ثمة
أمران يطرحهما العدوان الإسرائيلى الثالث على غزة فى السابع من يوليو عام 2014، فى
غضون ما يقرب من السنوات الخمس، وهما
إعادة طرح القضية الفلسطينية مجدداً وتوضيح أبعادها بعد خلط الأوراق فى الحرب
الإعلامية التى رافقت هذا العدوان الثالث وقد لا يكون الأخير، على غزة، أما الأمر
الثانى فهو تقييم أولى لحصاد هذه المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية من زاوية أداء
المقاومة وإستراتيجيتها المقبلة.
فيما
يتعلق بالقضية الفلسطينية فإن محاولة اختزالها فى حركة حماس محاولة مغلوطة، ولا
تفضى إلى أى نتيجة بناءة، ذلك أن هذه القضية لم يرتبط وجودها بحماس، وهى قضية أكبر
من أى فصيل فلسطينى، فهى قضية شعب تعداده يقترب من الستة عشر مليون نسمة فى الداخل
والخارج، وهى قضية نجمت عن مشروع الوطن القومى لليهود الذى أريد له أن يستزرع على
أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، ومنذ ذلك التاريخ والمواجهة مستمرة ولم
تتوقف بين الشعب الفلسطينى وبين المشروع الصهيونى مجسداً فى دولة إسرائيل، أى منذ
ما يفوق القرن من الزمان، اختزال القضية الفلسطينية فى حماس تزييف للوعى، ومفارق
للواقع؛ حيث لحقت حماس بالقضية الفلسطينية منذ الإعلان عن تشكيلها إبان انتفاضة
الشعب الفلسطينى الأولى فى عام 1987، من الضرورى والواجب التفرقة بين وجه حماس
الإخوانى الذى يربطها بالإخوان المسلمين، وبين وجه حماس الوطنى الذى يدرجها ضمن
حركة التحرر الفلسطينى والمشروع الوطنى الفلسطينى، وإذا كانت حماس لم تنجح فى
التوفيق والتوازن بين هذين الجناحين والمكونين فى بنيتها وتوجهاتها، بحيث لا يطغى
وجهها الإسلامى على وجهها الوطنى، فإن مصر وسياساتها لابد أن تميز وبدقة بين هذين
البعدين فى تشكيل وتكوين حركة حماس وأن تتبنى السياسات والأساليب التى تناسب هذه
التفرقة وتعين الأشكال وأنماط العلاقات الممكنة على ضوء هذا التمييز.
فى
أبسط صور القضية الفلسطينية وأقلها تعقيداً، وبعيداً عن التفاصيل والوقائع
التاريخية، فإن هذه القضية والتى لا تزال حتى الآن قضية العرب المركزية على الأقل
فى الخطاب الرسمى، تشمل مكونات ثلاثة لا ينفصل أحدها عن الآخر، أولها المكون
الفلسطينى الوطنى أى الشعب الفلسطينى وقواه السياسية والوطنية ورصيده الرمزى
والتاريخى والحضارى، وثانيها المكون العربى والإسلامى والذى يتمثل فى الدول
العربية والإسلامية ويعتبر الشعب الفلسطينى جزءاً من بنيتها الحضارية والثقافية
والدينية، ونظراً لأن فلسطين تضم الرموز والمقدسات الدينية للمسلمين والمسيحيين
على السواء، أما ثالثها فهو المكون الدولى ويتعلق بالدور الذى لعبته وتلعبه القوى
الكبرى فى البدايات والمسارات المختلفة لنشأة الصراع العربى الإسرائيلى، حيث كان
هذا الدور حاضراً منذ بداية الصراع وعبر محطاته الفاصلة.
هذه
المكونات والأبعاد فى تشكيل وتركيب القضية الفلسطينية تفرض نفسها لدى تقييم حصاد
المواجهات الإسرائيلية العربية، ففى معظم هذه المواجهات باستثناء حرب 1973 كان ثمة
قصور فى الواقع العربى ومعطيات الموقف الدولى لصالح الجانب الإسرائيلى، ولم يحظ
الموقف الفلسطينى بالدعم الذى يتناسب مع شروط المواجهة وآلياتها.
ويترتب
على ذلك تقييم حصاد العدوان والمواجهة الإسرائيلية الفلسطينية الراهنة وفقاً لتداخل
هذه المكونات وتعاطيها مع معطيات وشروط المواجهة؛ وبعيداً عن لغة الانتصار وأفول
إسرائيل وتوقع انهيارها بحكم نشأتها وتاريخها كحركة استعمارية استيطانية احلالية،
بل آخر هذه الأشكال الاستعمارية فى القرن الحادى والعشرين، فإن المؤكد أن المقاومة
الفلسطينية عامة وحماس فى مقدمتها قد أبلت بلاء حسناً فى مواجهة هذا العدوان
الثالث على غزة، نجحت المقاومة الفلسطينية فى تقليص فجوة الخسائر بين الجانب
الإسرائيلى المعتدى والجانب الفلسطينى المعتدى عليه وذلك مقارنة بعدوان عام 2009
وعدوان عام 2012، كما نجحت المقاومة الفلسطينية أيضاً فى إفشال هدف العدوان أى
تقليص قدرة المقاومة على إطلاق الصواريخ وإزعاج سكان بعض المدن الإسرائيلية وذلك
بصرف النظر عن القيمة العملية والاستراتيجية لهذه الصواريخ، وأخيراً وليس آخرا
نجحت المقاومة الفلسطينية فى رفع كلفة الاحتلال والحصار الإسرائيلى، وكذلك وضعت
إسرائيل فى خانة الجلاد والسجان ونزعت عنها صفة الضحية الأولى التى شغلتها منذ
البدايات.
ومع
ذلك ورغم هذه التطورات النوعية فإن من الصعب القول بأن مثل هذه التطورات تمثل
هزيمة كلية أو جزئية لإسرائيل أو أنها تستطيع أن تفرض حلا سياسياً يلبى تطلعات
الشعب الفلسطينى، فى تسوية عادلة ومنصفة؛ وذلك بسبب أن معطيات الموقف العربى ضعيفة
ومترددة ومرتبكة نظراً للصراع الدائر أو الصراعات الداخلية الدائرة فى معظم وأهم
الدول العربية وخاصة دول المشرق العربى، لم يرق الموقف العربى إلى مستوى المواجهة
الراهنة، بل تميز بالتردى والانعزال والصمت، وكذلك من ناحية أخرى فإنه ورغم خسارة
إسرائيل لمعركة الصورة ومكانة الضحية الأولى، فإن التعاطف الغربى معها على الصعيد
الرسمى لم ينتابه أى تغير، خاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية التى سارعت
بالسماح لإسرائيل باستخدام مخزون الذخيرة الاستراتيجية، وتقديم دعم بـ 225 مليون
دولار لمنظومة القبة الجديدة، لمواجهة صواريخ المقاومة،حتى المؤسسات الدولية ورغم
الإدانة والشجب للعدوان وقتل المدنيين ورغم تقدم الأسس المبدئية والنظرية للعدالة
الدولية، لم تتقدم خطوة واحدة لمحاكمة مجرمى الحرب الإسرائيليين وعقابهم، باختصار
لم يتزعزع الاستثناء الذى حظت وتحظى به إسرائيل فى تعامل المجتمع الدولى معها،
وتعامل القوى الكبرى وتوفير غطاء سياسى لها يحول دون دفع ثمن جرائمها وعدوانها.
لكل
هذه الأسباب فإن انتصار المقاومة يعنى فى المقام الأول استمرارها بنحو أو بآخر،
وأن تظل شعلتها مضيئة، وأن تفوت على المعتدى استدراجها للقضاء عليها وأن تتمكن من
إعادة ترتيب صفوفها وحساباتها، على نحو يأخذ فى اعتباره معاناة الشعب وطاقته على
التحمل وحماية المدنيين من بطش المعتدى، وذلك لن يتأتى إلا عبر حسابات دقيقة
تستوعب طبيعة التعقد الكامن فى الموقف وطبيعة توازنات القوى فى اللحظة الراهنة،
وذلك لا يعنى الرضوخ وقبول الأمر الواقع، فكل المقاومات الناجحة نشأت فى ظروف تتسم
بافتقاد توازن القوى، بل يعنى حساب الخطوات وردود الأفعال والتحلى بسياسة النفس
الطويل، وعدم تعجل جنى الثمار وإدراك جوانب القوة لدى المقاومة، وتعظيمها، والتى
تتمثل فى الإيمان بعدالة القضية التى تدافع عنها بعكس الاحتلال والمحتل والمعتدى
وبالحرية التى تتطلع إليها للشعب الفسطينى. نقلا عن الأهرام