حقاً
لا أحد يعرف ما الذي تريده إسرائيل من الفلسطينيين، بالضبط، بعد كل ما قدمته
قيادتهم من أجل التسوية والتعايش معها، ذلك أن مواقف اسرائيل وتصرفاتها تؤكد أن
أقل ما تريده للفلسطينيين هو الغياب، إذ إن مجرّد وجودهم ينغّص عيشها، ويضعها
باستمرار إزاء حقيقتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية قامت على حسابهم.
أقله
الغياب إذاً، فهذا ما ظلت إسرائيل تحاوله، منذ أكثر من ستة عقود، حتى أن قادتها
تمنّوا لو أن غزة يبتلعها البحر، لكن الفلسطينيين العنيدين يرفضون الخروج من
المكان والزمان، وهم يثبتون دوماً حضورهم، على رغم محاولاتها «أسرلتهم» في فلسطين
المغتصبة (1948)، ومساعيها تهميشهم في الأراضي المحتلة (1967)، وعلى رغم واقع
النفي والتمزّق في بلدان اللجوء والشتات.
بعد
إطلاقهم الكفاح المسلح، مع هدف التحرير، جرّب الفلسطينيون طرقاً عدة لفرض حقيقتهم،
واستعادة حقوقهم، ولو بشكل نسبي، فتحولوا نحو انتهاج طريق التسوية والديبلوماسية،
والتماهي مع النظام الدولي، وتبنّي قرارات الشرعية الدولية، منذ أربعين عاماً
(1974)، لكن ذلك كله لم يفلح البتّة مع إسرائيل. وكانت القيادة الفلسطينية انتقلت،
أيضاً، من هدف التحرير إلى هدف الدولة الديموقراطية ـ العلمانية، التي يتعايش فيها
الجميع في فلسطين/إسرائيل، كمواطنين متساويين، من دون تمييز بسبب الدين، ثم إلى
هدف الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، لكن إسرائيل ظلت على مواقفها لا تتزحزح،
مصرّة على أن هذه «أرض الميعاد» التي منحها «رب» إسرائيل لشعبه المختار!
هكذا،
فمنذ عشرين عاماً دخلت القيادة الفلسطينية في مغامرة أخرى تمثّلت بالانخراط في
مفاوضات ثنائية مع إسرائيل، من دون أي مرجعية قانونية أو دولية، تمخّضت عن عقد
اتفاق اوسلو (1993)، بسقف أقل انخفاضاً من الذي قررته الشرعية الدولية، بشأن
الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني. ومعلوم أن ذلك تضمّن التنازل عن 77 في
المئة من أرض فلسطين، وعن حق العودة للاجئين، باعتباره غير قابل للتفاوض، وعن
تجاهل مشكلة الاستيطان، وهو اتفاق ما كان يمكن أن يمرّ لولا المكانة الرمزية
والكفاحية التي احتلها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بين شعبه، ولولا الضغوط
والظروف العربية والدولية، آنذاك.
بيد
أن ذلك كله لم يرض جشع إسرائيل وغطرستها إذ أطاحت هذا الاتفاق، على رغم اجحافه
بحقوق الفلسطينيين، وها هي بعد عشرين عاماً ما زالت تقضم من أراضي الضفة الغربية،
بالمصادرة والاستيطان والجدار الفاصل والطرق الالتفافية العنصرية. بل إن إسرائيل
هذه رفضت حتى «المبادرة العربية للسلام»، التي طرحها الملوك والرؤساء العرب في
مؤتمر «قمة بيروت» (2002)، على رغم أنها تأسست على «السلام مقابل التطبيع»، وحتى
أنها صدّت مطالب الإدارة الاميركية المتعلقة بوقف موقت وجزئي للاستيطان، في سبيل
تمرير مساعي التسوية.
وكما
شهدنا، فإن إسرائيل لم تكتف بكل ذلك، فهي بعد رحيل ياسر عرفات، وفي مرحلة الرئيس
«المعتدل» محمود عباس، بالذات، قتلت أكثر من أربعة آلاف من الفلسطينيين (في الفترة
من 2005 حتى آخر ايار/مايو 2014)، في عمليات اعتداء ارتكبتها في الضفة وغزة، نجمت
عنها، أيضاً، إصابة حوالى 16 ألفاً بجروح، مع اعتقالها عشرات الألوف منهم، ضمنهم
ستة آلاف ما زالوا رهن المعتقلات الإسرائيلية، من دون محاكمات عادلة، ومن دون اي
ذنب.
اللافت
أن كل ذلك جرى على رغم أن إسرائيل حظيت في تلك الفترة بتسعة أعوام من التهدئة،
جعلت منها حالة نموذجية لواقع احتلال مريح ومربح. فقد باتت للفلسطينيين قيادة
«معتدلة»، تتبنى نهج التعايش مع اسرائيل، وتعتبر أن الخيار الوحيد لها هو
المفاوضات، وثمة علاقات تنسيق امني، وهو وضع لم يحظ به أي احتلال، او اي حالة
استعمارية، في التاريخ. ففي تلك الفترة، ومع وقف المقاومة في الضفة وغزة، بلغت
خسائر إسرائيل البشرية حدها الأدنى (190 إسرائيلياً)، أي بمعدل أقل من اسرائيليين
اثنين في الشهر، وهذا لا يعد شيئاً بالنسبة الى دولة محتلة، وتسيطر مع عصابات
مستوطنيها على شعب آخر بالقوة. وإذا احتسبنا نسبة الخسائر الإسرائيلية لتلك
الفلسطينية فهي تساوي إسرائيلياً واحداً مقابل كل 21 فلسطينياً.
في
غضون ذلك، فقد كانت لقطاع غزة حصة كبيرة من الأعمال العدوانية الإسرائيلية، فإلى
جانب الحصار المشدد والمهين، الذي يعاني منه مليونا فلسطيني غزّي، منذ سبعة أعوام،
هذه هي الحرب الثالثة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة. وكانت الحرب استمرت 21
يوماً (من أواخر العام 2008)، ونجم عنها مصرع حوالى 1400 فلسطيني، مقابل 9
اسرائيليين، بنسبة اسرائيلي واحد مقابل 150 من الفلسطينيين. أما الحرب الثانية (اواخر
2012)، واستمرت اسبوعاً، فقد نجم عنها مصرع 191 فلسطيني، مقابل ستة جنود
إسرائيليين، بنسبة اسرائيلي واحد إلى 31 من الفلسطينيين. ولا يبدو أن الأمر سيتغير
كثيراً في الحرب الثالثة التي تشنّها إسرائيل هذه الأيام على غزة، ففي 11 يوماً
لقي أكثر من 500 فلسطيني مصرعهم بصواريخ المدفعية والبوارج الحربية والطائرات، في
حين ثمة حديث عن مصرع بضعة اسرائيليين لا يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة.
وخلال
العقدين الماضيين تعمّدت إسرائيل، في حروبها واعتداءاتها المتواصلة على
الفلسطينيين في الضفة وغزة، تدمير ممتلكاتهم وبيوتهم وبناهم التحتية، ومنشآتهم
العامة، من خلال استهدافها المتعمد لها بقذائفها الصاروخية، مبددة في ذلك بلايين
الدولارات، التي كان خصصها الاتحاد الاوروبي لإقامة هياكل الدولة الفلسطينية
وانعاش الواقع الاقتصادي والتنمية في الاراضي المحتلة، لدفع عملية السلام بين الفلسطينيين
والإسرائيليين.
لذا،
وفي ما يخصّ تحليل علاقة الفلسطينيين بالإسرائيليين، لا يحتاج الأمر إلى كثير تأمل
أو إلى عناء تفكير، فربما لم ينجح الفلسطينيون تماماً في عرض قضيتهم، وربما ان ثمة
خطأ ما أو تخلّفاً ما في إدارتهم لأحوالهم ولكفاحهم، لكن ذلك كله لا يحجب حقيقة
أساسية مفادها أن إقامة اسرائيل الاستعمارية والاستيطانية والطائفية والعنصرية في
هذه المنطقة، وعلى حساب الفلسطينيين، هي الجريمة والمعضلة التي أسست لما بعدها من
تداعيات. كما لا يحجب ذلك حقيقة أن إسرائيل هي الطرف الظالم والمعتدي، كونها قامت
على الاغتصاب والاحتلال، وكونها هي التي تملك القدرة على الحرب والقتل والتدمير،
وأن الفلسطينيين هم ضحايا كل ذلك، فهم الشعب المستعمَر، وهم المحرومون من حقوقهم،
والذين يكابدون الاضطهاد والظلم، منذ أكثر من ستة عقود.
الى
ذلك، من المثير متابعة محاولات إسرائيل تزييف الواقع، وتشويه الحقائق، وقلبها
رأساً على عقب، بتصويرها الفلسطينيين كمعتدين، في الحرب الإجرامية التي تشنّها على
غزة، وإظهار ذاتها كضحية بريئة. أو تلك التي ترمي إلى لوم الفلسطينيين على المجازر
البشعة التي ترتكبها اسرائيل بحقهم، في استباحتها حياة الاطفال والأبرياء وتدمير
الممتلكات، ذلك أن لوم الضحية من موروثات العقلية الاستعمارية، التي تنطوي على
نظرة عنصرية ودونية للشعب المستعمَر، ولا تلقي بالاً لحقّه في الحياة والكرامة،
مقابل اعلائها قيمة مستوطنيها ومجنديها، الذين يستبيحون هذا الشعب من دون قيود
قانونية أو معايير اخلاقية.
المشكلة
أن إسرائيل هذه تتعمّد استخدام القوة المفرطة في مواجهة الفلسطينيين، لردعهم،
بانتهاجها ما تسميه بسياسة «كيّ الوعي»، التي تتضمن إلحاق اكبر ضرر بهم، لإجبارهم
ليس فقط على القبول بها، وبإملاءاتها السياسية، وإنما الرضوخ أيضاً لما تعتبره
حقها «الأخلاقي» في إلغائهم، أو تغييبهم، وضمن ذلك تحميلهم تبعة وحشيتها ضدهم،
بادعاء أن تصرفاتهم، أي مقاومتهم، هي التي تؤدي إلى تشويهها اخلاقياً!
فعلاً
ثمة شيء لا يصدّق، فبغض النظر عن الموقف من تقديمات القيادة الفلسطينية للتسوية،
طوال أربعة عقود، ولا سيما طوال العقد الماضي (عهد الرئيس أبو مازن)، فإن مواقف
إسرائيل إزاء الفلسطينيين، وطريقة معاملتها لهم، تبدو مثيرة للدهشة، ومخالفة
للمنطق. والحال فلا يمكن تفسير صدّ إسرائيل المقاربات الفلسطينية للتسوية،
والتعايش معها، سوى بلا عقلانيتها، وغطرستها، وانتمائها الى الماضي، وتغذيها من
الأسطورة الخرافية - الدينية، بشأن «شعب الله المختار» و «أرض الميعاد».
فأية
عقلانية يمكن أن تقبل بالاحتلال والاضطهاد والتمييز العنصري عن طواعية؟ أو يمكن ان
تهضم فكرة الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، أي طائفية ودينية، في القرن 21؟ ثم ما
هي العقلانية التي يمكن أن تقنع شعباً ما بالغياب؟ ويبدو من كل ما يحصل أن
اللاعقلانية الإسرائيلية تحتاج إلى لا عقلانية على شاكلتها لمواجهتها ووضعها عند
حدّها. نقلا عن الحياة
*
كاتب فلسطيني