المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ جلال أمين
د‏.‏ جلال أمين

ماذا حدث للقومية العربية؟

الإثنين 21/يوليو/2014 - 10:42 ص

كان ذلك منذ أكثر من ستين عاما، عندما قرأت بعض كتابات ذلك الكاتب القومى العظيم ساطع الحصري، مما أذكره مما كتبه فى ذلك الوقت تصويره لأحد كتبه، إذ ذكر انه فى إجابته على سؤال وجه إليه: «لماذا هزم العرب فى حرب فلسطين، رغم انهم كانوا يحاربون بجيوش ست دول، ضد جيش واحد، قال إن هذا هو بالضبط سبب الهزيمة: انهم كانوا يحاربون بستة جيوش تنتمى إلى ستة دول، وليس بجيش واحد لدولة واحدة.

كان ايمان هذا الكاتب السورى بالقومية العربية وبضرورة الوحدة إيمانا لا يداخله أى شك، و مدعوما بحجج قوية سياسية واقتصادية وثقافية وتاريخية، فترك فينا أثرا قويا فى مطلع شبابنا، ولكنى لابد أن أعترف بأنى اكتشفت فى ذلك الوقت أيضا كيف كان ايمان المصريين بالقومية العربية والوحدة، أضعف كثيرا من ايمان سائر بلاد المشرق العربي، من فلسطين الى العراق.

ففى سنة 1953، وكنت طالبا فى كلية الحقوق، نظمت الكلية رحلة الى لبنان وسوريا، فرأيت هذين البلدين لأول مرة، وقابلت شبابا فى مثل سني، لبنانيين وسوريين، فدهشت كيف كان شعورهم قويا بأننا ننتمى جميعا إلى أمة واحدة، وكيف تسودهم الثقة بأن الوحدة العربية قادمة لا محالة، وان المشكلة هى فقط وجود عقبات صغيرة سرعان ما نستطيع التغلب عليها فنكون دولة واحدة.

دهشت أيضا وسررت بشدة إذ رأيت هؤلاء الفتية فى مطلع الشباب يعرفون الكتاب والأدباء المصريين المشهورين معرفة جيدة تفوق معرفة كثير من الشباب المصرى بهم، وقد تكررت ملاحظتى لهذه الظاهرة على مر السنين كلما زرت بلدا عربيا جديدا، لم يكن غريبا إذن انه عندما أعلن جمال عبد الناصر فى منتصف الخمسينيات، عن ايمانه بالقومية العربية والوحدة، كان لهذا مفعول السحر فى بلاد المشرق العربى على الأخص، ولابد أن أعترف أيضا بأن استجابة المصريين لهذه الدعوة من جانب عبد الناصر كانت أقل قوة منها فى معظم البلاد العربية الأخري، ولم أستغرب قط أن أسمع أن شعبية عبد الناصر أكبر فى هذه البلاد منها فى مصر.

ليس من الصعب تفسير هذا الفرق، ولكن ليس هذا موضوعى الآن، وأنا أريد أن أتتبع ما حدث لفكرة القومية العربية والدعوة الى الوحدة خلال الستين عاما الماضية وأن أحاول تفسير الصعود المدهش لهذه الفكرة ثم تدهورها المدهش أيضا، حتى وصلنا الى هذه الدرجة من الضعف فى استجابتنا لما يحدث الان فى سوريا أو العراق أو غزة، من أحداث يشيب لها الولدان.

هل يكفى حقا ان نفسر ما حدث من تدهور فى الايمان بالقومية العربية بهزيمة العرب العسكرية فى 1967؟ لقد مر على هذه الهزيمة أكثر من أربعين عاما، فهل كان من المستحيل أن يسترد العرب وعيهم، ويعودوا الى إدراك أن ما يجمعهم أهم مما يفرقهم، وانه لا مستقبل يرجى لهم فى الحقيقة، الا بمواجهة العالم ككتلة واحدة؟

لا ، لم تكن الهزيمة العسكرية لتكفى وحدها، كان هناك أيضا ما طرأ من تغيرات على السياسة المصرية لأسباب ليست الهزيمة العسكرية الا واحدا منها، كذلك كان هناك حلول عصر جديد، فى العالم ككل، هو عصر ازديار نفوذ الشركات الدولية العملاقة، بالمقارنة بسلطة الدولة القومية، وهذه الشركات تفضل التعامل مع وحدات سياسية صغيرة على التعامل مع دولة قوية، ناهيك عن دولة تجتمع لها عناصر القوة الاقتصادية لعدة بلاد عربية، ولكن هذا العصر الجديد اقترن ايضا بتطور مذهل فى منظومة القيم، وعلى الأخص فيما يتعلق بالأهمية النسبية لتحقيق الأهداف الاقتصادية (سواء للفرد الواحد أو للأمة) بالمقارنة بالأهداف السياسية أو الثقافية، لقد عملت هذه التطورات الثلاثة على تقويض فكرة القومية العربية والوحدة، كما يعمل السوس فى الخشب، فإذا بنا بعد خمسين عاما من اصابتنا بالحزن العميق لانفصال سوريا عن مصر فى 1961، ومحاولات مستميتة لإعادة هذه الوحدة الى الحياة، نسمع اليوم عن سقوط عشرات الألوف من السوريين فى معارك مع حكومتهم، وعن هجرة عشرات الألوف غيرهم، فنتلقى الأخبار وكأنها تحدث فى بلد بعيد لا تربطنا به صلة تذكر، فى جنوب شرق اسيا أو فى أمريكا اللاتينية، أما قيام فريق مجهول من الناس بإعلان ما يسمى بالجمهورية الإسلامية فى العراق والشام، وبتقتيل العراقيين وتدمير بعض من أعز وأجمل معالم الحضارة العربية، فنتلقى أيضا أخباره فى مصر (كما أظن انه يتلقى أيضا فى البلاد العربية الأخري) بمشاعر غريبة هى مزيج من الشعور بالعجز التام عن فهم ما يحدث، وانتظار حدوث الأسوأ منه فى اليوم التالي، مع تسليم تام بالعجز عن عمل أى شيء لمواجهة هذا أو ذاك.

كثيرا ما نصادف من يصف الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى بأنه «الزمن الجميل» ليس فقط من باب الحنين لنظام سياسى أو اقتصادى أفضل، ولكن أيضا ترحما على حالة انقضت من ازدهار الفن والثقافة أيضا، وأنا مثل كثيرين أعتبر ازدهار فكرة القومية العربية والأمل فى تحقيق الوحدة العربية من معالم هذا «الزمن الجميل» الذى انقضي. ذلك ان الايمان بهذه الفكرة والثقة فى امكانية تحقيقها كان من مظاهر مستوى عال من التفاؤل والطموح، ومن توحد الاجراءات والشعارات السياسية التى تتخذها أو ترفعها القيادة السياسية (ولو لفترة قصيرة من الزمن) مع مشاعر الناس.

ولكن كثيرين يظنون خطأ ان ذلك الزمن كان جميلا لأننا كنا سعداء الحظ بنوع الأشخاص الذين تصادف ان تولوا حكمنا فى غفلة من الزمن، الحقيقة فى رأيى ان ذلك الزمن الجميل، هو الذى سمح بمجيء هؤلاء الأشخاص ليتولوا حكمنا (بل وأحيانا فرض على أشخاص عاديين ان يقوموا بأعمال عظيمة، كما أن هؤلاء الأشخاص لم يتولوا حكمنا فى غفلة من الزمن، بل جاءوا فى ظل وعى كامل، من الزمن أو التاريخ. وليس بالضرورة بوعى كامل منهم. ثم دخل العالم كله (ولسنا نحن فقط) فى نصف قرن جديد مدهش فى قبحه إذا غفر لى القارئ استخدام هذا اللفظ القوي، نعم قد يستغرب البعض ان توصف الخمسون عاما الماضية بهذا الوصف، وهى التى شهدت تقدما تكنولوجيا مذهلا فى مختلف جوانب الحياة،الأمثلة على التدهور فى نوعية الحياة كثيرة، ومعظمها مرتبطه ارتباطا وثيقا بالتقدم التكنولوجي، وليس من الصعب ان نفهم لماذا رضخنا بهذه السهولة لمتطلبات التكنولوجيا الحديثة، إذ ان الانسان فيما يبدو ضعيف جدا امام كل ما يجلب له مزيدا من الراحة ولو على حساب كل شيء آخر.

إنى اعتبر ـ من قبيل هذا التدهور فى نوعية الحياة ـ هذا التدهور الذى طرأ على الشعور القومي، وعلى الايمان بالقومية العربية وبضرورة الوحدة، لقد مكن التقدم التكنولوجى الحديث الشركات العملاقة من ان تزداد نموا ونفوذا، وجعل للاعتبارات الاقتصادية الغلبة على أى اعتبارات اخرى فى سلوك الدول والأفراد على السواء، مما وجه ضربات قوية لأفكار ودعوات نبيلة لا تدعمها قوة اقتصادية أو تكنولوجية ومنها فكرة القومية العربية.

ومع كل هذا فلا موجب فى رأيى لأن نستسلم لليأس من إمكان حدوث صحوة حديثة لفكرة القومية العربية والوحدة ، وأرجو أن أستطيع ان ابين ذلك فى مقال تال. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟