المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
دنيا عبد القادر
دنيا عبد القادر

صفقة الرهائن بين الولايات المتحدة وإيران... قراءة تحليلية

الأربعاء 27/سبتمبر/2023 - 12:03 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات

بعد مباحثات ومناقشات استمرت لأكثر من عامين بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية إيران الإسلامية برعاية قطرية، تم التوصل إلى اتفاق مفاداه إفراج إيران عن خمسة سجناء أمريكيين قابعين في سجن «إيفن» سيء السمعة، مقابل إفراج الولايات المتحدة عن عدة مليارات الدولارات من أموال إيران المجمدة، بالإضافة إلى الإفراج عن سجناء إيرانيين. اعتبر البعض أن هذا الاتفاق بمثابة خطوة إيجابية قد تساعد في الملف النووي الإيراني، بينما استبعد آخرون أن يكون لهذا الاتفاق أي تأثير يُذكر فيما يتعلق بهذا الملف، كما أن البعض رأى في هذا الاتفاق تشجيعًا لاحتجاز إيران المزيد والمزيد من الأمريكيين.

تفاصيل الصفقة (1)

لم يكن جلوس الولايات المتحدة وإيران على طاولة المفاوضات بشأن ملف الرهائن، بالأمر السهل؛ فقد استلزم التوصل إلى مثل هذا الاتفاق وجود وسيط، وبالفعل توسطت قطر وسلطنة عُمان وسويسرا في تلك المفاوضات، ولعل الدور القطري كان هو الأبرز، فهي كثير ما استقبلت المحادثات بين الطرفين على أرضها. والأمر الذي يبرهن على صعوبة تلك المفاوضات هو أن الطرفين لم يستطيعا الوصول إلى اتفاق نهائي إلا بعد مرور أكثر من عامين.

في 10 أغسطس 2023، تم الإعلان عن الاتفاق، بالطبع لم يتم الكشف عن كافة تفاصيله، لكن تعتبر أبرز عناصره هو موافقة إيران على الإفراج عن 5 محتجزين أمريكيين إيرانيين في سجن «إيفن» بتهمة التجسس، مقابل إفراج الولايات المتحدة عن سجناء إيرانيين مُعتقلين لديها بتهمة الالتفاف حول العقوبات المفروضة على إيران، فضلًا عن إفراجها عن حوالي 10 مليارات دولار موجودة محتجزين في كوريا الجنوبية والعراق -بنك التجارة العراقي.

لقد كان من المفترض التوصل لمثل هذا الاتفاق منذ شهر مارس من العام الجاري، لكن هذا لم يحدث بسبب احتجاز إيران حينها لأحد المواطنين الأمريكيين مزدوجي الجنسية لم يُذكر اسمه.

أما فيما يتعلق بالخطوات اللازمة لإتمام الصفقة فهي تتمثل في قيام الولايات المتحدة بتحويل حوالي 6 أو 7 مليار دولار -بناءً على سعر الصرف- من أصول عائدات النفط الإيراني المجمدة في كوريا الجنوبية، وإيداع تلك الأموال في حساب في البنك المركزي القطري، ومن المفترض أن الحكومة القطرية ستنظم بينها وبين إيران لتحديد الطريقة التي تمكن طهران من الوصول إلى الأموال لاستخدامها لأغراض إنسانية مثل توفير الأدوية والطعام. وقد صرحت فيه مصادر أمريكية من أن إيران لن يكون لها حق التصرف المباشر في هذه الأموال، وأكد البيت الأبيض أنه سيراقب الجهات التي ستُصرف فيها تلك الأموال. فضلًا عن تأكيد مدير إيران في مجموعة الأزمات الدولية -وهي منظمة لمنع النزاعات- «علي فايز»(2) أن كل ما تفعله إيران بموجب هذه الصفقة هو تقديم أوامر إلى أحد البنوك في الدوحة للأغذية والأدوية وعدد محدود من المعدات الطبية التي ليس لها استخدام عسكري، وسيدفع البنك في الدوحة ثمن تلك السلع وستسلمها الشركات القطرية إلى إيران، أي أن إيران لن يكن لديها وصول مباشر إلى الأموال أبدًا.

في المقابل، وردًا على ما ذُكر آنفًا، أكد مستشار الفريق النووي الإيراني المفاوض «محمد مَرَندي» أن بلاده سيكون لها الحق في الوصول مباشرة وبشكل كامل إلى هذه الأموال ولن تشاركها قطر في هذا الحق، بل وسيمكن لطهران شراء الخدمات والسلع دون أي قيود. لكن قطر لم تصرح علنًا بشأن الكيفية التي ستراقب بها صرف الأموال.

من المفترض أن يتم تحويل الأموال المحجوبة في كوريا إلى اليورو في أحد البنوك السويسرية، وأنه بالفعل قد تمت الموافقة على إيداع الأموال في البنك السويسري وهذه الأرقام جاهزة للتحويل إلى قطر، وفقًا لمصدر مطلع على الأموال الإيرانية المجمدة.

أما فيما يتعلق بوضع الرهائن المحتجزين لدى إيران، فقد قامت إيران بالإفراج عن 4 من السجناء الإيرانيين ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، أما الخامس فقد وُضعت تحت الإقامة الجبرية في وقت سابق. وتعني الإقامة الجبرية أنهم غير مسموح لهم بمغادرة البلاد حتى إشعار آخر. أما عن موعد مغادرتهم الأراضي الإيرانية، فقد صرح مكتب الرئيس الإيراني أن السجناء في إيران سيظلون على أرضها حتى إتمام عملية تحويل الأموال والإفراج عن السجناء الإيرانيين. يعني ما سبق أن طهران قد رمت الكرة في ملعب واشنطن، وأنها لن تقم بأي خطوة أخرى في الاتفاق، ما لم تفِ واشنطن بالتزاماتها أولًا وعلى رأسها الانتهاء من عملية تحويل الأموال.

فيما يتعلق بكيفية نقل المحتجزين، أوضح «علي فايز» أنه من المتوقع أن يتم نقل المحتجزين إلى قطر على متن طائرة حكومية بسبب الدور المحوري لقطر في إنجاح الاتفاق، أما المحتجزين الإيرانيين في الولايات المتحدة فمن غير الواضح إذا كانوا يرغبون في المغادرة والعودة إلى إيران أم لا، باعتبار أن كثيرًا منهم يعيشون في واشنطن مع عائلاتهم.

v أهداف الصفقة

بالنسبة إلى الجانب الأمريكي

يأتي هذا الاتفاق تزامنًا مع قرب الانتخابات الأمريكية في عام 2024، فضلًا عن فشل إدارة «بايدن» حتى الآن في التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، فمنذ وصوله إلى السلطة، حاول «بايدن» العودة إلى الاتفاق النووي بعد أن خرجت منه بلاده في عام 2018 على يد الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب»، لكن طهران رفضت التحدث مباشرة مع واشنطن، وماطلت ولا تزال تماطل في الوصول إلى اتفاق بخصوص برنامجها النووي مما أحرج موقع الولايات المتحدة باعتبار أن إيران قد نجحت كسب مزيدًا من الوقت لصالح استكمال برنامجها النووي. لذلك قد يكمن الهدف من هذه الصفقة هو رغبة الإدارة الأمريكية الحالية في حفاظ ماء وجهها بما فيها الحزب الديمقراطي، من أجل الترشح في الانتخابات الأمريكية، فمنذ دخوله البيت الأبيض وضع «بايدن» ملف الرهائن أحد أولوياته.

بالإضافة إلى ذلك تسعى الإدارة الحالية للتوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن الملف النووي، فلقد بدأت الإدارة الحالية منذ وصولها إلى البيت الأبيض، الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إيران بهدف التوصل إلى اتفاق محدد مع إيران يجبرها على تخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم، لكن حتى الآن لم تنجح واشنطن في تحقيق هذا الهدف، لذا ربما حاولت واشنطن من خلال هذا الاتفاق محاولة التوصل إلى اتفاق بشأن النووي الإيراني، كي لا تفقد واشنطن ثقتها بين شركائها الدوليين من جهة، وحتى لا يخسر الحزب الديمقراطي فرص إقناعه للناخبين من أجل ترشحه في الانتخابات الرئاسية القادمة، من الجهة الأخرى.

بالنسبة إلى الجانب الإيراني

من الناحية المحلية، يصب هذا الاتفاق في مصلحة إيران أكثر بكثير من الولايات المتحدة، فلم تكتفِ واشنطن بعقد اتفاق ينص على تبادل رهائن مقابل رهائن، وفي هذه الحالة كان الاتفاق سيكون معقولًا، بل قدم الجانب الأمريكي تنازلات كبيرة بعد موافقته على الإفراج عما يُقدر بـ 6 مليارات دولارات وهو يعتبر مبلغًا ضخمًا مقابل الإفراج عن 5 رهائن فقط، لا سيما وأن جميعهم من الأشخاص الإيرانيين مزدوجي الجنسية، أي ليسوا أمريكيين من الدرجة الأولى. من المتوقع أن تكون هذه الأموال بمثابة جرعة ولو مؤقتة للاقتصاد الإيراني الذي شهد انهيارًا بسبب العقوبات الأمريكية. من الناحية الإقليمية، هدفت إيران من وراء هذا الاتفاق إلى تهدئة العلاقات وطمأنت الدول المجاورة لها -لا سيما مصر والسعودية- للتأكيد على أنها طرف يمكن التفاوض والجلوس معه، وأنها تبحث عن سياسة خارجية أقل تصادمية.

ردود الفعل بشأن الاتفاق في كلا الطرفين

أولًا- على المستوى المحلي

أ. الولايات المتحدة الأمريكية

بطبيعة الحال، لم يُرضِ هذا الاتفاق جميع الأطراف في واشنطن، فقد تراوحت ردود الفعل ما بين مؤيد ومرحب بالقرار، ومعارض له. فمن جانبه، انتقد كل من الجمهوري في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السناتور «جيم ريش»، ووزير الخارجية الأمريكي السابق «مايك بومبيو» فضلًا عن نائب الرئيس الأمريكي السابق «مايك بنس»، الذي ينوي ترشيح نفسه إلى الرئاسة، هذا الاتفاق ووصفوه بأنه أشبه بدفع فدية، ورأى «بنس» أن هذا الاتفاق سيكون في صالح الصين وروسيا، اللتين يحتجزان رهائن أمريكيين.(3)

كما أدان الجمهوريون السماح لإيران بالوصول المباشر إلى أصولها المالية المجمدة، لأن في نظرهم أن تلك الأموال ستُستخدم في أغراض عسكرية، وستقع في يد «الحرس الثوري الإسلامي»، والذي سيستخدمها في عمليات تمويل الإرهاب من خلال تسليح المسلحين في الشرق الأوسط.

من جانبه، اعتبر المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024 «رون دي سانتيس»، أن إدارة «بايدن» بهذا الاتفاق قد استسلمت بشكل مخجل لابتزاز إيران، فهذا الاتفاق سيشجع إيران على احتجاز مزيد من الرهائن، كما أن إيران ستستخدم هذه الأموال في صنع أسلحة نووية ودعم الإرهاب ومساعدة روسيا. ذكر «سانتيس» أيضًا أن سياسة «بايدن» في استرضاء طهران سيشجع الأخيرة على مهاجمة واشنطن ويسهل لها عملية استكمال برنامجها النووي اقترابها من امتلاك أسلحة نووية، لذا قد حان الوقت للوقوف أمام إيران والتصدي لها ولنفوذها.(4)

على النقيض، دافع الأشخاص المطلعون على الترتيبات المالية عن تلك الصفقة، مؤكدين أن الأموال التي ستعود إلى إيران لن يُسمح استخدامها إلا لأغراض إنسانية. لقد استند الرئيس الأمريكي «جو بايدن» إلى حجة قوية -وفقًا لـ «علي فايز»- في رده على منتقدي هذا الاتفاق، مفادها أنه «إذا كنت ضد هذا الاتفاق، فأنت ضد عودة الأمريكيين إلى الوطن، وأنت ضد حصول الإيرانيين على الغذاء والدواء».

ب. جمهورية إيران الإسلامية

اختلفت ردود فعل وسائل الإعلام المحلية بشأن الاتفاق ما بين مؤيد ومعارض، فقد رأت صحيفة «هم‌میهن» أن هذا الاتفاق مضيعة للوقت، وذكرت أن تلك المليارات لن تشفي ألم إيران، التي تحتاج إلى حوالي 240 مليار دولار من الاستثمار في صناعة النفط والغاز، وفقًا لتصريح وزير النفط. بينما وصفت صحيفة «همشهری» اعتقال مزدوجي الجنسية بمثابة سياسة تفاوض مع العدو، فهي حيلة تستخدمها إيران من أجل إجبار العدو على الإفراج عن الأموال الإيرانية المحظورة. (5)

في المقابل، اعتبرت بعض وسائل الإعلام الإيرانية الصفقة بأنها بمثابة انتصار لإدارة الرئيس الإيراني «إبراهيم رئيسي»، واصفة تلك الصفقة بـ «الدبلوماسية الشريفة». كما أن تفاءل بعض الإيرانيين بهذا الاتفاق؛ آملين بأن يكون هذا الاتفاق خطوة نحو تخفيف العقوبات المفروضة على إيران. فقد أعرب خبير النفط والطاقة الإيراني «نصر الله زارع»(6)، عن أمله في أن تكون هذه الصفقة بداية لسلسلة من المفاوضات بشأن التوصل إلى اتفاق أوسع يرفع جميع العقوبات ويخفف عن الإيرانيين.

ثانيًا- على المستوى الإقليمي

أ. الموقف الخليجي

1. قطر

لعبت قطر دورًا محوريًا في تلك المفاوضات، بل إن البعض قد أرجع أحد أبرز أسباب إتمام وإنجاح الصفقة إلى الوساطة القطرية، حتى أنها ستكون المحطة شبه الأخيرة بعد أن تصل الأموال إلى حساباتها وقبل أن تقع في أيدي إيران، لاستخدامها في الأغراض الإنسانية.

منذ أكثر من عامين استضافت الدوحة الوفد الأمريكي والإيراني، وجرت المفاوضات على أرضها، وقبيل التوصل إلى هذا الاتفاق الأخير اجتمع الوفدين الأمريكي والإيراني في فندقين منفصلين بقطر. ويبدو أن قطر تحاول التدخل كوسيط من أجل هدف أكبر وهو التوصل إلى خطوة جديدة ومجدية فيما يتعلق بالاتفاق النووي، فقد صرح وزير الدولة بوزارة الخارجية القطرية «محمد بن عبد العزيز الخليفي»، أن بلاده لعبت دور مُيسرٍ حيوي وحاسم ووسيط دولي موثوق للتوصل لهذا الاتفاق، الذي يعتبر بمثابة برهان على إمكانية تسوية خلافات المنطقة بالحوار، معربًا عن أمله أن يكون هذا الاتفاق بمثابة خطوة دافعة للأمام للوصول إلى اتفاق بشأن الملف النووي.

2. سلطنة عُمان

لعبت سلطنة عُمان -بجانب قطر- دورًا مؤثرًا في المفاوضات التي سبقت الوصول إلى اتفاق الرهائن بين الولايات المتحدة وإيران؛ ففي يونيو الماضي، أعلن وزير الخارجية العماني «بدر البوسعيدي»، أن إيران وأمريكا قريبتان من اتفاق لتبادل السجناء، مشيرًا إلى دور بلاده في هذا الاتفاق، حيث عرضت أماكنها الدبلوماسية لمساعدة الجانبين، سواء كان ذلك داخل عمان أو في أي مكان آخر.(7) فكثيرًا ما عُقدت عدة محادثات بين الولايات المتحدة وإيران على أرض عُمان، فضلًا عن إشادة طهران بوساطة عُمان وتعاونها معها، في كثير من الأحيان. وقد حاولت عُمان التوسط بين إيران وعدة دول أخرى أهمهم: الولايات المتحدة، ومصر وبلجيكا.

ب. الموقف الإسرائيلي

لم ترحب إسرائيل بالاتفاق، صرح مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي تعليقًا على اتفاق الرهائن بين واشنطن وطهران، أن موقف إسرائيل واضح بأن أي اتفاق لا يفكك البنية التحتية النووية الإيرانية لن يستطع إيقاف البرنامج النووي الإيراني، ولن يؤدي إلا إلى مزيد من تمويل الإرهاب(8). من جانبها، اعتبرت شبكة «كان» الإسرائيلية أن هذا الاتفاق سيُسبب عواقب لإسرائيل. كما رأت «القناة 14» الإسرائيلية أن هذا الاتفاق بمثابة علامة تحذير للنظام الإسرائيلي.(9)

تداعيات الصفقة على الجانبين الأمريكي-الإيراني

الجانب الأمريكي

أثار هذا الاتفاق انتباه البعض إلى أهمية حظر السفر إلى إيران؛ إذ رأى رئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب الأمريكي «مايك تيرنر» أنه ينبغي على الكونجرس مراجعة خطة حظر السفر إلى إيران -لا سيما الإيرانيين مزدوجي الجنسية- حيث يسافر عدد من الأمريكيين ذوي أصل إيراني إلى هناك سنويًا، على الرغم من التحذيرات السابقة للرئيس الأمريكي «جو بايدن»، وهناك يواجه هؤلاء خطر الاعتقال التعسفي والمضايقات من قبل السلطات الإيرانية. تستخدم إيران كما يقول البعض هؤلاء الرهائن بمثابة ورقة للمساومة من أجل الوصول إلى أموالها المحتجزة. (10)

من المحتمل أن يؤدي هذا الاتفاق إلى تراجع هيبة الولايات المتحدة في المجتمع الدولي تدريجيًا، لا سيما وأن إيران دائمًا تبحث عن شركاء آخرين للالتفاف حول العقوبات الأمريكية، وهؤلاء الشركاء هو أبرز القوى المنافسة لواشنطن، وبالتحديد موسكو وبكين. فضلًا عن أن الإدارة الأمريكية الحالية منذ قدومها لم تستطع ردع إيران عن كثير من تصرفاتها، مثل تمويلها للميليشيات في المنطقة العربية، ونشاطها الاستفزازي في المياه الإقليمية، فضلًا عن عدم قدرة واشنطن على عقد مفاوضات مباشرة بشأن الاتفاق النووي لمدة سنوات. كل ذلك ربما زعزع الثقة بواشنطن لا سيما الحزب الديمقراطي. ففي عالم تعدد الأقطاب وهيمنة أيدولوجيات متنوعة أصبح من السهل لكثير من الدول إيجاد شركاء آخرين مشتركين معهم في مصالحهم.  

الجانب الإيراني

من المتوقع عدم تخلي إيران عن سياسة احتجاز الرهائن، خاصة وأن إيران تصنف السجناء لديها حسب جنسياتهم وكلما زادت أهميتهم زادت أسعارهم وأسعارهم، فمثلًا السجناء الأجانب -غير مزدوجي الجنسية- يحصلون على أعلى سعر، باعتبارهم أكثر قيمة من مزدوجي الجنسية. والسجناء القادمين من أوروبا الغربية أفضل من أوروبا الشرقية، وأفضل من اليابان. أما سجناء العالم النامي فمن المتوقع قضاؤهم مدة عقوبتهم كاملة. ويعتبر الرهائن الأمريكيين والإسرائيليين أغلى الرهائن وأهمهم، وبالتالي فإنهم الأكثر رغبة في استخراجهم.(11)خلاصة القول إن سياسة احتجاز الرهائن كانت وستزال أحد وسائل إيران الدفاعية للتفاوض والمساومة على أموالها المجمدة. وليس من المستبعد أن تسير روسيا والصين على نفس النهج الإيراني في مساومة واشنطن على الرهائن المحتجزين لديهما.

يتخوف البعض من صرف إيران هذه الأموال على تمويل الجماعات الإرهابية، واستمرار المناورات البحرية، فعلى الرغم من الإعلان عن تولي قطر للأموال التي سيتم الإفراج عنها بحيث تصرفها إيران على السلع الغذائية والأدوية فقط، إلا أنه لا شك من قدرة إيران على التحايل على مثل هذه العقبات، وتمويل ميليشياتها والحرس الثوري الإيراني، أحد أهم أدواتها العسكرية. وقد تخصص إيران جزء من هذه الأموال لتحريك المياه الراكدة بهدف إنعاش اقتصادها الداخلي.

تداعيات الصفقة على الاتفاق النووي الإيراني

قد تسهل هذه الصفقة إمكان التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، ولكن هناك تخوف من جانب البعض من أن تتفاوض إدارة الرئيس الأمريكي «جو بايدن» سرًا مع إيران بشأن اتفاقية غير رسمية وغير مكتوبة تقدم فيها الإدارة الأمريكية تنازلات كبيرة، لصالح إيران، بل وقد تكون أجزاء منها قيد التنفيذ بالفعل، كأن تتعهد إيران بالامتناع عن تخصيب اليورانيوم بدرجة تصل إلى حد يمكنها من صنع سلاح نووي، ومن ثم سيكون بموجب هذا التعهد أن تستطيع طهران مواصلة التخصيب حتى درجة نقاء 60 في المئة، الأمر الذي يعتي أنه لا يزال بإمكانها توسيع قدراتها النووية والتقدم نحو العتبة النووية. وإذا تم التوصل لمثل هذه الصفقة فمن المتوقع تهرب إدارة «بايدن»، قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني، الذي يتطلب من الكونغرس مراجعة أي صفقة متعلقة بالاتفاق النووي مع إيران في غضون خمسة أيام بعد التوصل إلى أي اتفاق، حيث يجب على الرئيس إحالة الاتفاقية الكاملة إلى الكونغرس.(12) إذ يعتقد البعض أن تبقي الإدارة الأمريكية الحالية على مثل هذا الاتفاق -في حالة التوصل إليه- سرًا دون أي اعتراف.

لقد أكد المرشد الأعلى «علي خامنئي» على أن برامج إيران الصاروخية والطائرات المسيرة مسألة دفاع وغير قابل للتفاوض. كما أصر مسؤولون أمريكيون على أن اتفاق الرهائن ليس له علاقة بالوصول إلى اتفاق نووي، لكن في الوقت ذاته أشار مسؤولون أمريكيون إلى أن إيران قامت بتخفيض معايير التخصيب الإيراني لليورانيوم بمستويات نقاء لا تزيد عن 60 في المئة، فضلًا عن عدم وجود هجمات كبيرة على القوات الأمريكية من قبل وكلاء إيران في سوريا والعراق. فقبل ذلك كانت تبلغ نسبة إيران في تخصيب اليورانيوم 90%، وهو ما كان يحذر منه مسؤولون غربيون وأمريكيون وإسرائيليون باعتباره رمز فعلي للعمل العسكري.

فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكين» أن هذا الاتفاق والجهود الدبلوماسية المبذولة فيه لا تقلل من نشاط واشنطن في مواجهة الأعمال المزعزعة للاستقرار لإيران في المنطقة، وأشار «بلينكن» إلى أن محاولة إعادة هؤلاء الأمريكيين إلى الوطن لن تؤدي إلى رفع أي عقوبات عن طهران.

وفي ذات السياق، يرى الدبلوماسي الإيراني السابق «علي رضا فرجي راد»، أن الخطوات الأخيرة التي تمت بين بلاده وواشنطن، تشير إلى انخفاض حدة التوتر بين الطرفين، مما يعني أنه ستكون هناك فترة جديدة بشأن الملف النووي الإيراني، فهناك زيارة مرتقبة لمسؤولي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إيران، وقد تنم هذه الزيارة عن محاولة التوصل إلى اتفاق بشأن الموقعين النوويين، موضع الخلاف بين الأطراف المعنية، ولو تم الإعلان رسميًا عن إنهاء الخلاف بشأن هذين الموقعين، فمن المحتمل حدوث تطور في الملف النووي خلال الفترة المقبلة، ويتزامن ذلك مع زيارة الرئيس الإيراني «إبراهيم رئيسي» المرتقبة لنيويورك للمشاركة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، فمن الممكن أن يجري الجانبين الإيراني والأمريكي مفاوضات مباشرة للمرة الأولى بعد سنوات من المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين. (13)

على النقيض، هناك احتمال آخر وهو ألا يؤدي هذا الاتفاق إلى أي جديد فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، لأن إيران وضعت إدارة «بايدن» أمام موقف صعب، إذ أن أحد أهم شروطها للتوصل إلى اتفاق نووي هو أن يكون هناك ضمانًا بعدم خروج واشنطن مرة أخرى من الاتفاق، مثلما فعلت في عهد «ترامب» وهو ضمان صعب أن يعطيه «بايدن» لإيران لأنه لا يضمن سيأتي بعده، فقد يُنتخب «ترامب» للرئاسة مرة ثانية، أو قد يأتي رئيسًا متبعًا للسياسية الترامبية.

يجب أيضًا الأخذ في الاعتبار أن إيران لن يمكنها أن تتخلى عن البرنامج النووي حتى وإن كانت لا تزال بحاجة إلى مزيد من الوقت لامتلاك سلاح نووي حقيقي، لأن هذا البرنامج نجح في جعلها دولة ذات مهابة إلى حد ما من جانب بعض الدول التي بجانبها، فمثلًا ربما يكون أحد دوافع السعودية للتطبيع مع إيران وعودة العلاقات بينهما يرجع إلى محاولة اتقاء شر إيران، فإذا لم تستطع دولة ما أن تهزم عدوها فلا بأس بأن تتعاون معه من أجل المصلحة، ولتخفيف حدة شره.

ما زالت إيران -من وجهة نظر الباحثة- أمامها الكثير من أجل امتلاك قنبلة نووية حقيقية، وليست قريبة من امتلاك تلك القنبلة كما تدعي إسرائيل، والدليل على ذلك أنه منذ السنوات الأخيرة كانت تصرح إسرائيل بأن إيران يمكنها أن تمتلك قنبلة نووية خلال أسابيع قادمة، ولكن مضت سنوات ولم تتحقق نبوءة إسرائيل، وهو الأمر الذي يدل على سعي إسرائيل للتهويل بشكل مبالغ فيه من البرنامج النووي لإخافة دول المنطقة وحشدهم ضد إيران والتطبيع مع إسرائيل. وبالطبع يصب هذا التهويل من جهة ما في صالح إيران من حيث جعلها دولة تحاول بعض دول المنطقة اتقاء شرها، ومن جهة أخرى يصب في مصلحة واشنطن من حيث إتاحة لها فرصة التدخل في المنطقة بحجة حمايتها من النفوذ الإيراني. يعني ذلك أن ورقة البرنامج النووي أحد أوراق إيران المهمة التي تتساوم بها مع الدول من أجل تحقيق مصالح براجماتية.

تداعيات الصفقة على العلاقات بين واشنطن وطهران

إن العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران علاقة سياسية بحتة قائمة على المصلحة، حتى وإن كانت إيران تحاول إبداء عكس ذلك، وتصوير واشنطن بـ «الشيطان الأكبر»، منذ قيام الثورة الإسلامي عام 1979، إلا أنه رغم ذلك لن تمانع أبدًا إيران في التفاوض والجلوس مع واشنطن متى كان الأمر يصب في مصلحتها، والدليل على ذلك التوصل إلى هذا الاتفاق الأخير باعتباره قد يكون خطوة للإفراج عن دفعات أخرى من الأموال الإيرانية المجمدة. يعني ذلك أن هذه الصفقة لن تحدث تأثيرًا إيجابيًا كبيرًا، لأن إيران لن تتنازل عن ورقتها النووية، ولن تتخلى عن أنشطتها في المياه الإقليمية، ولن تتوقف عن دعم ميليشياتها، لأن ذلك بمثابة ضمان لأمنها وهيمنتها على المنطقة.

أما من ناحية الجانب الأمريكي فنجد أن الولايات المتحدة حاولت الوصول لمثل هذا الاتفاق كنوع من حفظ ماء وجهها بعد الفشل الواضح لإدارة «بايدن» في التوصل لاتفاق نووي مجدي. كما أن الولايات المتحدة ما زالت تنظر إلى إيران بعين الخوف من أنشطتها في المنطقة، والدليل على ذلك أنه في الوقت الذي كان هناك مفاوضات للوصول إلى اتفاق بشأن الرهائن، نشرت الولايات المتحدة آلاف البحارة ومشاة البحرية الأمريكيين خلال شهر أغسطس 2023 الجاري، لدعم جهود الردع في المنطقة، طبقًا لما ذكرته وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، في يوم 7 أغسطس 2023.

لن يهدأ الحال بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية إيران الإسلامية، وستستمر المناورات البحرية بين إيران من جهة وبين وواشنطن وحلفائها -على رأسهم إسرائيل- من جهة أخرى. فقد تسببت إيران خلال الآونة الأخيرة في هجمات على سفن تجارية، فضلًا عن احتجازها لسفن في المياه الإقليمية. وفي الوقت الحالي، يفكر «البنتاجون» في خطة لوضع آلاف القوات الأمريكية ومشاة البحرية على القواعد الأمريكية في الخليج لحراسة السفن التجارية في مضيق هرمز، حيث تمر 20٪ من جميع شحنات النفط من الخليج العربي، بالإضافة إلى نشر طائرات من طراز "F-35S" و"F-16S" وطائرات أخرى في المنطقة.(14) يأتي ذلك في نفس الوقت الذي تدعم فيه إيران روسيا في حربها ضد أوكرانيا وتزودها بالطائرات بدون طيار التي تستخدمها موسكو في وضع القنابل لاستهداف مواقع مهمة في كييف.

علاوة على ذلك، انضمام إيران الأخير لمجموعة بريكس، والتي تضم روسيا والصين، أحد أهم وأبرز منافسي الولايات المتحدة الأمريكية.(15) وقد يساهم هذا الأمر في مساعدة إيران على الالتفاف حول العقوبات الأمريكية، وإمداد إيران بدفعات من الأموال لإنعاش الاقتصادي الإيراني الداخلي ولو جزئيًا.

الهوامش

1)          Farnaz Fassihi and Michael D. Shear, "U.S. Reaches Deal With Iran to Free Americans for Jailed Iranians and Funds", The NewYork times, (https://cutt.us/5oOfG), Published on: August 10, 2023, accessed on: August 15, 2023.

2)          Farnaz Fassihi and Michael D. Shear, "U.S. Reaches Deal With Iran to Free Americans for Jailed Iranians and Funds", Op. Cit. p.1.

3)          Jon Gambrell and Matthew Lee, "What’s behind the tentative US-Iran agreement involving prisoners and frozen funds", Associated press, (https://cutt.us/tbiFF), Published on: August 12, 2023, accessed on: August 15, 2023.

4)       خبر آنلاين: "واکنش تند دی‌سانتیس به توافق ایران و آمریکا"، (https://cutt.us/lDo8b)، تاريخ النشر: 11 أغسطس 2023، تاريخ الدخول: 15 أغسطس 2023.

5)       ايران اينترنشنال: "واکنش‌ها به توافق احتمالی ایران و آمریکا؛ اعتراف به بازداشت افراد به منظور پیشبرد مذاکره"، (https://cutt.us/B9ynz)،، تاريخ النشر: 12 أغسطس 2023، تاريخ الدخول: 15 أغسطس 2023.

6)          Michael Crowley, Ronen Bergman and Farnaz Fassihi, "Prisoner Deal Could Smooth Effort to Contain Iran’s Nuclear Program", The NewYork times, (https://cutt.us/tezqE), Published on: August 10, 2023, accessed on: August 15, 2023.

7)       سبوتنيك الروسية: "سلطنة عمان: إيران وأمريكا قريبتان من اتفاق لتبادل السجناء"، (https://cutt.us/ukCqV)، تاريخ النشر: 15 يونيو 2023، تاريخ الدخول: 3 سبتمبر 2023.

8)       ايران اينترنشنال: "إسرائيل: اتفاق لا يوقف برنامج إيران النووي لن يؤدي إلا إلى تمويل الإرهاب"، (https://2u.pw/BT5Qgpx)، تاريخ النشر: 13 أغسطس 2023، تاريخ الدخول: 17 أغسطس 2023.

9)       خبر گزاری فارس: "چهار گروهی که از توافق ایران و آمریکا عصبانی‌اند"، (https://cutt.us/D70ux)، تاريخ النشر: 12 أغسطس 2023، تاريخ الدخول: 15 أغسطس 2023.

10)    صدای آمریکا: "مایک ترنر، قانون‌گذار آمریکایی: کنگره طرح ممنوعیت سفر به ایران را بررسی کند"، (https://cutt.us/llUhB)، تاريخ النشر: 13 أغسطس 2023، تاريخ الدخول: 15 أغسطس 2023.

11)      Kylie Moore-Gilbert, "Iran Will Keep Taking Hostages If the Money Keeps Flowing", The Atlantic, (https://cutt.us/HYloZ(, Published on: AUGUST 25, 2023, Accessed on: August 30, 2023.

12)    طارق الشامي، "جدل أميركي حول نهج دبلوماسية الرهائن مع إيرانإندبندنت عربية، (https://cutt.us/4GvSe)، تاريخ النشر: 18 أغسطس 2023، تاريخ الدخول: 30 أغسطس 2023.

13)    ايران اينترناشونال: "صحف إيران: بريكس لن تنعش الاقتصاد الإيراني وتحركات دبلوماسية لإحياء الاتفاق النووي"، (https://cutt.us/RAwCj)، تاريخ النشر: 29 أغسطس، تاريخ الدخول: 30 أغسطس 2023.

14)      Jon Gambrell and Matthew Lee, "What’s behind the tentative US-Iran agreement involving prisoners and frozen funds", Op. cit. p.4.

15)      Gerald Imray, Mogomotsi Magome and Jon Gambrell, “Iran and Saudi Arabia are among 6 nations set to join China and Russia in the BRICS economic bloc”, Associated Press News, (https://cutt.us/VRplx), Published on: August 24, 2023, Accessed on: September 2, 2023.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟