكل تحدّ هو فرصة إن أُحسن استخدامه، وتحديات عالم اليوم هي أيضا بمثابة فرصة بالنسبة للصين، ولذلك فإنّ هذه المبادرات التي تطلقها الصين إلى العالم هي بمثابة خلاصة للتجربة الصينية، يجب الاستفادة منها من قبل الدول النامية، وفقا لخصائص كل دولة ومتطلباتها.

وقد قدّمت الصين حصيلة ما مرّت به من تجارب إلى العالم أجمع على هيئة مبادرات، فقد أدركت الصين أهمية الأمن لتحقيق التنمية، وضرورة وجود تنمية لتحقيق أمن اقتصادي وآخر اجتماعي، فأطلقت مبادرة التنمية العالمية وكذلك مبادرة الأمن العالمي، وبعد أن توطدت أركان الداخل، عملت على إقامة تواصل حضاري مع الأمم الأخرى للاستفادة المشتركة، فكانت مبادرة الحضارة العالمية.

فيمكن اختصار ما قدمته الصين للعالم كدولة نموذجية بالمقال الذي نشره "توماس إل فريدمان" في صحيفة "نيويورك تايمز" بعد عودته من الصين عام 2008، إذ كتب: "وأنا جالس على مقعدي في ملعب بكين الوطني أشاهد آلاف الراقصين الصينيين وقارعي الطبول والمغنين والعارضين، يقفون على ركائز يؤدون ألعابهم السحرية في حفل الختام، لم يسعني سوى التفكير في كيف قضت كل من الصين وأمريكا السنوات السبع الأخيرة، فكانت الصين تجهز للأولمبياد، بينما كنا نجهّز لتنظييم القاعدة، كان الصينييون يشيدون ملاعب ومترو الأنفاق، ومطارات وطرق وحدائق، وكنا نبني نحن أجهزة كشف معادن وعربات "الهامر المدرعة" وطائرات دون طيار ]6[.

"الأفعال أقوى صوتا من الأقوال" هي حكمة صينية قديمة، وهي في الوقت ذاته بمثابة شعار يتمّ تطبيقه في الصين خلال الحياة اليومية، فمن ينظر إلى المبادرات التي أطلقتها الصين على مدار السنوات الماضية قد يعتقد أنها مبادئ نظرية غير قابلة للتطبيق، إلا أنّ من يحيا في الصين مدة، يدرك تماما أنّ تحقيق الأهداف على الطريقة الصينية لا يتطلب سوى العمل والمثابرة.

هذا العمل وتلك المثابرة التي عملت خلالهما الصين على تخليص شعبها من الفقر المدقع، لتنطلق بعدها إلى العمل على تحقيق الرفاه المشترك للبشرية كلها من خلال خلق نماذج تنموية تلبي تطلعات الشعوب أولا، وتنهض بها وبأمنها، ليس أمنها العسكري فقط بقدر ما هو أمن غذائي واجتماعي وثقافي.

خاتمة

الأمة التي خرجت من الألم والمعاناة تعرف جيدا أهمية السلام لتحقيق بيئة تنموية، فالصين حققت نهضتها بعد معارك دامية دامت لسنوات، بالاعتماد على ذاتها، وها هي اليوم تبادر تجاه الدول الأخرى لإقامة تعاون مشترك، مطبّقة المثل الصيني القائل: "لا تفعل للآخرين ما لا تريد أن يفعلوه بك".

المراجع

]1[  أمين معلوف-غرق الحضارات

]2 [   الجورنال الصيني للعلوم الاجتماعية 全球文明倡重大 (baidu.com)

]3[ صامويل هنغتون صراع الحضارات

]4[ china daily      全球文明倡文明的对话” (baidu.com)

]5 [ china opinion   全球文明倡文明的对话” (baidu.com)

]6[ النهوض الصيني، البروفسور تشانغ وي وي


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟