المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

التقارب الأمريكي الإيراني وتأثيره على القضية السورية

الثلاثاء 31/ديسمبر/2013 - 12:22 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
بقلم: هاني سليمان
شهدت العلاقات الأمريكية الإيرانية مدا وجزرا منذ عشرات السنين، في زمن الشاه إلى الثورة الخمينية، وقيام الجمهورية الإسلامية مع الحكومات المتتالية في تولي الحكم، وسياسة محمود أحمدي نجاد التصعيدية، حتى تولي الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني رئاسة الجمهورية، وظهور بوادر دبلوماسية سياسية منفتحة على الغرب والعالم، ثم في تحول مفاجئ لمسار العلاقات، التي قد أخذت وتيرة تصعيدية من الجانبين كانت في أحيان كثيرة تتحدث بلغة المدافع والحرب المتوقعة، لنجد أنفسنا أمام تقاربات وتوازنات مصلحية جديدة، انعكست- وتلقي بظلالها- على مستقبل القضية السورية، وكيفية التعامل مع الأزمة.
مظاهر التقارب
اليوم أصبح واضحا للجميع، أن هناك انعطافة جديدة في مسيرة العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بدأت مع إعلان فوز حسن روحاني في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة الإيرانية، فقد كانت هناك بوادر تغيير واضح في لغة التخاطب الإيرانية مع الغرب، تتسم في جوهرها بالواقعية.
كما بدأت تصدر إشارات توحي بأن طهران ترغب في فتح صفحة جديدة من التعاطي مع واشنطن، في ما يرتبط تحديدا بالملفّ النووي؛ فقد جرى اختيار محمد جواد ظريف وزيرا للخارجية، وهو المعروف باتصالاته الواسعة مع الأمريكيين، خلال فترة حكم الرئيسين الأسبقين رفسنجاني وخاتمي؛ وذلك بالتوازي مع نقل إدارة الملف النووي من مجلس الأمن القومي إلى وزارة الخارجية.
إضافة إلى النشاط الدبلوماسي الإيراني على هامش الدورة الـ68 لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك؛ إذ التقى وزير الخارجية الإيراني ظريف بنظيره الأمريكي جون كيري، ثمّ جاء الاتصال الهاتفي مع أوباما ليتوج حملة إذابة الجليد، ويهيئ الأجواء للانتقال إلى طورٍ جديد محتمل في العلاقات بين البلدين.
كما أعلنت وسائل إعلام إيرانية أن الرئيس الإيراني حسن روحاني أعاد معه إلى إيران قطعة أثرية فارسية عمرها 2700 سنة، قدمتها له الإدارة الأمريكية كـ"هدية خاصة إلى الإيرانيين" في رحلته إلى نيويورك.
ومن مظاهر هذا التقارب خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، في ذكرى عاشوراء، والذي حمل لهجة متخففة من الهجوم المعتاد على الإدارة الأمريكية، خصوصًا فيما يخص الملف النووي الإيراني؛ حيث لم يجنح للحديث عن أمريكا ودورها في الصراع، شأن كل خطاب سياسي سابق له.
كما أن حزب الله الذي اعتبر أنه "انتصار نموذجي وإنجاز عالمي نوعي تضيفه الجمهورية الإسلامية إلى سجلها المشرق بالانتصارات والإنجازات!"، فهو انتصار لإيران والدول الستة التي اتفقت معها؛ لأنه يرسخ السلام والتهدئة في المنطقة.
وتبع تلك البوادر سلسلة من التحركات، حيث طلبت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما من الكونجرس التريث في فرض عقوبات جديدة على إيران، سعيًا لإعطاء زخم أكبر للحل الدبلوماسي، بينما قال دبلوماسيون بالوكالة الدولية للطاقة الذرية إنهم لا يملكون معلومات تؤكد وقف إيران تخصيب اليورانيوم بنسبة أكثر من 5%، فيما أمرت السلطات الإيرانية بإزالة اللوحات المنتشرة في شوارع العاصمة طهران، والتي تحمل شعارات "معادية للولايات المتحدة".
وهو ما يؤكد الحديث الدائر داخل الأوساط السياسية عن أنه ثمة صفقة كبرى برعاية روسية، تتكون من ثلاثة بنود هي: نزع السلاح الكيماوي السوري، ومن ثم تحقيق أمن إسرائيل، ونزع سلاح إيران النووي، مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية، وهو أمر كانت تحتاجه إيران في الوقت الراهن، بعد أن أرهقتها العقوبات، وثالثا انعقاد مؤتمر «جنيف 2» لحل الأزمة السورية.
وفي هذا السياق، فإذا كان الأمر يبدو مفاجئًا ومثيرًا للجدل للعديد من المتابعين، وخاصة دول الخليج.. والإمارات والسعودية تحديدًا، إلا أن هناك رأيًا آخر لا يرى ذلك التحول بالحدث غير المتوقع، فبعض الخبراء يرون أن العلاقات بين أمريكا وإيران اتصفت على الدوام منذ الثورة الإيرانية سنة 1979 بسياسة الخطوط المتوازية في الكثير من الملفات، ونادرًا ما حدث تقاطع في الملفات الإيرانية الأمريكية، هذا ما جعل التعاون غير المعلن هو السمة الرئيسية لهذه العلاقات، فمنذ أن نزل السفير الأمريكي في طهران للرقص مع الإيرانيين في الشارع يوم سقوط الشاه سنة 1979، والرقص الأمريكي الإيراني ما زال مستمرًّا.
ففي الوقت الذي فرض العالم فيه حظرًا على تصدير السلاح لإيران أثناء حربها مع العراق في الثمانينيات كانت المخابرات الأمريكية تقوم بتصدير السلاح لإيران عبر وسطاء، فيما عُرف إعلاميًّا بفضيحة إيران جيت، وفي الوقت الذي كان الأمريكان يحضرون للهجوم البري والجوي على الكويت لإخراج العراقيين منها سنة 1991 كانت إيران تقدم تسهيلات مادية ولوجستية حاسمة للتحالف الدولي، وفي الوقت الذي كان الأمريكان يبحثون عن أفضل طريق للهجوم على أفغانستان بعد أحداث سبتمبر كانت قوات تحالف الشمال الموالية لطهران تتقدم من مزار شريف بإشارة من قادة الحرس الثوري الإيراني نحو كابل، منهية شطرًا كبيرًا من المهمة الثقيلة على الأمريكان.
وعندما أراد الأمريكان أن يطيحوا بالرئيس العراقي صدام حسين كان شيعة العراق وأزلامهم مثل الجلبي والجعفري والحكيم وعلاوي وغيرهم كثير من أكبر أعوان الأمريكان، مما حدا بالمراقبين الدوليين لتأكيد وترديد مقولة نائب الرئيس الإيراني "علي أبطحي:" لولا إيران ما دخلت أمريكا العراق ولا أفغانستان".
تغيير التقديرات
ذلك الحراك في الماء الراكد ينبع من إدراك إيران للموقف الصعب الذي يحيط بها، والأوضاع الاقتصادية المتردية جراء العقوبات المتتالية من المجتمع الدولي، فقد بدا أنه عليها تقديم تنازلات وإبداء التزامات للخروج من عنق الزجاجة، بسبب معاناتها منذ اللحظة الأولى لبدء سريان أول عقوبات دولية عليها منذ ديسمبر 2006، والذي بلغ ذروته خلال عام 2012، حيث قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بفرض حزمة جديدة من العقوبات ضد إيران، شملت منع استيراد النفط الإيراني، ومقاطعة البنوك الإيرانية، ما أدى إلى تقليص حجم الصادرات الإيرانية بنسب كبيرة، وخاصة الصادرات النفطية، وتقلصت معها موارد الخزينة العامة، مما أدى إلى زيادة نسب البطالة، وارتفاع التضخم المالي، وانخفاض قيمة العملة الإيرانية، واستشراء الفساد، وازداد الاستياء الشعبي بفعل العقوبات الاقتصادية.
ومع وصول روحاني للسلطة حدد مشكلات إيران في قضيتين أساسيتين هما «السياسة الخارجية، والاقتصاد»، ورأى أن أي توصل إلى تسوية مع الغرب بخصوص الملف النووي يعد السبيل الوحيد لرفع العقوبات الاقتصادية.
تلك الرغبة قابلتها الولايات المتحدة برغبة أمريكية في تجاوز حروب الماضي وآثارها، والتوجه نحو الحلول الدبلوماسية الأقل كلفة في معالجة الملفات السياسية المختلفة، مع اتساع رقعة الدين العام الأمريكي، ومشكلات الرئيس أوباما مع الجمهوريين في الكونغرس لتمرير الموازنة العامة وخفض النفقات، وخلق فرص عمل جديدة، وإعادة ترميم البنية التحتية المتهالكة.
ووفقا للقراءة الأمريكية تعد الظروف الإقليمية والدولية- خاصة بعد بروز سابقة تخلي النظام السوري عن سلاحه الكيماوي مقابل الامتناع عن ضربه عسكريا- ملائمة للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخلي إيران عن برنامجها النووي مقابل رفع العقوبات عنها، وتطبيع العلاقات معها.
فلقد عانت الولايات المتحدة من تورطها في حروبها الخارجية، وخاصة الأفغانية 2001، والعراقية 2003، والنشاطات العسكرية في مناطق متفرقة، فقد أصيبت بشأن مصالحها في المنطقة بأشكالٍ مباشرة وغير مباشرة، وسواء من حيث دفع أثمان أعلى للنفط، وتعطيل أعمال شركات واستثمارات أخرى، أو خسران معاملاتها مع بعض المصالح والشركات والهيئات الأخرى التي كانت تشعر بضررٍ أكبر من تلقاء مجاراتها لها رغمًا عنها، حيث باتت تخشى على تحالفاتها مع الدول الآسيوية التي لم تجد بدًّا من استيراد النفط الإيراني، فهناك دول مهمّة مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا لا تزال تستورد النفط الإيراني، ويزداد اعتمادها عليه يومًا بعد يوم، مع نمو اقتصاداتها، كما أن الاقتصاد الأمريكي عانى أزمة مالية ضخمة نجمت عن ارتفاع سقف الدين، وتفاقم أعباء الإعانات والبطالة، وأعباء اجتماعية أخرى.
ويجب هنا الإشارة إلى أن ذلك التقارب ليس مآله قاطعًا، فسيجد الطرفان صعوبات وعقبات جمة في مواجهة حواجز سنوات طويلة من عدم الثقة بين الطرفين، فمن الممكن أن يؤدّي انخفاض مستوى التوتر بين إيران والغرب إلى تفاهمات مؤقتة تَحُول دون وقوع صدامٍ عسكري، لكنها لا تكفي لعقد تسويةٍ شاملة؛ نظرا لصعوبة الملفات المطروحة، وتعدد الأطراف ذات المصلحة فيها، ويمكن أن يقود مسار التقارب الحالي إلى تسويةٍ شاملة للملفات العالقة، تنتهي بتوافقٍ إيراني – أمريكي يحفظ مصالح الطرفين، ومن ضمنها طبعا المصالح الإسرائيلية، كما أنه من الممكن أن يفضي التقارب إلى ما يبرع فيه الإيرانيون- بحسب خصومهم- وهو شراء مزيدٍ من الوقت من دون تقديم تنازلاتٍ تُذكر، في انتظار الوصول إلى نقطة اللا عودة في خصوص حصولهم على تكنولوجيا إنتاج السلاح النووي، أو أملا في تمكن حلفائهم الإقليميين من قلب معادلات القوة لصالحهم في العراق وسورية.
كل ذلك من المتوقع أن ينعكس على واقع الحال في المنطقة العربية والعالم، وعلى العرب قبل غيرهم أن يكونوا متنبهين لعواقب أي تفاهمات قد تجري في المنطقة بين إيران والغرب على حسابهم، أو على الأقل التأثير في مساره بما يخدم مصالحهم أولا.
القضية السورية
من الأمور التي أصبحت شبه يقينية على المستوى الدولي والإقليمي؛ أن الثورة السورية قد أصبحت حجر الزاوية ونقطة الانطلاق نحو تشكيل نظام عالمي وإقليمي جديد، تتراجع فيه فكرة النسق أحادي القطبية الذي يسيطر على العالم ويقوده حسب سياساته وتوجهاته ومصالحه، فسوريا قد أصبحت ملعبًا تتقاطع عنده مصالح الدول المؤثرة في النظام الدولي، وقد يتمثل المدخل الأسرعُ الآن لهذا النظام الجديد في العمل بجديةٍ وقوة لإيجاد أمرٍ واقعٍ يفرض نفسه في سوريا؛ لأنها باتت الساحة التي ستكون المفرق في تحديد خارطة المنطقة، كما أشارت صحيفة النيويورك تايمز نقلًا عن برنارد هيغل، أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون، الذي أشار إلى أن عدم هزيمة الإيرانيين في سورية ستأخذ المعركة بأسرها إلى المناطق الأخرى الحساسة في الإقليم.
وفقًا لتلك المعطيات، فقد باتت الضربة الأمريكية للنظام السوري بعيدة المنال، وأضحت حلمًا بعد أن كانت واقعًا ملموسًا على الأرض، فإدارة أوباما لبّت لإيران وروسيا، وقدمت لهما الانتصار في الشرق الأوسط، فهي تراجعت عن الهدف المعلن لإسقاط النظام في دمشق، وهي تعهدت بحجب أي دعم لتغيير النظام في طهران.
واستيعاب معنى هذا التحوّل الجذري في السياسة الأمريكية ليس سهلًا، لكنه فائق الضرورة، فلم يدر في خلد أي مُتابع أن تنحو الأمور في الشأن السوري لهذا الشكل غير الموضوعي؛ خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الدعم الأمريكي كان في بداية الثورة بل وإلى قبيل الضربة العسكرية التي صرَّح بها أوباما، بُعيد استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي ضد العُزّل من شعبه، حيث هددت أمريكا بتوجيه ضربة عسكرية لسورية الدولة الحليفة لإيران، ما دفع إيران إلى التهديد بتوسيع مجال الضربة، وهذا شجع الدول المحرضة على المواجهة بين الطرفين إلى الدفع باتجاه المواجهة من خلال خلق ظروف مناسبة ومواتية، وتزويد المعارضة المسلحة في سورية بأحدث الأسلحة، وحثها على ارتكاب جرائم وحشية وإلصاقها بالنظام السوري؛ لتشجيع المجتمع الدولي على اتخاذ قرار بتوجيه ضربة عسكرية لسورية يعتقد هؤلاء أنها ستقوض النفوذ الإيراني، وتحد من دعمه لحزب الله في حربه مع إسرائيل، الأمر الذي يخدم أمن واستقرار إسرائيل، ويدفع بأمن العرب وإيران إلى الهاوية.
ولكن الفلسفة البرجماتية التي تحكم السياسة الأمريكية قالت قولتها في الوقت الذي كاد أوباما أن يتجاوز الحدود المسموح له بها، فكما يعلم الجميع أن المصالح العليا لأمريكا هي المُقدمة على كل المصالح الأخرى، فعندما سنحت الفرصة للتقارب الأمريكي الإيراني تخلَّصت أمريكا من دورها المحوري في إنهاء القضية السورية، وسبَّقت مصلحتها لتحقيق صفقة نوعية مع النظام الإيراني على حساب كل القيم والمبادئ الهُلامية التي كانت وما زالت تُنادي بها على كل المنابر الدولية، دون أن تُراعيها على أرض الواقع.
فخريطة التحالفات التقليدية في المنطقة آخذة في التداعي، وثمة بناءات إستراتيجية جديدة في المنطقة يتم من خلالها ترتيب الوضع السوري بعد إخلائه تمامًا من أسلحة الردع التي تخلخل نوعًا ما منظومة التفوق "الإسرائيلي" على المستوى الإقليمي، واعتماد اللاعب الإيراني كعنصر توازن إستراتيجي في المنطقة.
ومن ثَم، فإن توالي عقد المؤتمرات دون وجود أثر لها على الواقع مؤشرٌ لا يقبل التشكيك في فشلها الذريع في الخروج بصيغة توافقية إجرائية بين المُجتمعين لحل الأزمة السورية، ووفقًا للتحولات في المواقف الأمريكية، فإن «جنيف 2» ما هي إلا واحد من هذه المؤتمرات ذات الطابع التنظيري والكلام الفضفاض، جوهره المناداة بإطلاق عملية سياسية بقيادة سورية، والسوريون أنفسهم يحكمهم مبدأ الخلاف وليس الاختلاف؛ وهنا فالأرضية الخصبة لانطلاق هذه العملية غير متوافرة؛ مما يعني أن مُنتجها سيكون هشًا لا ملامح له تمنح الواقع أملًا في الخروج من عنق الزجاجة، أما عن أهمية توافر موقف دولي للأزمة السورية، فأعتقد أنها أخذت حقها من النقاش المُستفيض، ولكن في اتجاه الاستغلال السيئ الذي يُقدِّم المصلحة الذاتية على مصلحة شعب تنتهك حرماته صباح مساء، وتُدمر ممتلكاته، وتُصادر مُقدراته دون وجه حق سوى جنون العظمة وحُب الاستبداد، وما موقف أمريكا الانهزامي في تنفيذ الضربة العسكرية إلا أكبر شاهد إثبات على هذا الاستغلال الذي يجب أن نضع تحته علامات استفهام كبيرة جدًّا.
وما يراهن عليه الرئيس أوباما هو الدعم الصامت للرأي العام الأمريكي لرسائله الموجهة إلى العواصم الخليجية كما إلى إسرائيل، أنه رئيس اللا حرب تلبية للرغبات الأمريكية، فهو غامر بالانخراط السياسي مع إيران، مدركًا تمامًا أن الشعب الأمريكي لا يريد الحرب مع أي كائن نيابة عن أي كائن، فالشعب الأمريكي لا يكترث بما يحدث في الشرق الأوسط، لا سيما وأنه بات جاهزًا للاستقلال نفطيًّا، وهو لا يبالي بمن يدفع كلفة مكافحة الإرهاب والتطرف طالما هي بعيدة عن الأراضي الأمريكية، لذلك فإن الحرب السورية لا تهم الرأي العام الأمريكي، حتى وإن كان «حزب الله» طرفًا في النزاع في سورية نيابة عن إيران دعمًا للنظام، ولبقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة.
ومن الواضح الحرب السورية ستطول لترافق "عملية المفاوضات" المفترض بدؤها في مؤتمر «جنيف 2»، الذي قد يكون مدخلًا للحديث عن الدور الإيراني الإقليمي، وطموحات طهران في العراق وسورية ولبنان، لكن الرهان على «جنيف 2» هو الرهان على إفشاله.
روسيا تريد إلغاء شرعية المعارضة عبر تحميلها مسئولية إفشال «جنيف 2» بعدما كانت استرجعت للنظام في دمشق شرعيته عبر الاتفاق معه على تدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية، الولايات المتحدة تريد الاستمرار في «العملية» السياسية بعدما ألغت تمامًا الخيار العسكري.. إيران ليست مهتمة بـ«جنيف 2» وهي تريد أن تتجنب التحدث عن دورها في سورية ودعمها لـ«حزب الله»، وتفضّل إشغال الغرب حصرًا بالمفاوضات النووية لغض النظر عما تفعله في سورية.
وهناك كلام عن موقع "حزب الله" في تلك "الصفقة الكبرى" عندما تنضج أكثر لاحقًا، فإيران لن تتخلى عن "حزب الله" كما لن تتخلى عن بشار الأسد؛ ما قد تريده- لاحقًا وبعدما تتحول الموازين العسكرية في سورية قطعًا لصالح النظام- هو إقناع الرئيس الأمريكي بالاعتراف بـ "حزب الله" كقوة إقليمية ولاعب سياسي بدلًا من إبقائه مصنّفًا في خانة الإرهاب، هكذا تخطط السياسة الإيرانية على المدى البعيد، وتصبر، وتثابر، ثم تنتصر- تمامًا كما فعلت بعد ثلاثين سنة، وتوّجته في الاتفاق النووي مع الدول الكبرى، وإقرار هذه الدول بشرعية النظام في طهران.
وترغب إيران في أن تتأكد من أنها لن تخسر نفوذها الإقليمي في سورية، خاصة الصلة بين لبنان ودمشق والساحل عبر القصير وحمص، ومن ثم فإنهم كانوا وما زالوا مستعدين كي يدفعوا ذلك الثمن الباهظ للحفاظ على هيمنتهم في سورية، والتي سوف تُستخدم كبطاقة مساومة خلال المفاوضات للوصول إلى صفقة أفضل.
والآن وبعد أن أكدت الولايات المتحدة أن الغرب لن يتدخل لخلع الأسد، تزايدت قوة إيران التفاوضية إلى حد كبير، ومن ثم فإن عقد صفقة بشأن برنامجها النووي وهيمنتها الإقليمية في هذا التوقيت سوف يكون في مصلحتها.
وبطول الأزمة السورية يبدو حزب الله الأكثر تأزما وتضررا من دوره فيها عبر الوكالة الإيرانية، ليس فقط على مستوى الداخل اللبناني، الذي تحفزت فيه قوى منافسة ومجموعات مسلحة سنية للتدخل ضده على وقع تدخله السافر في الأزمة السورية! ولكن أيضًا على مستوى بنيته اللوجيستية والهيكلية، وقدرته على صد الاختراق الأمني الذي تكرر باستهداف عدد من قياداته، كان آخرهم حسان اللقيس في 3 ديسمبر أسفل سكنه في منطقة السان تيريز، الحدث بالضاحية الجنوبية ببيروت المعقل الأمني لحزب الله.
ولا ينفصل ذلك عن الدور الروسي كـ"وسيط" في تلك الصفقة، حيث حاول موقع "ديبكا" الإسرائيلي من جانبه كشف أغوار هذا التقارب، معتبرًا أن روسيا تلعب الدور الأبرز في الإشراف على العلاقات السرية بين الطرفين.
ومن جهة أخرى، هناك قوى إقليمية أخرى مشاركة في سورية لا يمكن إغفال دورها؛ مثل قطر والمملكة العربية السعودية وتركيا، ومن ثم فإن تقديم أية تنازلات في سورية لإرضاء إيران لن يكون له أثر طيب على باقي أنحاء المنطقة، وربما يكون رفض المملكة العربية السعودية المقعد الذي حصلت عليه لأول مرة بين الأعضاء غير الدائمين في الأمم المتحدة رسالة قوية إلى الغرب بشأن الطريقة التي يعالج بها المباحثات مع إيران، وهو ما يتضح جليًّا في تحذير وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، من أن اللجوء إلى الدبلوماسية لعلاج الأزمة السورية سوف يسمح للأسد بممارسة المزيد من القتل، وبالمثل سوف يدفع التقارب الأمريكي الإيراني دول مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة النظر في موقفها من سوريا، وربما تبدأ دول الخليج في تقديم المزيد من الأسلحة المتطورة للمعارضة السورية لكي تغير توازن القوى على الأرض.
وهنا نعود إلى تصريح "أوباما" بأن الولايات المتحدة ستستغني عن نفط الخليج خلال عامين؛ مما يفسر عن عدم مراعاة أمريكا لمصالح دول الخليج العربية في ترتيبها لأوراق اللعبة السياسية في المنطقة، بل إنها أعطت المصالح الإيرانية الأولوية على ما سواها!
وهذا قد يكون فهمًا مقبولًا إذا عرفنا أن إيران ممكن أن تمارس دور شرطي الخليج من جديد، ولعل أقرب مثال على ما أقول هو عدم اكتراث أمريكا لمطالب ومناشدة دول مجلس التعاون للمجتمع الدولي بالعمل على إسقاط نظام «الأسد»، خاصة بعد استعماله للأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وشاهدنا جميعًا كيف نكص «أوباما» على عقبيه بشكل مفاجئ، وكأن أمرًا دبّر بليل!
ويؤكد ذلك الموقع المتخصص في التحليلات الأمنية الذي أكد الدور الروسي ممثلًا في "سيرجي كرينكو"، رئيس الوكالة النووية الروسية كشخصية محورية في هذه العملية، وقال: إن بيديه جزءا كبيرا من خيوط الاتصالات السرية المباشرة بين البيت الأبيض في واشنطن والكريملين في موسكو، وبين مكتب الزعيم الإيراني آية الله خامنئي.
في الأخير، يبدو أن الولايات المتحدة أدركت أخيرًا أن مفتاح القضية السورية والسيطرة على أفعال النظام هي إيران لا روسيا ولا غيرها، ولو كانت علاقة روسيا بالنظام السوري تبدو عميقة إلا أنها مجرد علاقة مصالح أكثر منها علاقة نفوذ مع وجود شيء من هذا، لذلك كان مفتاح السيطرة والضغط على النظام ومفتاح الحل في سورية هي إيران.
وهنا يبدو واضحًا كلمة أحد الكُتّاب "السياسة سوقٌ وسيركٌ وغابة"، كل شيء متوقع، حتى التحالف الأمريكي الإيراني.
تَشِيع بين الأمريكان عامة وبين الساسة على وجه الخصوص عبارة تؤكد إمكانية التعامل مع كل أمرٍ واقع، وهي تقول: "سنفكر كيف نعبر ذلك الجسر عندما نصل إليه، لكن علينا أن نأخذهم إلى الجسر قبل ذلك".

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟