المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

رياح الربيع العربي تهب على العراق ما بين الطائفية والصراع السياسي..

الأحد 29/ديسمبر/2013 - 12:09 م
إعداد: وحدة البحوث والدراسات
تصور الكثيرون أن خروج المحتل الأمريكي، في نهاية عام 2011، هو الحل الوحيد لإنهاء الأزمات المتتالية في العراق، وأنه السبيل الوحيد لوقف أعمال العنف والإرهاب ضد المدنيين، والبدء في بناء الديمقراطية الحقيقة، وإعادة الإعمار، وتأهيل جميع القطاعات الحكومية المترهلة، وإنهاء مسألة بناء الدولة العراقية على “,”المحاصصة الطائفية“,” التي أوجدها “,”بريمر“,”، المندوب الأمريكي في العراق عام 2003، وأخيرًا تحقيق العدالة الانتقالية.

لكن سرعان ما أثبتت الأيام عدم دقة هذا التصور، حيث شهدت -وما زالت- العملية السياسية العديد من الأزمات المتلاحقة بين حكومة رئيس الوزراء “,”نوري المالكي“,” من ناحية، ومختلف أطراف العملية السياسية في العراق من ناحية ثانية. ففي الوقت الذي لم تنته فيه الأزمة بين طارق الهاشمي، الذي اتهمته الحكومة العراقية بالعديد من التهم، منها جريمة قتل 300 عراقي، وقد حكمت عليه محكمة عراقية بالإعدام، نشأت أزمة جديدة بين إقليم كردستان العراق والحكومة المركزية، كما تفجرت حركات احتجاجية شعبية عريضة؛ مما جعل الكثيرين أمام تساؤل كبير: هل رياح الربيع العربي عبرت ووصلت إلى العراق، الذي لم يشهد أي تطور على مختلف الأصعدة منذ حرب الخليج الثانية؟

العراق.. انتفاضة طائفية.. أم ربيع عربي شامل

للأسبوع الخامس على التوالي، خرجت مظاهرات حاشدة في مدينتي الرمادي غرب بغداد وسامراء في محافظة صلاح الدين؛ لمواصلة الاحتجاج ضد المالكي وحكومته، تطالب برحيله بسبب سياساته المهمشة للعرب من الطائفة السنية، وعدم تلبية طلباتهم بإطلاق سراح المعتقلين من السجون. حيث أدت المحاولات المستمرة من رئيس الوزراء العراقي، والخاصة بمحاولة الانفراد بالسلطة، بالإضافة إلى اتخاذه مجموعة من القرارات بدون الرجوع إلى شركاء العملية السياسية، إلى المزيد من التعقيد في مجريات الأمور إلى حل الأزمة السياسية. وبالإضافة إلى ذلك، لم يتخذ المالكي أية قرارات تصب في نهاية المطاف في صالح المواطن البسيط، الذي يئن من أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية سيئة؛ مما أدى إلى خروج العديد من التظاهرات المناهضة لسياسات رئيس الوزراء، مما جعل الزعيم الشيعي “,”مقتدى الصدر“,” يصفها بـ“,” الربيع العراقي“,”.

وفي ظل امتلاك العراق لثروات طبيعية غنية، فإنه يمكن القول إن فرصه الاقتصادية تبدو واعدة ومبشرة، إذ من المتوقع أن يزداد تعداد سكانه (البالغ حاليًّا 32 مليون نسمة) بنسبة 3% سنويًّا؛ مما يخلق عددًا أكبر من المستهلكين في المستقبل. وتشير التقديرات إلى احتمال نمو متوسط نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي (الذي يبلغ حاليًّا 2640 دولارًا) بنحو 10% سنويًّا، كما يتوقع أن تزداد القدرة الإنفاقية سريعًا. وقد شهد حجم الأنشطة التجارية الأجنبية طفرة هائلة، من نحو 3 مليارات دولار عام 2007 إلى نحو 60 مليار دولار عام 2011، أي أنه ارتفع بمقدار 20 ضعفًا عما كان عليه قبل 4 أعوام. ورغم استمرار وجود بعض المخاطر، فإن الوضع الأمني بصورة عامة قد تحسن مقارنة بفترة ذروة الاضطرابات التي امتدت ما بين عامي 2006 و2007.

ولكن، تبقى المشكلة الأساسية، التي تتمثل في ا لمحاصصة، والفساد الإداري والمالي الذي يلتهم أي إنجازات للحكومة. بالإضافة إلى أنهما أيضًا السبب المباشر في المظاهرات الحاشدة التي انطلقت من الأنبار، وامتدت إلى الموصل وتكريت وكركوك وديالي وحي الأعظمية في بغداد؛ احتجاجًا على سياسات الحكومة .

حقيقة، إن الأزمة السياسية في العراق، ما هي إلا امتداد طبيعي للأزمات الخانقة التي سادت العام الماضي. ولكن اللافت هذه المرة أن المظاهرات والاعتصامات، غير المسبوقة، تفجرت في المناطق السنية ثم عمت أنحاء البلاد . حيث تأزمت الأوضاع في أعقاب قرار الحكومة العراقية نهاية العام الماضي باعتقال عناصر حماية وزير المالية السني “,”رافع العيساوي“,”، ونشر ما وصف بأنه جانب من اعترافات هذه العناصر بأنهم نفذوا أعمال عنف وقتل بمشاركة عناصر حماية نائب الرئيس، طارق الهاشمي، الذين اعتقلوا نهاية عام 2011.

ومجمل القول: إذا كان أهل السنة هم من فجروا هذه المظاهرات إلا إنها أخذت منحى قوميًّا ووطنيًّا. وقد تلخصت أهدافها فيما يلي:

1. إطلاق سراح المعتقلين، والنساء المعتقلات بشكل خاص، وتفعيل قانون العفو العام، ومحاسبة المجرمين الذين قاموا بإساءة المعاملة للمعتقلين والمعتقلات .

2. إغلاق جميع الملفات التي تستهدف القيادات السنية، والكف عن تسييس القضاء، وإلغاء قانون “,”4 إرهاب“,” الذي يستخدم بشكل مكثف لاستهداف رموز السنة .

3. تحقيق التوازن في كل مؤسسات الدولة، ومنها المؤسسات العسكرية والأمنية .

4. تشريع قانون لحماية الخصوصية الثقافية لأهل السنة، وكل فئات الشعب العراقي، والكف عن التجاوزات التي تمارس بشكل منظم في المناهج الدراسية ووسائل الإعلام الرسمية .

5. تسليم الملف الأمني في كل محافظة لقوى الأمن المحلية، ومنع المداهمات التي يقوم بها الجيش بتوجيه مباشر من الحكومة المركزية .

وقد رأى بعض العراقيين أن هذه المطالب ليست طائفية، وليست موجهة ضد أي مكون من مكونات الشعب العراقي، كما أنها نزيهة عن شبهة التسييس لهذا الحزب أو تلك القائمة، كما أنها ليست قضية إقليم أو طائفة بعينها، فقد تكون اشتعلت نتيجة أزمة معينة ونتيجة عدم العمل على حلها، لكنها تصاعدت لتشمل كل الطوائف العراقية والعراق بالكامل، وهو ما أثار تساؤلاً حول مدى وجود ربيع عراقي.

واللافت في هذه المظاهرات، أولاً: الحضور القوي للقيادة السياسية من السنة؛ فلم تخل مظاهرة واحدة من مشاركة لوزير أو برلماني أو محافظ أو أعضاء في مجلس محافظة... إلخ، بل إن هناك من يمكن اعتباره محركًا فعليًّا للانتفاضة، مثل رافع العيساوي وأحمد العلواني وأثيل النجيفي؛ مما دعا المالكي إلى المطالبة برفع الحصانة عنهم، كما أن القبائل العربية السنية كان لها حضور مميز، مثل عشائر الدليم في الرمادي ومعهم كل عشائر الأنبار.

ثانيًا: مجالس المحافظات، وهؤلاء منتخبون محليًّا من أبناء محافظاتهم، وقد تميزت مواقفهم بالتأييد المطلق للانتفاضة، إلى الحد الذي أعلن فيه مجلس محافظة الأنبار إجازة رسمية لكل المشاركين في الانتفاضة من موظفي الدولة.

ثالثًا: إن القوى الأمنية المحلية، وهي أجهزة تشكلت من أبناء المحافظات، وبالتالي فهم يشعرون بأنهم جزء من هذه الانتفاضة، فآباؤهم وإخوانهم وأبناء أعمامهم هم الذين يحتشدون في الساحات، ولا يمكن لهؤلاء إلا أن يكونوا مع أهليهم، وهذا ما حصل بالفعل .

رابعًا: الكرد، وهم الشطر الثاني للسنة، وهؤلاء كلهم -بقياداتهم وأحزابهم وفعالياتهم الشعبية- داخلون في العملية السياسية، وهم ركن من أركانها، وهؤلاء قد أدركوا خطورة المالكي ومشروعه الطائفي الإقصائي، وقد عبروا عن تعاطفهم وتأييدهم المطلق للانتفاضة، إلى الحد الذي أعرب فيه مسعود البرزاني عن استعداده لاستضافة أي سنّي عربي حتى لو كان عزة الدوري، وقد كانت الأعلام الكردية ترتفع في مظاهرات الأنبار، وكان للخطباء الكرد كلمات تضامنية قوية ومميزة . فيما أعرب أهل السنة عن ترحيبهم بالوفود الرمزية التي جاءتهم من المحافظات الجنوبية، مع أن السياق يقتضي مطالبتهم بالتظاهر في محافظتهم؛ إن لم يكن بدافع رفع الظلم عن شركائهم فليكن بدافع رفع الظلم عن أنفسهم.

ولفهم أعمق للأزمة العراقية، يجب الإشارة إلى إشكالات تكوين الهوية والدولة والشرعية، وهي إشكالات تاريخية تتعلق مباشرة بلحظات الميلاد والنمو ، وعليه فإن فهم هذه المشكل ة تتطلب تباع ًا تحليلاً لأنماط الاندماج السياسي التي مر بها العراق الجديد. ففي العراق، تشكل عام 1921 كيان سياسي جديد بإعلان قيام الدولة تحت رعاية الانتداب البريطاني الذي دام حتى عام 1936، حين أضحى العراق بلدًا مستقلاً وعضوًا في عصبة الأمم آنذاك، بيد أن مشروع تأسيس وطن عراقي ودولة عراقية تعرض إلى ضغوطات سياسية خانقة مستمرة داخلية وخارجية وتحديات ثقافية وأيديولوجية. ولهذا لم توجد فرصة لتكوين العراق كدولة ينتظم سكانها أيديولوجيًّا وثقافيًّا ضمن ولاء أساسي في أي عهد، فقد تعثر إبان العهد الملكي وانتكس بعد الانقلاب العسكري في 1958، وتم استلابه كليًّا بعد الانقلاب البعثي في عام 1968، ونمو الشمولية الطائفية لنظام أحمد حسن البكر وصدام حسين، واكتمال وتكريس الطائفية المذهبية والعرقية في ظل الاحتلال الأنجلو أمريكي للعراق في عام 2003.

وبالإضافة إلى ما سبق، يمكن للمتتبع لتاريخ العراق أنْ يلاحظ أنَّ هناك خمس محطات تاريخية كبرى مر بها العراق منذ أوائل القرن العشرين وإلى الآن -لعبت فيها الطائفية دورًا رئيسيًّا في تاريخ العراق الدموي- كشفت هذا الصراع الطائفي في الشعب العراقي بشكل واضح للعيان:

الأولى: عندما احتلت بريطانيا العراق في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ثارت العشائر الشيعية وبفتاوى قادتهم الدينيين؛ فشنوا حرب الجهاد على الإنجليز، ومن ثم قاموا بثورة العشرين ضد الاحتلال، بينما وقفت قيادات العرب السنة على الحياد إلا ما ندر، وإن حصل، فقد كان جانبيًّا؛ مثل مقتل ليجمان على يد الشيخ ضاري، والذي لعبت فيه الصدفة دورها، ونتيجة لتهور ليجمان.

الثانية: الصراع الطائفي في العهد الملكي، الذي كان يدور بخفاء وصمت وفي المجالس الخاصة، وحرمان الشيعة من حقوق المواطنة والمشاركة العادلة في المناصب والوظائف في الدولة.

الثالثة: الصراع الدموي أثناء ثورة 14 تموز 1958، فرغم أن الصراع كان تحت مسميات سياسية (قومي، بعثي، شيوعي) إلا أن الجماهير الشيعية (وليس قادتهم الدينيون) هي التي وقفت مع الثورة وزعامتها الوطنية ودافعت عنهما إلى آخر لحظة، حيث شكل الشيعة نحو 70% من منتسبي الحزب الشيوعي، بينما المحافظات السنية ساهمت في اغتيال الثورة وقيادتها الوطنية. ولا ننسى الشينات الثلاث (شيعي، شروكي، شيوعي) التي أطلقها القوميون الطائفيون من الطائفة السنية على شيعة العراق .

الرابعة: انتفاضة مارس 1991، قامت بها المحافظات الشيعية والكردية، التي نعتها نظام البعث الصدامي بالمحافظات السوداء، مقابل وقوف المحافظات العربية السنية على الحياد، والتي أسماها بالمحافظات البيضاء .

والأخيرة: منذ سقوط نظام البعث الصدامي عام 2003، وإلى الآن، رحبت المحافظات الشيعية والكردية بالوضع الجديد، بينما وقفت المحافظات العربية السنية ضده وقاومته؛ بحجة مقاومة الاحتلال ومعارضة “,”المحاصصة“,” الطائفية.

ويمكن القول إن التاريخ يعيد نفسه بتفاصيل دقيقة؛ حيث لعب الأمريكيون على الوتر الطائفي لعبة البريطانيين عام 1920. فقد وازن البريطانيون بين ثورة شيعية بالوسط والجنوب وبين هدوء سني في الغرب والشمال. وعندما أفتى بعض علماء الشيعة بمقاطعة الجهاز الحكومي بعد فشل الثورة، وأفسح المجال أمام الغرب السني للهيمنة على مفاصل الدولة حتى عام 2003. وأخذ الأمريكيون الآن السخط الشيعي أداة للتعبئة والحكم في العراق، وقابله رفض سني تحرك بتشكيل هيئة العلماء المسلمين لتفتي ضد الاحتلال ومجلس الحكم.

والخلاصة.. يبدو أن التحول في النظام السياسي العراقي بعد الاحتلال لم يتمكن من الخروج من دائرة الطائفية والعشائرية، ولا سيما بعد أن تسلم السلطة عراقيو الخارج الذين استوطنوا دولاً عديدة، واكتسبوا طبائعها وتقاليدها وثقافتها، فضلاً عن ازدواجية ولائهم بين العراق والدول التي احتضنتهم إبان أزمتهم مع النظام السابق.

أخطاء الـحكومة في التعامل مع الأزمة

أكد زعيم التيار الصدري “,”مقتدى الصدر“,” أن الربيع العربي إذا وصل العراق فإنه لن يكون كأي ربيع آخر، في ظل الطائفية التي ما زالت، بل سيؤدي ذلك حتمًا إلى تقسيم العراق . وقد زاد من تطور وتأزم هذه الأزمة الغياب المرضي للرئيس العراقي “,”جلال طالباني“,” عن المشهد العراقي، الذي كان يعتبر “,”رمانة الميزان“,” في السياسة العراقية.

وعلى أرض الواقع، بات يوجد الكثير من المؤشرات على انزلاق المالكي وحكومته إلى مطب استنساخ المعالجات الخاطئة في بلدان أخرى، سبق أن حلت فيها ثورات “,”الربيع العربي“,”، ويعني ذلك انتحارًا سياسيًّا للائتلاف الحاكم ورئيسه، وجر البلاد نحو مستنقع تحشيد طائفي؛ هروبًا من دفع استحقاقات ديمقراطية، صودرت بممارسات شوهت مفاهيم الأغلبية والتعددية، وبدأت تعيد إنتاج ديكتاتورية من صنف جديد . .

أولاً: اتهام المالكي لمعارضيه بأنهم امتداد لقوى إقليمية، وقوله إن قواته “,”أصبحت لا تقاتل جماعات إرهابية أو إجرامية معزولة، إنما تقاتل جماعات مدعومة بتيارات فكرية تكفيرية خطيرة تعج بها المنطقة“,”. والواضح في هذا الاتهام أن المالكي يسعي من خلاله إلى إضفاء طابع طائفي على الحراك الشعبي المعارض له، مستغلاً تركز الاحتجاجات في المحافظات ذات الأغلبية السنية، ومتجاهلاً تضامن التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر مع مطالب المحتجين باستثناء مطلب وقف قانون “,”اجتثاث البعث“,”.

ثانيًا: تشبث المالكي بكرسي رئاسة الوزراء حتى نهاية ولايته الثانية 2014 مهما كان الثمن، وترشيح نفسه لولاية ثالثة، والتلويح للمتظاهرين والمعارضين له بخيارات تقسيم العراق والحرب الأهلية والانتخابات المبكرة، كثلاثة مخارج لا رابع لها في حال استمرار الاحتجاجات على سياسات حكومته. وضمن هذه المعادلة يقدم أعضاء “,”ائتلاف دولة القانون“,” زعيمهم المالكي كضمانة لاستمرار الدولة العراقية موحدة، وإبعاد شبح اقتتال طائفي، خبر العراقيون جولات دموية منه ما بين 2006 – 2008، في أعقاب تفجير مرقد الإمام عليّ الهادي في مدينة سامراء .

ثالثًا: تحريك مظاهرات مؤيدة للحكومة وشخص المالكي في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، رفع المتظاهرون فيها شعارات طالبوا من خلالها البرلمان بعدم تنفيذ بعض مطالب المحتجين في الأنبار و“,”التمسك بشرعية الحكومة ورئيسها“,”، رغم أن المعارضة لم تطرح شعار إسقاط الحكومة، بل طرحت منذ بدء احتجاجاتها مطالب إطلاق المعتقلات والمعتقلين الأبرياء بإعلان عفو عام، وإلغاء المادة “,”4 إرهاب“,”، وتحقيق التوازن في مؤسسات الدولة.

رابعًا: اتهام الحراك الشعبي المعارض بالسعي إلى إعادة “,”حزب البعث“,” إلى السلطة يدخل في باب التسييس الطائفي لصراع المالكي مع خصومه، من خلال توجيه اتهام غير مباشر للمتظاهرين بأنهم يشاركون في التحركات المناوئة للحكومة انطلاقًا من حسابات طائفية؛ باعتبار أهل “,”السنة العرب“,” في العراق هم من كانوا المستفيد الأكبر في ظل نظام الحكم السابق؛ وبالتالي تحميلهم مسئولية ممارساته ضد العراقيين، والشيعة خاصة، رغم أن الوثائق تؤكد أن أكثر من 65% من قيادات الصف الأول وكوادر وأعضاء “,”حزب البعث“,” كانوا من أبناء الطائفة الشيعية. وإثارة هذه النقطة، التي أثيرت كثيرًا في السابق، لا وظيفة لها سوى استخدامها راهنًا في التحشيد الطائفي كسلاح في مواجهة المحتجين، ولاحقًا في الانتخابات البرلمانية؛ لإجهاض نجاح قوائم انتخابية عابرة للطوائف .

خامسًا: التلويح بزج الجيش في الصراع بين الحكومة والمعارضة، وإمكانية استخدامه في قمع المظاهرات؛ مما سينقل الانتقادات التي توجه لـ“,”تركيبة الجيش“,” إلى ساحة تجاذبات مذهبية حادة، والتشكيك بحيادية الجيش ووقوفه خارج أي اصطفاف أو ولاءات طائفية، علمًا بأن الجيش موضوع مسبقًا في دائرة الاتهام، فكل قادة الفرق العسكرية العراقية بلا استثناء هم من الشيعة.

سادسًا: اتباع سياسة حصار اقتصادي ضد أبناء المناطق التي تجري فيها الاحتجاجات، لا سيما الأنبار، حيث أصدر المالكي قرارًا بإغلاق منفذ “,”طريبيل“,” الحدودي مع الأردن، الذي يمثل شريان الحياة الاقتصادية في محافظة الأنبار. واتهم المالكي خصومه بتلقي أموال من الخارج لتحريك المظاهرات المناوئة له. وبالمقابل أوعز المالكي بتوسيع العمل في المنفذين الحدوديين جنوب البلاد، على الحدود مع الكويت وإيران، حيث توجد في تلك المناطق أغلبية شيعية.

وأخيرًا: لم يقترح المالكي حتي الآن أي تسويات عملية مع المتظاهرين، فيما يبدو مراهنة على عامل الوقت، الذي أجاد المالكي في السابق توظيفه بذكاء لتفكيك جبهة المعارضين له، وتقوية نفوذه ونفوذ تياره السياسي . وأيضًا إدراج الاحتجاجات في سياق ادعاءات تربط بين أوضاع العراق مع الوضع في سوريا ولبنان، واعتبار أن ما يجري في سوريا جزء من إثارة نعرات شيعية- سنية، وإضعاف المحور “,”الإيراني – السوري – العراقي“,” لحساب المحور السني (التركي – الخليجي).

ويستمد من المؤشرات السابقة أن المالكي وفريقه السياسي ليسوا بصدد تقديم تنازلات أو الاستجابة لمطالب المحتجين، وأنهم عازمون على خوض معارك على كل الجبهات: معركة تصفية حسابات مع حكومة إقليم كردستان في الشمال، ظاهرها اقتصادي وباطنها سياسي، ومعركة مع خصومه السياسيين في “,”التحالف الوطني“,” الشيعي؛ لفرض نفسه كمرجعية سياسية وتمثيلية وحيدة للشيعة في العراق، ومنع تحول الاحتجاجات ضده إلى احتجاجات شاملة لكل الطوائف، ومعركة مع خصومه السنة للاحتفاظ بـ“,”نصيب الأسد“,” من المحاصصة الطائفية في مؤسسات الدولة وأجهزتها العليا، ومنع البحث في عملية تقاسم جديدة تعيد شيئًا من التوازن في مؤسسات الدولة.

أين طالباني من الأزمة

تتمثل الأزمة العراقية في تشظي القوى السياسية، وهاجس الخوف والشك والريبة بين القيادات السياسية، وتصارعها على المناصب والنفوذ والثروة، إضافة إلى الإرهاب وتفشي الفساد وتكالب دول الجوار لإفشال العملية السياسة بمختلف الوسائل. وفي ظل هذا الوضع يثور تساؤل مهم: هل أثَّر مرض الرئيس العراقي في تفاقم الأمور؟ حيث عُرف عن جلال طالباني أنه كان دائمًا يسعى إلى حل الخلافات الدائرة بين كل مكونات المجتمع العراقي بطرق حوارية “,”توافقية“,” للوصول إلى نقطة اتفاق بينهم؛ فقد سبق له أن تدخل لفض خلافات بين السنة والشيعة، وحتى بين الشيعة أنفسهم. ومؤخرًا تدخل إلى تهدئة الوضع إثر الأزمة التي نشبت بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية، بعدما قرر رئيس الوزراء نوري المالكي تشكيل قوة عسكرية باسم “,”عمليات دجلة“,” كي تتولى الأمن في كركوك؛ مما أثار غضب الأكراد، وبدأ الطرفان حشد قواتهما استعدادًا للمواجهة العسكرية.

وتوسط طالباني في اتفاق يدعو الجانبين لسحب قواتهما في نهاية المطاف من المناطق المتنازع عليها. وعلى رغم لهجة التطمين التي حاولت الأطراف العراقية المختلفة إشاعتها، وتأكيدها الالتزام باتفاق الهدنة الذي كان طالباني نجح في إبرامه بين المالكي ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، فإن تاريخ الصراع السياسي في العراق لا يشير إلى إمكان الالتزام بمثل هذا الاتفاق في غياب راعيه.

ومن خلال الأزمات المتكررة بين الحكومة المركزية في بغداد وبين حكومة أربيل، يبدو واضحًا أن طالباني كان له أثر كبير في تهدئة الأمور بين الجانبين، ولكن ماذا بعد رحيل الرئيس العراقي؟ ما هو مستقبل العراق بعد غياب الرئيس العراقي عن المشهد العراقي؟

يرى بعض المحللين والمراقبين للمشهد العراقي أنه في ظل غياب “,”جلال طالباني“,” قد تشهد الأزمة العراقية الكثير من التوتر في غياب الشخصية التوافقية التي طالما عملت من أجل نزع فتيل العديد من الأزمات التي كانت تهدد المجتمع العراقي. وقد تبرز إلى السطح عدة نزاعات سياسية تحاول إعادة توزيع الأوراق في المشهد السياسي العراقي، وسحب البساط من تحت المالكي، الذي بدأ في محاولة التغلغل داخل الدوائر النافذة في العراق؛ ليعيد تذكير العراقيين بديكتاتورية الرئيس السابق “,”صدام حسين“,”، الذي كان يزعم محاربتها، وأنه لن يشبهه أبدًا في تعامله مع العراقيين، لكن الواقع العراقي يقول عكس ذلك؛ من خلال رغبة المالكي في إنشاء ديكتاتورية جديدة تعتمد على الولاء المذهبي وتغييب الانتماء للعراق الوطن.

في حين استبعد البعض تمامًا أن تسمح القوى السياسية في مدينة السليمانية، المعقل الرئيسي لحزب جلال طالباني، بأن يبرز خليفة من غير الاتحاد الوطني، أو على الأقل من حركات المعارضة في المدينة، أو يسمح لحزب بارزاني بأن يحصل على المنصب الرفيع مهما كانت الظروف؛ حيث إن منصب رئيس الدولة -وفقًا للاتفاقات السياسية ونظام توزيع المناصب- حق للأكراد، خاصة أن جذور الصراع بين القوتين الأكبر تمتد في عمق أرض كردستان.

لكن فريق ثالثًا يرى أن شخصية “,”برهم صالح“,” -الذي تولى نيابة رئيس الوزراء في حكومة المالكي الأولى، وتولى منصب رئيس حكومة الإقليم، وتولى ملفات تفاوض عديدة طوال السنوات التي أعقبت الاحتلال الأمريكي- تبدو الأقرب إلى تكهنات المحللين والمطلعين على الشأن السياسي في الحزب الوطني والإقليم والدولة؛ فهو يحتفظ بعلاقات طيبة مع كافة القيادات الشيعية والسنية على السواء، ويتمتع بـ“,”كاريزما“,” موائمة للتحول السياسي.

والخلاصة فإنه على الرغم من أن العراق يشهد الآن تجربة سياسية جديدة، فإن الواقع على الأرض يدل على أن العملية الدستورية وإقامة مؤسسات شرعية تنسجم مع بنية فيدرالية ديمقراطية تعددية تحتاج إلى مزيد من الجهود المخلصة، وسوف تستغرق وقتًا طويلاً، وسيكون من الضروري أن يطرأ تحسن كبير على المناخين السياسي والأمني، ولن يساند العراقيون نظامًا جديدًا مفروضًا عليهم من الخارج -أو حتى من الداخل- من قبل بعض قوى سياسية لا تحظى بالشعبية، وينبغي أن يكون النظام الجديد واسع التمثيل، ويشمل جميع البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية الوطنية.. وإن أي إخفاق للتجربة العراقية الجديدة يمكن أن يؤجج مزيدًا من الأزمات التي تؤدي إلى التشرذم الإقليمي .

كما أن الأزمة تؤكد على أن ثمة خطرًا حقيقيًّا من أن ينزلق العراق في فوضى أكثر مما هو عليه الآن تعم مشكلاتها المنطقة بكاملها، بدلاً من أن يكون نموذجًا للوحدة السياسية والثقافية والإقليمية. وعلى الرغم من رغبة العراق في المحافظة على وحدته الإقليمية، فإن هناك تقسيمات قومية واضحة، بغداد بسكانها العرب من السنة والشيعة، والموصل بجماعاتها الكردية والعربية السنية ذات النفوذ الكبير، والبصرة المكونة بصورة رئيسية من العرب الشيعة. وهذه عوامل مهمة تدخل في تكوين أية سلطة سياسية في العراق، وقد تؤثر تركيبتها تأثيرًا قويًّا في اتجاه سياستها الخارجية .

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟