المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
السيد يسين
السيد يسين

صراع المركزيات الثقافية

الأحد 08/فبراير/2015 - 08:18 ص

كيف يمكن إجراء تحليل ثقافي معمق للهجوم الإرهابي على مجلة «شارلي إيبدو» من زاوية الفعل ورد الفعل؟

السياسة التحريرية للمجلة - والتي عبّر عنها أحد المسؤولين عن تحريرها - تتمثل في الإساءة الى الأديان. ويرى المسؤولون عن تحرير المجلة أن هذا التوجه الصحافي من حقهم لأنهم في ذلك يصدرون عن مبدأ مقدس في الثقافة الغربية وهو حرية التعبير. وبالتالي ليس من حق المسلمين أن يحتجوا على الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول لأنها – بكل بساطة - تدخل في مجال حرية التعبير.

غير أنه يقف مضاداً لهذا الموقف رد الفعل الإسلامي سواء أعلنه ساسة أو مثقفون أو صحافيون في رفض هذا المسلك الصحافي، لأن حرية التعبير المزعومة ليست مطلقة، وليس من بينها الإساءة إلى الأديان عموماً وإلى الإسلام خصوصاً.

هذا الصراع بين الموقفين ونعني الفعل ورد الفعل تبلور منذ سنوات طويلة وظهر جلياً في رد الفعل الإيراني العنيف ضد رواية سلمان رشدي «آيات شيطانية»، لأن الخميني أصدر فتوى بضرورة قتل هذا الروائي الذي أساء إلى الإسلام. ولعل هذه الفتوى كانت بداية الاتجاه العنيف في الرد على من يسيئون الى الإسلام عامدين متعمدين.

وإذا كان سلمان رشدي اكتفى بكتابة روايته التي أثارت غضب المسلمين في مختلف أرجاء العالم، إلا أن «شارلي إيبدو» تعمدت منذ سنوات نشر رسوم كاريكاتورية للرسول ولم تعبأ برد الفعل الإسلامي الغاضب، بل إن مجلات أخرى في عدد من البلاد الأوروبية مثل ألمانيا والدنمارك تمادت حين أعادت نشر الرسوم التي ظهرت في مجلة «شارلي إيبدو»، مما مثل في ذهن المسلمين أنها حملة سخرية موجهة ضد الإسلام والمسلمين.

ومن هنا قررت الجماعات الجهادية الإسلامية المتطرفة أن الرد على مجلة «شارلي إيبدو» - وخصوصاً إصرارها على نشر رسوم كاريكاتورية للرسول- لا بد أن يكون باستخدام العنف والذي تمثل في الحادث الإرهابي باقتحام مقر المجلة. والتصفية الجسدية لأحد عشر صحافياً وإدارياً.

ولو حاولنا التقييم العلمي للفعل متمثلاً في مناهج «شارلي إيبدو» في السخرية الدائمة من الرسول، ولرد فعل جماعات إسلامية متطرفة في قتل من يقومون بنشر الرسوم الكاريكاتورية للرسول فمعنى ذلك أن هناك صراعاً بالغ الحدة والعنف بين الطرفين.

ولا يمكن فهم منطق المسؤولين عن مجلة «شارلي إيبدو» وخصوصاً تذرعهم بمبدأ حرية التعبير المطلقة إلا أنه تعبير عن نزعة «المركزية الغربية» التي تبلورت في الغرب منذ عشرات السنين، والتي يتمثل جوهرها في الزعم بسمو الحضارة الغربية من ناحية، والنظرة الدونية الى الحضارات الأخرى ومن بينها الحضارة الإسلامية باعتبارها بدائية ومتخلفة.

وقد أوجزنا في مقالنا الماضي تشخيصنا الثقافي لهذا الصراع الذي تحول من مجال الجدل الفكري إلى ميدان الاغتيال بأنه في الواقع صراع بين مركزيتين ثقافيتين: المركزية الغربية من ناحية، والمركزية الإسلامية من ناحية أخرى، وقد سبق لنا في إطار دراساتنا عن صراع الحضارات وحوار الثقافات أن حددنا ملامح «المركزية الغربية» وذلك في كتابنا «حوار الحضارات: تفاعل الغرب الكوني مع الشرق المتفرد» الذي نشرته في القاهرة دار «ميريت» عام 2005.

وقد اعتمدنا أساساً في رسم ملامح المركزية الغربية على كتاب رائد للناقد الأدبي والمفكر العراقي المعروف الدكتور عبدالله إبراهيم وعنوانه «المركزية الغربية: إشكالية التكون والتمركز حول الذات».

وقد طور الدكتور عبدالله إبراهيم أطروحاته في هذا المجال في كتاب بالغ الأهمية يعبر عن مشروعه الفكري الأساسي وعنوانه «المطابقة والاختلاف: بحث في نقد المركزيات الثقافية»، الذي نشرته «المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2004».

والإسهام البارز لهذا الكتاب أنه لم يقنع فقط بتعمق البحث في مفهوم وتجليات المركزية الغربية، ولكنه لأول مرة عرض عرضاً منهجياً لما يطلق عليه المركزية الإسلامية.

ولو أردنا المقارنة بين المركزيتين لقلنا أن المركزية الغربية تتبنى نظرة استعلائية للذات، في زعمها أن الغرب هو المرجع الأساسي في توضيح الفروق بين التقدم والتخلف، بمعنى اعتبار الحضارة الغربية متقدمة والحضارات غير الغربية متخلفة، في حين أن المركزية الإسلامية تتبنى على العكس مفهوماً مضاداً يذهب إلى أن الإسلام هو الذي يمثل التقدم، في حين أنه يتبنى نظرة دونية للغرب تحولت مع الزمن إلى نظرة عدائية.

والمركزية الغربية التي يشار إليها عادة بالمركزية الأوروبية تعني ببساطة أن الغرب وفي قلبه أوروبا هي مركز العالم، والمنتج الأوحد للقيم الإنسانية، والحكم المطلق في وضع وتقنين معايير التقدم والتخلف، والمرجع الأوحد في تسجيل انتقال شعب ما أو ثقافة محددة من البربرية والهمجية إلى المدنية.

وتطور هذا المفهوم من خلال الممارسة والنظرة الدونية الى الحضارات غير الغربية، بحيث عبّر عن نفسه في الزعم بأن الغرب هو المشرّع الأخلاقي العالمي. ومن هنا زعم مجلة «شارلي إيبدو» أن سياستهم التحريرية تعبّر عن حرية التعبير. والواقع أن «المركزية الأوروبية» تقوم على مجموعة من الأساطير التي صيغت بشكل فكري محكم. ولعل أشهر هذه الأساطير قاطبة الادعاء بأن الحضارة الغربية تتسم بانحدارها من الحضارة اليونانية بالإضافة إلى تأثرها بالحضارة الرومانية، وهي في هذه المسيرة الطويلة لم تتأثر على وجه الإطلاق بأي حضارات أخرى.

وقد تكفل المؤرخ الأميركي مارتن برنال في كتابه الشهير «أثينا السوداء» بالتكذيب المنهجي لهذه الأسطورة الغربية، وأثبت تأثر الحضارة اليونانية بالحضارة المصرية القديمة. وقد شارك في نقد المركزية الأوروبية العديد من المفكرين من أبرزهم الدكتور سمير أمين وروجيه جارودي وعالم الأنثروبولوجيا الفرنسي الشهير كلود ليفي شتراوس.

ولعل العنوان الفرعي لكتابنا الذي أشرنا إليه في صدر المقال وهو «الغرب الكوني» يلخص بشكل وجيز الدعاوى الرئيسية للمركزية الأوروبية، في حين يلخص باقي العنوان وهو «الشرق المتفرد» جوهر المركزية الإسلامية التي تتبنى نظرة استعلائية للذات ودونية للآخر الغربي.

وقد أبدع الدكتور عبدالله إبراهيم في تأصيل مفهوم المركزية الإسلامية وخصوصاً في الانتقال من مفهوم «دار الإسلام ودار الحرب» الذي ساد قروناً طويلة وخصوصاً في ظل الإمبراطورية الإسلامية، إلى مفهوم «العالم الإسلامي» والذي ذاع بعد انحسار هذه الإمبراطورية. وإن كان هذا المفهوم الأخير يحوطه الكثير من الغموض بحكم تعدد الأصول العرقية وتنوع الثقافات فيما يسمى بالعالم الإسلامي.

وفي تقديرنا أن «المركزية الإسلامية» قامت أساساً بناء على التوجيه القرآني «كنتم خير أمة أخرجت للناس».

ولو وقف مفهوم الذات الإسلامية عند حدود إبراز تفوق المسلمين على غيرهم لهان الأمر، إلا أنه في العقود الأخيرة - وبعد أن اتسعت دوائر ما أطلق عليه «الإرهاب الإسلامي» - حاولت بعض الجماعات الجهادية الإرهابية مثل جماعة «الجهاد» في مصر و»الجماعة الإسلامية» تأصيل سلوكها الإرهابي استناداً إلى فهم يقوم على القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للآيات القرآنية مفاده – كما عبّر عن ذلك أحد القادة الإرهابيين المصريين واسمه الدكتور فضل في كتابه «العمدة في إعداد العدة» - أنه بعد البعثة المحمدية فانه يحق قتل من لم يدخلوا طواعية في الإسلام، سواء كانوا في الداخل- ويقصد داخل البلاد العربية والإسلامية - أو كانوا في الخارج ويقصد الغربيين وغيرهم.

وهكذا يمكن القول إنه لا يمكن فهم الفعل الغربي من ناحية، ورد الفعل الإسلامي الإرهابي من ناحية أخرى، إلا بكونه صراعاً بين المركزية الغربية من ناحية، والمركزية الإسلامية من ناحية أخرى!

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟